من كتاب الوسطية في القرآن الكريم
(صفة الجنة)
الحلقة: الحادية والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1442 ه/ نوفمبر 2020
أولاً: الجنة لا مثل لها:
إنَّ نعيم الجنة شيء أعدَّه الله لعباده المتقين نابع من كرم الله وجوده وفضله، ووصف لنا المولى ـ عز وجل ـ شيئاً من نعيمها إلا أنه ما أخفاه الله عنا من نعيم شيءٌ عظيم لا تدركه العقول، ولا تصل إلى كنهه الأفكار. قال تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}[السجدة: 17].
وقد جاء في الصحيح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم:
وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى سبب هذا الجزاء بما وفقهم إليه من أعمال عظيمة من قيام ليل، وإنفاق في سبيله. قال تعالى:
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}[السجدة: 16 ـ 17].
ثانياً: أبواب الجنة:
وصف الله سبحانه وتعالى في كتابه الجنَّة بأن لها أبواباً يدخل منها المؤمنون، كما تدخل منها الملائكة. قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ *}[ص:50].
وقال تعالى:{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبى الدَّارِ *}[الرعد: 23 ـ 24].
وأخبر الحق تبارك وتعالى: أن هذه الأبواب تفتح عندما يصل المؤمنون إليها، وتستقبلهم الملائكة محيية بسلامة الوصول: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ *}[الزمر:73].
وعدد أبواب الجنة ثمانية، وأحد هذه الأبواب يسمى: الريَّان، وهو خاص بالصائمين كما في حديث البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون».
وقد بيَّن العلماء: أن هناك باباً للمكثرين من الصلاة، وباباً للمتصدِّقين، وباباً للمجاهدين، فمن كان من أهل الجهاد؛ دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصلاة؛ دعي من باب الصلاة، وهكذا.
ثالثاً: درجات الجنة:
إن أهل الجنة متفاوتون فيما بينهم على حساب أعمالهم وتوفيق الله لهم وكذلك درجاتهم في الاخرة، بعضها فوق بعض. قال تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى *} [طه: 75] وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم. قال تعالى:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا *وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا *كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا *انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً *}[الإسراء: 18 ـ 21
فبيَّن سبحانه: أن أهل الاخرة يتفاضلون فيها أكثر ممَّا يتفاضل الناس في الدنيا وأن درجات الاخرة أكبر من درجات الدنيا. قال تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}[الحديد:10].
وقال تعالى:{لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِــهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا *}[النساء: 95 ـ 96].
وقد روى البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من امن بالله وبرسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان؛ كان حقّاً على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها». فقالوا: يا رسول الله! أفلا نبشر الناس؟! قال: «إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله؛ فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة» أراه قال: «وفوقه عرش الرحمن منه تفجر أنهار الجنة».
رابعاً: أنهار الجنة:
ذكر القرآن الكريم أنهار الجنة في آيات عديدة. قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}[البقرة: 25].
قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصْفّىً}[محمد: 15 ].
ومن الأنهار التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه في الجنة ما رواه البخاري عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رفعت لي السدرة، فإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان، فأما الظاهران؛ فالنيل، والفرات، وأما الباطنان: فنهران في الجنة».
وفي صحيح مسلم: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل كلٌّ من أنهار الجنة».
ومن أنهار الجنة الكوثر الذي أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينما أنا أسير في الجنة، إذ أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوَّف، قلت: ما هذا يا جبريل؟! قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طيبه، أو طينه مسك أذفَر» شك الراوي: (هدبة).
وقد فسَّر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الكوثر بالخير الكثير الذي أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وبيَّن سعيد بن جبير: أن النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه.
خامساً: عيون الجنة:
في الجنة عيون كثيرة مختلفة الطعوم والمشارب. قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } [الحجر: 45] { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ *} [المرسلات: 41] وقال في وصف الجنتين اللتين أعدهما لمن خاف ربه: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } [الرحمن: 50] وقال في وصف الجنتين اللتين دونهما: { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ *}[الرحمن: 66].
وفي الجنة عينان يشرب المقربون ماءهما صرفاً غير مخلوط، ويشرب منهما الأبرار الشراب مخلوطاً ممزوجاً بغيره، العين الأولى: عين الكافور. قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا *عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا *}[الإنسان: 5 ـ 6] فقد أخبر: أن الأبرار يشربون ـ شرابهم ممزوجاً من عين الكافور ـ بينما عباد الله يشربونها خالصاً.
العين الثانية: عين التسنيم، قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعْيمٍ *عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ *تَعْرِفُ فِي وَجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ *يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ *خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ *وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ *عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ *}[المطففين: 22 ـ 28] ومن عيون الجنة عين تسمى السلسبيل. قال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً *عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً *}[الإنسان: 17 ـ 18].
سادساً: قصور الجنة وخيامها:
يبني الله لأهل الجنة مساكن طيبة حسنة، كما قال تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72] وقال تعالى: { وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [سبأ: 37] وقال في جزاء عباد الرحمن: { أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَمًا } [الفرقان: 75] وقال تعالى واصفاً هذه الغرفات: { لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ *} [الزمر: 20]
وقد أخبرنا المولى ـ عز وجل ـ: أن في الجنة خياماً قال تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ *} [الرحمن: 72] وهذه الخيام عجيبة، فهي من لؤلؤ، بل هي من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها في السماء ستون ميلاً. وفي بعض الروايات عرضها ستون ميلاً، ففي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ثلاثون ميلاً، في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون».
سابعاً: نور الجنة:
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلاَمًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا *تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا *}[مريم: 62 ـ 63] (أي: في وقت البكرات، ووقت العشيات، لا أنَّ هناك ليلاً ونهاراً، ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار).ويقول ابن تيمية في هذا الموضوع: (والجنة ليس فيها شمس، ولا قمر، ولا ليل، ولا نهار، لكن تعرف البكرة، والعشية بنور يظهر من قبل العرش).
ثامناً: وصف بعض شجر الجنة:
سدرة المنتهى: وهذه الشجرة ذكرها المولى ـ عز وجل ـ في كتابه العزيز، وأخبر سبحانه: أن رسولنا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها عندها، وأن هذه الشجرة عند جنة المأوى التي غشيها ما غشيها مما لا يعلمه إلا الله عندما راها الرسول صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى *عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى *عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى *إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى *مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى *}[النجم: 13 ـ 17].
شجرة طوبى: وهذه شجرة عظيمة كبيرة تصنع ثياب أهل الجنة، عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى شجرة في الجنة مسيرة مئة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها».
الشجرة التي يسير الراكب في ظلها مئة عام: هذه شجرة هائلة لا يقدر قدرها إلا الذي خلقها، وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم عظم هذه الشجرة بأن أخبر: أن الراكب لفرس من الخيل التي تعد للسباق يحتاج إلى مئة عام حتى يقطعها إذا سار بأقصى ما يمكنه. ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مئة سنة، واقرؤوا إن شئتم: »{ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ}[الواقعة: 30].
وهذا يدل على خلق بديع، وعلى قدرة الصانع البديع، سبحانه وتعالى!
تاسعاً: نعيم أهل الجنة:
لقد مدح القرآن الكريم نعيم الاخرة، وذمَّ الدنيا الفانية، ورغَّب فيما عند الله على متاع الدنيا القريب العاجل في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ *}[آل عمران: 198].
وقوله: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[طه: 131] وقوله: { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ *} [آل عمران: 15] والآيات في هذا الباب كثيرة.
عاشراً: طعام أهل الجنة وشرابهم:
ذكر الله سبحانه وتعالى: أن في الجنة ما تشتهيه الأنفس من الماكل، والمشارب: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ *وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ *}[الواقعة: 20 ـ 21] {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ}[الزخرف:71].
وقد أباح الله لهم أن يتناولوا من خيراتها وألوان طعامها وشرابها ما يشتهون: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ *}[الحاقة:24].
الحادي عشر: خمر أهل الجنة:
من الشراب الذي يتفضَّل الله به على أهل الجنة الخمر، وخمر الجنة خالٍ من العيوب، والافات التي تتصف بها خمر الدنيا، فخمر الدنيا تذهب العقول، وتصدع الرؤوس، وتوجع البطون، وتمرض الأبدان، وتجلب الأسقام، وقد تكون معيبة في صنعها، أو لونها، أو غير ذلك، أما خمر الجنة؛ فإنها خالية من ذلك كله، وبيضاء صافية رائعة. قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ *بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ *لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنْزِفُونَ *}[الصافات: 45 ـ 47] فقد وصف الله جمال لونها (بيضاء) ثم بين: أنها تلذ لشاربها لا يمل من شربها: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنْزِفُونَ } [الصافات: 47] وقال في موضع آخر يصف خمر الجنة: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ *بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ *لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنْزِفُونَ *}[الواقعة: 17 ـ 19].
قال ابن كثير في تفسير هذه الايات: (لا تصدع رؤوسهم، ولا تنزف عقولهم، بل هي ثابتة مع الشدَّة المطربة، واللذة الحاصلة. وروى الضحاك عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول، فذكر الله خمر الجنة، ونزهها عن هذه الخصال).
وقال تعالى في موضع آخر: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ *خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ *}[المطففين: 25 ـ 26] والرحيق الخمر، ووصف هذا الخمر بوصفين: الأول: أنه مختوم؛ أي: موضوع عليه خاتم. الأمر الثاني: أنهم إذا شربوه؛ وجدوه في ختام شرابهم له رائحة المسك.
الثاني عشر: طعام أهل الجنة وشرابهم لا دنس معه:
الجنة دار خالصة من الأذى، وأهلها مطهرون من أوساخ أهل الدنيا، ففي البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوَّطون».
وليس هذا خاص بأول زمرة تدخل الجنة، وإنما هو عام في كل ما يدخل الجنة، ففي رواية عند مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة، ثم هم بعد ذلك منازل، لا يتغوَّطون، ولا يبولون، ولا يَمْتَخِطون، ولا يَبْزُقون».
فالذي يتفاوت فيه أهل الجنة مما نصَّ عليه في الحديث قوة نور كل منهم، أما خلوصهم من الأذى فإنهم يشتركون فيه جميعاً، فهم لا يتغوطون، ولا يبولون، ولا يتفلون، ولا يبزقون، ولا يمتخطون. وفضلات الطعام والشراب تتحول إلى رشح كرشح المسك يفيض من أجسادهم، كما يتحول بعض منه إلى جشاء، ولكنه جشاء تنبعث منه روائح طيبة عبقة عطرة.
ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أهل الجنة يأكلون فيها، ويشربون، ولا يَـتْفِلون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون». قالوا: فما بال الطعام؟ قال: «جشاء كرشح المسك».
الثالث عشر: انية طعام أهل الجنة، وشرابهم:
انية طعام أهل الجنة، التي يأكلون، ويشربون بها من الذهب، والفضة. قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف: 71] أي: وأكواب من ذهب.
وقال: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا *} [الإنسان: 15] أي: اجتمع فيها صفاء القوارير، وبياض الفضة.
ومن الآنية التي يشربون بها: الأكواب، والأباريق، والكؤوس: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ *بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ *} [الواقعة: 17 ـ 18] والكوب: ما لا أذن له، ولا عروة، ولا خرطوم. والأباريق: ذوات الاذان، والعرى. والكأس: القدح الذي فيه الشراب.
الرابع عشر: لباس أهل الجنة، وحليهم، ومباخرهم:
أهل الجنة يلبسون فيها الفاخر من اللباس، ويتزينون فيها بأنواع الحلي من الذهب، والفضة، واللؤلؤ، فمن لباسهم الحرير، ومن حليِّهم أساور الذهب، والفضة، واللؤلؤ، قال تعالى:
{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أْسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ *}[فاطر:33].
{وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا *}[الإنسان: 21] ، وملابسهم ذات ألوان ومن ألوان الثياب التي يلبسون الخضر من السندس، والإستبرق:
{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا *}[الكهف:31].
ولباسهم أرقى من أيِّ ثياب صنعها الإنسان، فقد روى البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب ـ رضي الله عنهما ـ قال: «أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب من حرير، فجعلوا يعجبون من حسنه، ولينه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمناديل سعد بن معاذفي الجنة أفضل من هذا».
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: أن لأهل الجنة أمشاطاً من الذهب، والفضة، وأنهم يتبخرون بعود الطيب، مع أن روح المسك تفوح من أبدانهم الزاكية، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن الرسول صلى الله عليه وسلم في صفة الذين يدخلون الجنة: «آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ووقود مجامرهم الأَلُـوَّة ـ عود الطيب ـ ورشحهم المسك».
وثياب أهل الجنة، وحليهم لا تبلى، ولا تفنى، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، ولا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه».
الخامس عشر: فرش أهل الجنة.
فرش أهل الجنة عظيمة القدر، بطائنها من الإستبرق، فما بالك بظاهرها؟! وهناك ترى النمارق مصفوفة على نحو يسرُّ الخاطر، ويبهج النفس، والزرابي مبثوثة على شكل منسق متكامل قال تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ *وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ *وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ *وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ *} [الغاشية: 13ـ 16] {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ *} [الرحمن: 54]. {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ *}[الرحمن: 76] ، والمراد بالنمارق: المخادّ والوسائد والمساند، والزرابي: البسط، والعبقري: البسط الجياد، والرفرف: رياض الجنة، وقيل: نوع من الثياب، والأرائك: السرر.
السادس عشر: خدم أهل الجنة:
يخدم أهل الجنة ولدان ينشئهم الله لخدمتهم، يكونون في غاية الجمال، والكمال، كما قال تعالى:
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ *بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ *}[الواقعة: 17 ـ 18].
قال ابن كثير رحمه الله: (يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان أهل الجنة{مُخَلَّدُونَ *} أي: على حالة واحدة مخلدون ، لا يتغيرون عنها لا تزيد أعمارهم عن تلك السن، ومن فسرهم بأنهم مخرصون، في اذانهم الأقرطة، فإنما عبر عن المعنى ؛ لأن الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير، وقوله تعالى: {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا *}[الإنسان: 19].
أي إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة، وكثرتهم، وصباحة وجوههم، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم؛ حسبتهم لؤلؤاً منثوراً، ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن).
السابع عشر: اجتماع أهل الجنة وأحاديثهم:
أهل الجنة يزور بعضهم بعضاً، ويجتمعون في مجالس طيبة يتحدثون، ويذكرون ما كان منهم في الدنيا، وما مَنَّ الله به عليهم من دخول الجنان، قال تعالى في وصفه اجتماع أهل الجنة:
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ *}[الحجر:47].
وحدثنا القرآن عن أصناف الأحاديث التي يتكلمون بها في مجتمعاتهم: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ *قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ *فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ *إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ *}[الطور: 25 ـ 28].
ومن ذلك تذكرهم أهل الشر الذين كانوا يشككون أهل الإيمان، ويدعونهم إلى الكفران:{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ *قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ *يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ *أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ *قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ *فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ *قَالَ تاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ *وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ *أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ *إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ *}[الصافات: 50 ـ 61].
الثامن عشر: نساء أهل الجنة:
زوجة المؤمن في الدنيا زوجته في الاخرة إذا كانت مؤمنة. قال تعالى:
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ *}[الرعد:23].
وهم في الجنات منعمون مع الأزواج، يتكئون في ظلال الجنة مسرورين فرحين: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ *}[يس:56 ].
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ *}[الزخرف: 70 ].
التاسع عشر: الحور العين.
قال تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ *} [الدخان: 54] والحور: جمع حوراء ، وهي التي يكون بياض عينها شديد البياض، وسواده شديد السواد، والعِين: جمع عيناء، والعَيناء: هي واسعة العين. وقد وصف الله في القرآن الحور العين بأنهن كواعب أتراب. قال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا *حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا *وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا *}[النبأ: 31 ـ 33] والكاعب: المرأة الجميلة التي برز ثديها، والأتراب المتقاربات في السن، والحور العين من خلق الله في الجنة، أنشأهن الله إنشاء فجعلهن أبكاراً، عرباً أتراباً: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً *فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا *عُرُبًا أَتْرَابًا *}[الواقعة: 35 ـ 37] وكونهنَّ أبكاراً يقضي: أنه لم ينكحهن قبلهم أحد، كما قال تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ *}[الرحمن:56].
وقد حدثنا القرآن عن جمال نساء الجنة، فقال: {وَحُورٌ عِينٌ *كَأَمْثَالِ اللَّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ *}[الواقعة: 22 ـ 23] والمراد بالمكنون: المخفي المصان، الذي لم يغير صفاءَ لونه ضوءُ الشمس، ولا عبث الأيدي. وشبههن في موضع آخر بالياقوت، والمرجان: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ *فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ *}[الرحمن: 56 ـ 58].
والياقوت والمرجان حجران كريمان فيهما جمال، ولهما منظر حسن بديع، وقد وصف الحور بأنهن قاصرات الطرف: وهن اللواتي قصرن بصرهن على أزواجهن، فلم تطمح أنظارهن لغير أزواجهن، وقد شهد الله لحور العين بالحسن والجمال، وحسبك أن شهد الله بهذا ليكون قد بلغ غاية الحسن والجمال: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ *فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ *}[الرحمن: 70 ـ 72]. ونساء الجنة لسن كنساء الدنيا، فإنهن مطهرات من الحيض، والنفاس، والبصاق، والمخاط، والبول، والغائط، وهذا مقتضى قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *}[البقرة: 25 ].
وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن جمال نساء أهل الجنة، ففي الحديث الذي يرويه البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال صلى الله عليه وسلم: «أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوَّطون، وانيتهم فيها الذهب، وأمشاطهم من الذهب، والفضة، ومجامرهم الأَلُـوَّة، ورشحهم المسكُ، ولكلِّ واحدٍ منهم زوجتان يُرى مخُّ سوقهما من وراء اللحم من الحسن».
وانظر إلى هذا الجمال الذي يحدث عنه الرسول صلى الله عليه وسلم هل تجد له نظيراً مما تعرف؟ «ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض؛ لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها».
العشرون: أفضل ما يعطاه أهل الجنة:
(النظر إلى وجهه الكريم رضوان الله).
قال الطحاوي: (الرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة، ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *}[القيامة: 22 ـ 23] وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على أنه أراد أّلا ندخل في ذلك متأولين بارائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله ـ عز وجل ـ ولرسوله صلى الله عليه وسلم وردَّ علم ما اشتبه عليه إلى عالمه).
وقد صرح الحق تبارك وتعالى برؤية العباد لربهم في جنات النعيم: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *}[القيامة: 22 ـ 23].
والكفار والمشركون يحرمون من هذا النعيم العظيم، والتكرمة الباهرة: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ *}[المطففين: 15].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى» زاد في رواية: «ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[يونس: 26].
وأما عن رضوان الله الذي يعطى لأهل الجنة، فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربَّنا وسعديك، والخير كله في يديك! فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟! فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: يا رب! وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً!».
الحادي والعشرون: آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين:
يمر المؤمنون في الموقف العظيم بأهوال عظام، ثم يمرون على الصراط، فيشاهدون هولاً ورعباً، ثم يدخلهم الله جنات النعيم بعد أن أذهب عنهم الحزن، فيرون ما أعد الله لهم فيها من خيرات عظام، فترتفع ألسنتهم تسبح ربهم وتقدسه، فقد أذهب عنهم الحزن، وصدقهم وعده، وأورثهم الجنة: [فاطر: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ *الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ *}[فاطر: 34 ـ 35].
واخر دعواهم في جنات النعيم: الحمد لله رب العالمين: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *}[يونس:10].
وإلى هنا أرجو أن أكون قد بينت قضية الإيمان باليوم الآخر من خلال القرآن الكريم، وهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وأن أكون قد قدَّمتُ من خلال بحثي ملامح الوسطيَّة من حكمة قرانية، واستقامة ربانية، واعتدال، وعدل في الأحكام، ووضع طالب الحقيقة على صراط مستقيم!
يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/29.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com