من كتاب الوسطية في القرآن الكريم:
(وسطيَّة القرآن في حِلِّ طعام أهل الكتاب ونسائهم)
الحلقة: 77
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1442 ه/ فبراير 2021
نلحظ الوسطيَّة في التشريع في حِلِّ طعام أهل الكتاب، وجواز نكاح نسائهم. والوسطيَّة تبرز في موضوع الطعام، وموضوع النكاح من أهل الكتاب مما لا يحتاج إلى شرح، وسوف أبيِّن الحكمة من هذا التشريع.
قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}[المائدة: 5].
إنَّ أهل الكتاب أقربُ إلى المسلمين من الكافرين الملحدين؛ ولذلك شرع الإسلام معاشرتهم؛ حتى يعرفوا حقيقة الإسلام، وبالتخلق، والعمل يظهر لهم: أن ديننا هو عين دينهم مع مزيد بيان، وإصلاح يقتضيه ترقي البشر، وإزالة بدع وأوهام دخلت عليهم من باب الدين، وما هي من الدين في شيء، وأما المشركون؛ فلا صلة بين ديننا، ودينهم قطُّ، ولذلك دخل أهل الكتاب في الإسلام مختارين بعد ما انتشر بينهم، وعرفوا حقيقته، ولو قبلت الجزية من مشركي العرب كما قبلت من أهل الكتاب؛ لما دخلوا في الإسلام كافةً، ولما قامت لهذا الدين قائمة.
ومِنَ الحِكَم في إباحة التزوج بأهل الكتاب، وجواز أكل طعامهم إزالة الجفوة التي تحجبهم عن محاسن الإسلام بإظهار محاسنه لهم بالمعاملة، فينبغي لكل مسلم يريد الزواج منهم أن يكون مُظْهراً لهذه الحكمة، وسالكاً سبيلها، وذلك بأن يكون قدوةً صالحةً لامرأته ولأهلها في الصلاح، والتقوى، ومكارم الأخلاق، فإن من لم ير نفسه أهلاً لذلك فلا يقدم عليه.
ويقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ في ظلال القرآن : (وهنا نطَّلع على صفحة من صفحات السماحة الإسلامية في التعامل مع غير المسلمين، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي (في دار السلام) أو تربطهم به روابط الذمة، والعهد من أهل الكتاب).
إن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية، ثم يعتزلهم، فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مَجْفوين معزولين ـ أو منبوذين ـ إنما يشملهم بشيءٍ من المشاركة الاجتماعية، والمجاملة، والخلطة، فيجعل طعامهم حِلاًّ للمسلمين، وطعام المسلمين حِلاًّ لهم كذلك؛ ليتم التزاور، والتضايف، والمؤاكلة، والمشاربة.
وكذلك يجعل العفيفات من نسائهم ـ وهنَّ المحصنات ـ بمعنى العفيفات الحرائر طيباتٍ للمسلمين، ويقرن ذكرهنَّ بذكر الحرائر العفيفات من المسلمات، وهي سماحة لم يشعر بها إلا أتباع الإسلام من بين سائر أتباع الديانات، والنحل، فإن الكاثوليكي المسيحي ليتحرج من نكاح الأرثوذكسية، أو البروتستانتية، أو المارونية المسيحية، ولا يقدم على ذلك إلا المحللون عندهم من العقيدة! وشرط حِلِّ المحصنات هو شرط المحصنات المؤمنات {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}.
ذلك أن تؤدى المهور بقصد النكاح الشرعي؛ الذي يحصن به الرجل امرأته، ويصونها، لا أن يكون هذا المال طريقاً إلى السفاح، أو المخادنة...
والسفاح هو أن تكون المرأة لأيِّ رجل، والمخادنة أن تكون المرأة لخدينٍ خاص بغير زواج... وهذا وذاك كانا معروفين في الجاهلية العربية، ومعترفاً بهما في المجتمع الجاهلي قبل ظهور الإسلام.
وهكذا يتضح لنا وسطيَّة القرآن في التشريع في كلياته، وجزئياته، ولا يخلو أيُّ تشريع في القرآن الكريم من ملامح الوسطيَّة من حكمة، أو استقامة، أو اعتدال، أو عدل، أو هداية إلى الصراط المستقيم.
يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: