من كتاب الوسطية في القرآن الكريم:
(نظرة العلامة ابن القيِّم إلى حسن الخلق)
الحلقة: السابعة والستون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1442 ه/ يناير2021م
إن ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ تميز في كتابته عن غيره في باب الأخلاق والتزكية، واشتهر بقوة حجته ودليله في عرضه للمسائل، وله كلام نفيس جميل في حسن الخلق، فتكلَّم عن الأخلاق الأساسية التي استنبطها من القرآن الكريم، والسنة النبوية، وجعلها أركاناً لازمة لحسن الخلق، وبين: أن منشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأركان. فقال ـ رحمه الله ـ: (وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل.
فالصبر يحمله على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم، والأناة، والرفق، وعدم الطيش والعجلة.
والعفة تحمله على اجتناب الرذائل، والقبائح من القول والفعل، وتحمله على الحياء، وهو رأس كل خير، وتمنعه من الفحشاء، والبخل، والكذب، والغيبة، والنميمة.
والشجاعة تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس، وقوتها على إخراج المحبوب، ومفارقته، وتحمله على كظم الغيظ والحلم، فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، ويكبحها بلجامها عن النزع، والبطش، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».
وهو حقيقة الشجاعة، وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه.
والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط، فيحمله على خلق الجود، والسخاء الذي هو توسط بين خلقي البخل، والتبذير وعلى خلق التواضع الذي هو توسط بين الذل والمهانة، والكبر والاستعلاء، وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن، والتهور، وعلى خلق الحلم، الذي هو توسط بين الغضب، والمهانة وسقوط النفس. ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة).
ومن كلام ابن القيِّم يتضح لنا: أن التوسط أحد أركان أربعة يقوم عليه حسن الخلق، وهي الصبر، والعفة، والشجاعة، والتوسط. والتوسط عبَّر عنه ابن القيم بلفظ العدل الذي يحمل الإنسان على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط، وإنما كان للتوسط هذه المكانة الجليلة ؛ لأن كلَّ خُلُقٍ محمود مكتنفٌ بخلقين ذميمين، وهو وسط بينهما، وطرفاه خلقان ذميمان، كالجود: الذي يكتنفه خلقا البخل، والتبذير. والتواضع: الذي يكتنفه خلقا الذل، والمهانة، والكبر، والعلو فإن النفس متى انحرفت عن التوسط؛ انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولابدَّ، فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت إما إلى كبر وعلو، وإما إلى ذل ومهانة وحقارة. وإذا انحرفت عن خلق الحياء، انحرفت إما إلى قحَّة، وجرأة، وإما إلى عجز، وخور، ومهانة، بحيث يطمع في نفسه عدوه، ويفوته كثير من مصالحه، ويزعم: أن الحامل له على ذلك الحياء، وإنما هو المهانة، والعجز، وموت النفس.
وكذلك إذا انحرفت عن خلق الصبر المحمود؛ انحرفت إما إلى جزع، وهلع، وجشع، وتسخط، وإما إلى غلظة كبد، وقسوة قلب، وتحجر طبع. وإذا انحرفت عن خلق الحلم؛ انحرفت إما إلى الطيش، والترف، والحدَّة، والخفة، وإما إلى الذل، والمهانة، والحقارة، ففرق بين من حلمه حلم ذل، ومهانة، وحقارة، وعجز، وبين من حلمه حلم اقتدار، وعزة، وشرف، كما قيل:
كلُّ حلم أتى بغير اقتدارٍ حجَّةٌ لاجأئٌ إليها اللئام
وإذا انحرفت عن خلق الأناة والرفق؛ انحرفت إما إلى عجلة وطيش وعنف، وإما إلى تفريط وإضاعة، والرفق والأناة بينهما. وإذا انحرفت عن خلق الشجاعة؛ انحرفت إما إلى تهور وإقدام غير محمود، وإما إلى جبن وتأخر مذموم، وإذا انحرفت عن خلق المنافسة في المراتب العالية والغبطة؛ انحرفت إما إلى حسد، وإما إلى مهانة، وعجز وذل ورضا بالدُّون.
وإذا انحرفت عن القناعة؛ انحرفت إما إلى حرص وكلَب، وإما إلى خسة ومهانة وإضاعة، وإذا انحرفت عن خلق الرحمة؛ انحرفت إما إلى قسوة، وإما إلى ضعف قلب وجبن نفس، كمن لا يقدم على ذبح شاة، ولا إقامة حد، وتأديب ولد، ويزعم: أن الرحمة تحمله على ذلك، وقد ذبح أرحمُ الخلق صلى الله عليه وسلم بيده في موضع واحد ثلاثاً وستين بدنة، وقطع الأيدي من الرجال، والنساء، وضرب الأعناق، وأقام الحدود، ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم، وكان أرحم خلق الله على الإطلاق، وأرأفهم.
وكذلك طلاقة الوجه والبشر المحمود فإنه وسط بين التعبيس، والتقطيب، وتصعير الخد، وطيِّ البِشر عن البَشر، وبين الاسترسال بذلك مع كل أحد، بحيث يذهب الهيبة، ويزيل الوقار، ويطمع في الجانب، كما أن الانحراف الأول يوقع الوحشة والبغضة، والنفرة في قلوب الخلق.
وصاحب الخلق الوسط مهيبٌ محبوبٌ، عزيزٌ جانبه، حبيبٌ لقاؤه، وفي صفة نبينا صلى الله عليه وسلم: «من راه بديهة هابه، ومن خالطه عشرة أحبه».
يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: