الإثنين

1446-03-13

|

2024-9-16

الحلقة السابعة بعد المئة (107)

دعوة الملوك والأمراء

أولاً: كان صلح الحديبية إيذاناً ببداية المدِّ الإسلاميِّ:

فقد انساح هذا المدُّ إلى أطراف الجزيرة العربيَّة، بل تجاوزها إلى ما وراء حدود الجزيرة العربيَّة، فمنذ أن عقد الرَّسول صلى الله عليه وسلم  صلح الحديبية مع قريشٍ، وما تلا ذلك من إخضاع يهود شمال الحجاز في خيبر، ووادي القرى، وتيماء، وفَدَك إلى سيادة الإسلام؛ فإنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم  لم يألُ جهداً لنشر الإسلام خارج حدود الحجاز، وكذلك خارج حدود الجزيرة العربيَّـة، وقد عبَّر صلى الله عليه وسلم  عن هذا المنهج قولاً وعملاً من خلال إرساله عدداً من الرُّسل، والمبعوثين إلى أمراء أطراف الجزيرة العربيَّة، وإلى ملوك العالم المعاصر خارج الجزيرة العربيَّة.

وتُعَدُّ هذه الخُطوة نقطة تحوُّلٍ مهمَّةٍ في تاريخ العرب، والإسلام، ليس لأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم سوف يوحِّد عرب الجزيرة العربيَّة تحت راية الإسلام، فحسب، ولكن لأنَّ هؤلاء العرب بعد أن اعتنقوا الإسلام، وتمثَّلوا رسالة السَّماء أنيط بهم حمل الدَّعوة الإسلاميَّة إلى البشريَّة كافَّةً.

ويشير المنهج النَّبويُّ في دعوة الزُّعماء والملوك إلى ما يجب أن تكون عليه وسائل الدَّعوة، فإلى جانب دعوة الأمراء، والشُّعوب اختار الرَّسول صلى الله عليه وسلم أسلوباً جديداً من أساليب الدَّعوة، وهو مراسلة الملوك، ورؤساء القبائل، وكان لأسلوب إرسال الرَّسائل إلى الملوك، والأمراء أثرٌ بارزٌ في دخول بعضهم الإسلام، وإظهار الودِّ من البعض الآخر، كما كشفت هذه الرَّسائل مواقف بعض الملوك، والأمراء من الدَّعوة الإسلامية، ودولتها في المدينة، وبذلك حقَّقت هذه الرَّسائل نتائج كثيرةً، واستطاعت الدَّولة الإسلاميَّة من خلال ردود الفعل المختلفة تجاه الرَّسائل أن تنـتهج نهجـاً سياسيّـاً، وعسكريّـاً واضحـاً، ومتميِّزاً، وإليك أهم هذه الرَّسائل:

1 - فقد وردت روايةٌ صحيحةٌ، تضمَّنت نصَّ كتاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  الَّذي بعثه مع دحيةَ الكلبيِّ إلى هرقل عظيم الرُّوم وذلك في مدة هدنة الحديبية، وهو كما يلي:

«بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، من محمَّد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الرُّوم، سلامٌ على من اتَّبع الهُدى: أمَّا بعد: فإنِّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلمْ؛ تسلم، يؤتك الله أجرك مرَّتين، فإنْ تولَّيت؛ فعليك إثم الأَرِيْسيِّينَ ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64]. [البخاري (4553)، ومسلم (1773)].

ولقد تسلَّم هرقل رسالة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  ودقَّق في الأمر كما في الحديث الطَّويل المشهور بين أبي سفيان وهرقل المرويِّ في الصَّحيحين حين سأله عن أحوال النَّبي صلى الله عليه وسلم  ، وقال بعد ذلك لأبي سفيان: (إن كان ما تقول حقاً؛ فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم: أنَّه خارج، ولم أكن أظنُّه منكم، فلو أنِّي أعلم أنِّي أخلص إليه ؛ لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده؛ لغسلت عن قدميه). [انظر تخريج الحديث السابق].

2 - أرسل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  بكتابٍ إلى كسرى ملك الإمبراطورية الفارسيَّة، مع عبد الله بن حُذافة السَّهميِّ، «أمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلـمَّا قرأه؛ مزَّقه، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم  أن يُمَزَّقوا كُلَّ ممزَّق» [أحمد (1/243)، والبخاري (4424)، والبيهقي في دلائل النبوة (4/387)]، ونصُّ الرِّسالة كما أوردها الطَّبريُّ كالتَّالي: «بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، من محمَّد رسول الله، إلى كسرى عظيم فارس، سلامٌ على مَنِ اتَّبع الهُدى، وآمن بالله، ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله، وأنِّي رسول الله إلى النَّاس كافَّةً؛ لينذر من كان حيّاً، أسلم؛ تسلم، فإن أبيت؛ فعليك إثمُ المجوس». [تاريخ الطبري (2/654 - 655)].

3 - أمَّا كتاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  إلى النَّجاشيِّ ملك الحبشة، فقد أرسله مع عمرو بن أميَّة الضَّمْريِّ، وقد جاء في الكتاب:

«بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، من محمَّدٍ رسول الله، إلى النَّجاشيِّ ملك الحبشة، أسلم أنت، فإنِّي أحمد إليك الله الَّذي لا إله إلا هو الملكُ، القدُّوس، السَّلامُ، المؤمنُ، المهيمنُ، وأشهد أنَّ عيسى ابنَ مريم روحُ الله، وكلمتُه ألقاها إلى مريم البتول الطَّيبة الحصينة، فحملت به، فخلقه من روحه، ونفخه كما خلق ادم بيده، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة في طاعته، وأن تتَّبعني، وتؤمن بالَّذي جاءني، فإنِّي رسول الله، وإنِّي أدعوك، وجنودَك إلى الله - عزَّ وجلَّ - وقد بلَّغتُ، ونصحتُ، فاقبلوا نصيحتي، والسَّلام على من اتَّبع الهُدى». [نصب الراية للزيلعي (4/421)].

4 - أمَّا كتاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  إلى المقوقس حاكمِ مصر، وكذلك ردُّ المقوقس إليه؛ فلم يثبت من طرقٍ صحيحةٍ، ولا يعني ذلك نفي إرسال الكتاب إليه، كما أنَّ ذلك لا يعني الطَّعن بصحة النُّصوص من النَّاحية التاريخيَّة، فربما تكون صحيحةً من حيث الشَّكل، والمضمون، غير أنَّها لا يمكن أن يحتجَّ بها في السِّياسة الشَّرعيَّة، فلقد أورد محمَّد بن سعد في طبقاته: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم  بعث إلى المقوقس، جُريج بن مينا ملك الإسكندريّة وعظيم القبط، كتاباً مع حاطب بن أبي بلتعة اللَّخميِّ، وأنَّه قال خيراً، وقارب الأمر، غير أنَّه لم يسلم، وأهدى إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  عدَّة هدايا كان بينها مارية القبطيَّة، وأنَّه لما ورد جواب المقوقس إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  قال: «ضَنَّ الخبيث بمُلْكِه، ولا بقاء لِمُلْكِه». [الزيلعي في نصب الراية (4/422)].

5 - وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم  شجاع بن وهب، أخا بني أسد بن خُزيمة برسالة إلى المنذر بن الحارث بن أبي شَمِر الغسَّاني صاحب دمشق، حين عودته والمسلمين من الحديبية، وقد تضمَّن نصُّ الرِّسالة قوله: «سلامٌ على من اتَّبع الهُدى، وآمن به، إنِّي أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحدَه لا شريك له، يُبْقي لك ملكك». [الزيلعي في نصب الراية (4/424)، والطبري في تاريخه (2/652)].

6 - وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم  سُلَيطَ بن عمرٍو العامريَّ بكتابٍ إلى هَوْذَةَ بن عليٍّ الحنفي عند مقدمه من الحديبية، وقد اشترط هَوْذَةُ الحنفيُّ على الرسول صلى الله عليه وسلم  بعد قراءته رسالته إليه أن يجعل له بعض الأمر معه، فرفض النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  أن يقبل ذلك. [الزيلعي في نصب الراية (4/425)، وابن طولون في إعلام السائلين (105، 107)].

7 - وأرسل صلى الله عليه وسلم  أبا العلاء الحضرميَّ بكتابه إلى المنذر بن ساوى العبديِّ، أمير البحرين بعد انصرافه من الحديبية، ونقلت المصادر التَّاريخيَّة: أنَّ المنذر قد استجاب لكتاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  ، فأسلم، وأسلم معه جميع العرب بالبحرين، فأمَّا أهل البلاد من اليهود، والمجوس فإنَّهم صالحوا العلاء، والمنذر على الجزية من كلِّ حالمٍ دينار [الزيلعي في نصب الراية (4/420)] (أي: على كلِّ بالغٍ دينار) ونقل أبو عبيد القاسم بن سلام نص كتاب النبي صلى الله عليه وسلم  إلى المنذر بن ساوى برواية عروة بن الزُّبير، وجاء فيه:

«سلام أنت، فإنِّي أحمد إليك الله الَّذي لا إله إلا هو، أمَّا بعد فإنَّ مَنْ صلَّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم الَّذي له ذمَّة الله، وذمَّة الرَّسول، فمن أحبَّ ذلك من المجوس؛ فإنَّه آمن، ومن أبى؛ فإن الجزية عليه». [أبو عبيد في كتاب الأموال (ص 30 برقم 50)].

وفي ذي القعدة سنة (8 هـ) بعث النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  عمرو بن العاص بكتابه إلى جَيفر وعبدٍ ابني الجُلُنْـدَى الأزديَّين بِعُمَان، وقد جـاء فيـه: «من محمَّدٍ النَّبيِّ رسول الله لعبـاد الله الأزديِّيـن ملوك عُمان، وأسـد عمان، ومن كان منهـم بالبحريـن؛ إنَّهم إن آمنوا، وأقاموا الصَّلاة، واتوا الزَّكاة، وأطاعوا الله، ورسوله، وأعطَوا حقَّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  ، ونسكوا نسـك المؤمنين، فإنَّهم آمنون وأنَّ لهم ما أسلموا عليـه، غير أنَّ مال بيت النَّـار ثُـنْياً لله ورسولِه، وأنَّ عشور التَّمْرِ صدقـةٌ، ونصفُ عشـور الحبِّ، وأنَّ للمسلميـن نصرهم، ونصحَهم، وأنَّ لهم على الـمسلمين مثل ذلـك، وأنَّ لهم أرحاءهم يطحنـون بهـا ما شاؤوا». [أبو عبيـد في كتاب الأموال (ص 30 - 31 برقم 52)].

وأوردت المصادر بعد ذلك عدداً كبيراً من المرويات عن رسائل أخرى لم تثبت من النَّاحية الحديثيَّة.

 

ثانياً: مواصفاتُ رَجُلِ الدِّبلوماسيَّة الإسلاميَّة:

قـام اللِّـواء الرُّكن محمـود شيت خطَّاب بجمع الرَّسائـل، وتحدَّث عن الرُّسل في كتابه الفريد «سفراء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  » استنبط من خلالها شروطَ ومواصفاتِ رَجُلِ الدِّبلوماسيَّة الإسلاميَّة، ومن أهم تلك الشُّروط، والمواصفات:

1 - الإسلام، والدَّعوة إليه:

قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108].

وإذا كان المسلمون كلُّهم دعاةً إلى الله تعالى؛ فرسل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  إلى الملوك والأمراء في زمانه هم صفوة الدُّعاة.

2 - الفصاحة والوضوح:

الفصاحة، وجزالة اللَّفظ، والدقَّة في توصيل المعاني إلى السَّامعين شرطٌ أساسيٌّ في الرَّجل الَّذي يتصدَّى للمهمَّة الدِّبلوماسيَّة، وقد طلب موسى تدعيمه بموقف الفصاحة من هارون أخيه: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ﴾ [طه: 29 - 31].

وقد اختار الرَّسول صلى الله عليه وسلم  كلَّ سفرائه، ومبعوثيه من العرب الَّذين تربَّوا في الجزيرة العربيَّة ومع البدو أحياناً، فقد كانوا أصحاب نقاوةٍ، لم تتكدَّر باختلاط الأعاجم بعد، فقد كانوا على قدرٍ كبيرٍ من الفصاحة، والوضوح.

3 - حسن الخلق:

أخلاق السَّفير النَّبويِّ هي أخلاق الإسلام الَّتي بيَّنها الله - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم، وفصَّلها رسول الله صلى الله عليه وسلم  في سنَّته، وأهمُّها في السَّفير: الصِّدقُ، والتَّواضع.

4 - العلم:

لا نريد هنا أن نبيِّن منزلة العلم؛ لأنَّ الكلام على هذه المسألة طويلٌ، ولكنَّنا نؤكِّد هنا: أنَّ العلم بالشَّيء هو وسيلة نقل الفكرة، والمبدأ، لذا عندما تنظر إلى جعفر بن أبي طالبٍ رضي الله عنه وهو يحاور النَّجاشيَّ، ثم يقرأ عليه سورة: تتيقَّن من دقَّة الاختيار ﴿كهيعص ﴾، ونصاعة خطاب العالِم، ودقَّة اختياره للألفاظ، والعبارات.

5 - الصَّبر:

قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الأحقاف: 35] والحقيقة: أن الصبر هو عدَّة الدَّاعية، وزاده المستمر، ولو تصفَّحت سيرة الرَّسول صلى الله عليه وسلم  وسيرة صحابته الأجلاَّء؛ لوجدتها حافلةً بالصَّبر على الدَّعوة، وموقفُ الطَّائف شاهدٌ على ذلك.

6 - الشَّجاعة:

وقد تحدَّث التَّاريخ الإسلاميُّ عن شجاعة السُّفراء، والَّذين أرسلهم الرَّسول صلى الله عليه وسلم  إلى الملوك، وأنَّهم كانوا لا يخافون لومة لائم.

7 - الحكمة:

وقد كان سفراء الرَّسول صلى الله عليه وسلم  يتَّصفون بالحكمة، فهذا عمرو بن العاص كان مُسدَّداً في أقواله، وأفعاله، قيل لعمرو: ما العاقل؟ قال: (الإصابة بالظَّنِّ، ومعرفة ما يكون بما قد كان) ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشَّرِّ، إنَّما العاقل الذي يعرف خير الشَّرَّيْنِ.

8 - سعة الحيلة:

يجب أن يكون السَّفير مدركاً لأبعاد المناورة السِّياسيَّة، متأنِّياً كتوماً. وسعةُ الحيلة الَّتي ترتكز أوَّلاً، وقبل كلِّ شيءٍ على الذَّكاء من أهم سمات السَّفير، وقد كان سفراء الرَّسول صلى الله عليه وسلم يتَّصفون بالذَّكاء، والدَّهاء، وتوقُّع الأحداث، والحساب لكلِّ ما يمكن أن يحدث، وهذه مقوِّمات سعة الحيلة.

9 - المظهر:

تميَّز سفراء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  بالمظهر الحسن مع نقاء المخبر، وقد حرص النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  على اختيار سفرائه من بين أصحابه الَّذين تتوافر فيهم صفاتٌ شكليَّة جميلةٌ إلى جانب سماتهم العقليَّة، والنفسيَّة سالفة الذِّكر.

هذه أهم الصِّفات الَّتي استخلصها اللِّواء الرُّكن محمود شيت خطاب من خلال دراسته القيِّمة لسفراء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  والَّتي ينبغي للسَّفير المسلم أن يتحلَّى بها، وتكون للدَّولة الإسلاميَّة مقياساً في اختيار مَنْ ترشِّحه لهذا المنصب الخطير.

ثالثاً: دروسٌ، وعبرٌ، وفوائد:

1 - الأَرِيْسِيُّون:

وردت كلمة (الأَرِيْسيِّين) أو (اليَرِيْسِيِّين) - على اختلاف الرِّوايات - في الكتاب الَّذي وُجِّه إلى (هرقل) وحدَه ، ولم ترد في كتابٍ من الكتب الَّتي أرسلت إلى غيره ، واختلف علماء الحديث واللُّغة في مدلول هذه الكلمة، فالقول المشهور: أن (الأريسيِّين) جمع (أريسي) وهم الخول، والخدم، والأكَّارون.

وذهب العلامة أبو الحسن النَّدويُّ إلى أنَّ المراد بالأريسيِّين هم أتباع (أريوس) المصري، وهو مؤسِّس فرقةٍ مسيحيَّةٍ كان لها دورٌ كبير في تاريخ العقائد المسيحيَّة والإصلاح الدِّيني، وقد شغلت الدَّولة البيزنطيَّة، والكنيسة المسيحيَّة زمناً طويلاً، و(أريوس) هو الَّذي نادى بالتَّوحيد، والتَّمييز بين الخالق، والمخلوق، والأب، والابن - على حدِّ تعبير المسيحيين - لعدَّة قرون.

ودامت عقيدة (أريوس) ودعوته تصارعان الدَّعوة المكشوفة إلى تأليه المسيح، وتسويته بالإله الواحد الصَّمد، وكانت الحرب سجالاً، وقد دان بهذه العقيدة عددٌ كبيرٌ من النَّصارى في الولايات الشَّرقية من المملكة البيزنطيَّة إلى أن عقد تيوسورس الكبير مَجْمعاً مسيحيّاً في القسطنطينية، قضى بألوهيَّة المسيح، وإبنيَّته، وقضى هذا الإعلان على العقيدة الَّتي دعا إليها (أريوس) واختفت، ولكنَّها عاشت بعد ذلك، ودانت بها طائفةٌ من النَّصارى، اشتهرت بالفرقة الأريسيَّة، أو الأريسيِّين، فَمِنَ المرجَّح المعقول: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم  إنَّما عنى هذه الفرقة بقوله: «فإن تولَّيت، فإنَّما عليك إثم الأَرِيْسيِّين» فإنَّها هي القائمة بالتَّوحيد النِّسبي في العالم المسيحي الَّذي تتزعمُه الدولة البيزنطيَّة العظمى، الَّتي كان على رأسها (هرقل).

وقد تحدَّث الإمام أبو جعفر الطَّحاويُّ عن هذه الفرقة، فقال: وقد ذكر بعض أهل المعرفة بهذه المعاني: أنَّ في رهط هرقل فرقةً تعرف بالأروسية، توحِّد الله، وتعترف بعبودية المسيح لله - عزَّ وجلَّ -، ولا تقول شيئاً ممَّا يقول النَّصارى في ربوبيته، وتؤمن بنبوَّته، فإنَّها تُمسِك بدين المسيح مؤمنةً، بما في إنجيله، جاحدةً لما يقوله النَّصارى سوى ذلك، وإذا كان ذلك كذلك؛ جاز أن يقال لهذه الفرقة (الأريسيُّون) في الرَّفع و(الأريسيين) في النَّصب والجر، كما ذهب إليه أصحاب الحديث.

2 - اعتبارات حكيمة خاصَّة بالملوك:

في رسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم  للملوك فوارقُ دقيقةٌ مؤسَّسةٌ على حكمة الدَّعوة، روعي فيها ما يمتاز به  هؤلاء الملوك في العقائد الَّتي يدينون بها، و(الخلفيَّات) الَّتي يمتازون بها، فلمّا كان هرقل، والمقوقس يدينان بألوهيَّة المسيح كلِّيّاً، أو جزئيّاً، وكونه ابنُ الله، جاءت في الكتابَيْن اللَّذين وُجِّها إليهما كلمة (عبد الله) مع اسم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  صاحب هاتين الرِّسالتين، فيبتدئ الكتابان بعد التَّسمية بقوله: «من محمَّدٍ عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الرُّوم» وبقوله: «من محمَّد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القِبْط» بخلاف ما جاء في كتابه صلى الله عليه وسلم  إلى كسرى أبرويز، فاكتفى بقوله: «من محمَّد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس» وجاءت كذلك آية: ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64] في هذين الكتابين، وما جاءت في كتابه إلى كسرى أبرويز؛ لأنَّ الآية تخاطب أهل الكتاب؛ الَّذين دانوا بألوهيَّة المسيح، واتَّخذوا أحبارهم، ورهبانهم أرباباً من دون الله، والمسيح ابن مريم، وقد كان هرقل إمبراطور الدَّولة البيزنطيَّة، والمقوقس حاكم مصر قائدين سياسيَّين، وزعيمين دينيَّين كبيرين للعالم المسيحي، مع اختلافٍ يسيرٍ في الاعتقاد في المسيح: «هل له طبيعةٌ أم طبيعتان؟».

ولما كان كسرى أبرويز وقومُه يعبدون الشَّمس والنَّار، ويدينون بوجود إلهين: أحدهما يمثِّل الخير، وهو: يزدان، والثَّاني يمثِّل الشَّرَّ وهو: إهرمن، وكانوا بعيدين عن مفهوم النُّبوَّة، والتَّصوُّر الصَّحيح للرِّسالة السَّماوية، جاءت في الكتاب الَّذي وجه إلى الإمبراطور الإيراني عبارة: «وأنِّي رسول الله إلى النَّاس كافَّةً لينذر من كان حيّاً».

وقد كان تلقِّي الملوك لهذه الرَّسائل يختلف: فأمَّا هرقل، والنَّجاشيُّ، والمقوقس؛ فتأدَّبوا، وتلطَّفوا في جوابهم، وأكرم النّجاشيُّ، والمقوقس رُسُلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم  ، وأرسل المقوقس هدايا؛ منها جاريتان كانت أحدَهما ماريةُ أمُّ إبراهيم (ابن رسول الله)، وأمَّا كسرى أبرويز؛ فلما قُرِئ عليه الكتاب مزَّقه، وقال: «يكتب إليَّ هذا؛ وهو عبدي؟!» فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال: «مزَّق الله ملكه!» [سبق تخريجه].

وأمر كسرى باذان - وهو حاكمه على اليمن - بإحضاره، فأرسل بابويه يقول له: إن ملك الملوك قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم  بأنَّ الله سلَّط على كسرى ابنه شيرويه، فقتله.

وقد تحقَّق ما أنبا به رسول الله صلى الله عليه وسلم  بكلِّ دقَّة، فقد استولى على عرشه ابنه (قباذ) الملقب بـ (شرويه) وقُتِل كسرى ذليلاً مهاناً بإيعازٍ منه سنة (628 م)، وقد تمزَّق ملكُه بعد وفاته، وأصبح لعبةً في أيدي أبناء الأسرة الحاكمة، فلم يعش (شرويه) إلا ستَّة أشهرٍ، وتوالى على عرشه في مدَّة أربع سنوات عشرة ملوكٍ، واضطرب حبل الدَّولة إلى أن اجتمع النَّاس على (يزدجرد) وهو اخر ملوك بني ساسان، وهو الَّذي واجه الزَّحف الإسلاميَّ؛ الَّذي أدَّى إلى انقراض الدَّولة السَّاسانيَّة؛ الَّتي دامت، وازدهرت أكثر من أربعة قرون انقراضاً كلِّيَّاً، وكان ذلك في سنة (637 م)، وهكذا تحقَّقت هذه النُّبوءة في ظرف ثماني سنين.

3 - الوصف العام لرسائل الرَّسول صلى الله عليه وسلم :

ويلاحظ الباحث: أنَّ الوصف العام لكتب الرَّسول صلى الله عليه وسلم  إلى الملوك والأمراء يكاد يكون واحداً، ويمكننا أن نستخرج منها الأمور التَّالية:

أ - نلاحظ أنَّ جميع كتب الرَّسول صلى الله عليه وسلم  الَّتي أرسلها إلى الملوك، والرُّؤساء يفتتحها صلى الله عليه وسلم  بالبسملة، والبسملة آية من كتاب الله - تبارك وتعالى - وفي تصدير الكتاب بها أمورٌ مهمَّةٌ؛ كاستحباب بدء الكتب بـ «بسم الله الرَّحمن الرَّحيم» اقتداءً برسولنا محمَّد صلى الله عليه وسلم  ، فقد واظب عليها في كتبه صلى الله عليه وسلم  ، كما أنَّ فيها جواز كتابة آية من القرآن الكريم في كتاب، وإن كان هذا الكتاب موجهاً إلى الكافرين، وفيها جواز قراءة الكافر لآية، أو أكثر من القرآن الكريم؛ لأنَّ كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم  تضمَّنت البسملة، وغيرها، وفيها جواز قراءة الجنب لآية، أو أكثر من القرآن الكريم؛ لأنَّ هذا الكافر الَّذي أرسلت إليه الرِّسالة، وتضمَّنت البسملة وغيرها لا يحترز من الجنابة، والنَّجاسة، فيقرأ الرِّسالة؛ التي اشتملت على آيات من القرآن الكريم؛ وهو جنبٌ.

ب - ونستنبط من رسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى الملوك والأمراء الآتي:

  • مشروعيَّة إرسال السُّفراء المسلمين إلى زعماء الكفر؛ لأنَّ كلَّ كتابٍ كان يكتبه الرَّسول صلى الله عليه وسلم يكلِّف رجلاً من المسلمين يحمله إلى المرسل إليه.
  • مشروعية الكتابة إلى الكفَّار في أمر الدِّين، والدُّنيا.
  • ينبغي أن يكتب في الكتاب اسم المُرْسِل، والمُرْسَل إليه، وموضوع الكتاب، وهو واحدٌ في جميع الكتب، ويتلخَّص في دعوتهم إلى الإسلام.
  • عدم بدء الكافر بتحيَّة الإسلام، وهي السَّلام عليكم، ورحمة الله وبركاته؛ ذلك لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يطرح السَّلام في كتبه على ملكٍ من ملوك الكفر، بل كان يصدِّر كتبه بقوله: السَّلام على من اتَّبع الهدى، أي: آمن بالإسلام. ويؤخذ من هذا عدم جواز مخاطبة الكافر بتحيَّة الإسلام.
  • اتخاذ الخاتم: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختم رسائله بعد كتابتها بخاتمه، وقد كُتب عليه ثلاث كلمات:

محمَّد رسولُ الله

فعن أنسٍ رضي الله عنه قال: لـمَّا أراد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  أن يكتب إلى الرُّوم؛ قيل له: إنَّهم لا يقرؤون كتاباً إلا أن يكون مختوماً، فاتَّخذَ خاتماً مِنْ فضَّة، فكأنِّي أنظر إلى بَيَاضِه في يده، ونقش فيه محمَّدٌ رسول الله. [البخاري (2938)].

4 - تقدير الرِّجال:

لـمَّا أسلم باذان بن ساسان وكان أميراً على اليمن لم يعزله رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، بل أبقاه أميراً عليها بعد إسلامه، حين رأى فيه الإداريَّ النَّاجح، والحاكم المناسب، ممَّا يُدلِّل على أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم  يقدِّر الكفاءات في الرِّجال، ويضع الرَّجل المناسب في المكان المناسب، ومن الجدير بالذِّكر: أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم  قد ولَّى ولده - أي: ولد باذان - شهراً أميراً على اليمن بعد موت أبيه.

5 - جواز أخذ الجزية من المجوس:

وهذا الحكم استخرج من كتاب النَّبي صلى الله عليه وسلم  الَّذي أرسله إلى المنذر بن ساوى يحدِّد فيه الموقف من اليهود، والمجوس؛ إذ ورد فيه: «ومن أقام على يهوديَّته، أو مجوسيَّته؛ فعليه الجزية».

وقد ذهب ابن القيِّم مع طائفة من العلماء إلى جواز أخذ الجزية من كلِّ إنسان يبذلُها، سواءٌ أكان كتابيّاً أم غير كتابيٍّ؛ كعبدة الأوثان من العرب، وغيرهم، فقد جاء في زاد المعاد: «وقد قالت طائفةٌ في الأمم كلِّها إذا بذلوا الجزية؛ قبلت منهم؛ أهل الكتابين بالقرآن، والمجوس بالسُّنَّة، ومن عداهم ملحقٌ بهم؛ لأنَّ المجوس أهل شركٍ لا كتاب لهم، فأخذُها منهم دليلٌ على أخذها من جميع المشركين، وإنَّما لم يأخذها صلى الله عليه وسلم  من عبدة الأوثان من العرب؛ لأنَّهم أسلموا قبل نزول آية الجزية، فإنَّها نزلت بعد تبوك».

6 - جواز أخذ هدية الكافر:

لقد أرسل المقوقس عظيم القبط حاكم مصر - وهو كافرٌ - مع سفير رسول الله حاطب بن أبي بلتعة هديةً تشتمل على جاريتين، وكسوةٍ للرَّسول صلى الله عليه وسلم  ، وبغلةٍ يركبها، فقبلها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وإحدى هاتين الجاريتين ماريةُ القبطيَّة.

7 - من نتائج إرسال الكتب إلى الملوك والأمراء:

أظهر الرَّسول صلى الله عليه وسلم  في سياسته الخارجيَّة درايةً سياسيَّةً فاقت التَّصوُّر، وأصبحت مثالاً لمن جاء بعده من الخلفاء، كما أظهر صلى الله عليه وسلم  قوَّةً، وشجاعةً فائقتين، فلو كان غير رسول الله صلى الله عليه وسلم  ؛ لخشي عاقبة ذلك الأمر، لا سيَّما وأنَّ بعض هذه الكتب قد أرسلت إلى ملوكٍ أقوياء على تخوم بلاده؛ كهرقل، وكسرى، والمقوقس، ولكنَّ حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، وعزيمته على إبلاغ دعوة الله، وإيمانه المطلق بتأييد الله - سبحانه وتعالى -، كلُّ ذلك دفعه لأن يُقْدِم على ما أقدم عليه، وقد حقَّقت هذه السِّياسة النتائج الآتية:

أ - وطَّد الرَّسول صلى الله عليه وسلم  بهذه السِّياسة أسلوباً جديداً في التَّعامل الدَّوليِّ لم تكن تعرفه البشريَّة من قبلُ.

ب - أصبحت الدَّولة الإسلاميَّة لها مكانَتُها، وقوَّتُها، وفرضت وجودها على الخريطة الدَّوليَّة لذلك الزَّمان.

ج - كشفت للرَّسول صلى الله عليه وسلم  نوايا الملوك، والأمراء، وسياستهم نحوه، وحكمهم على دعوته.

د - كانت مكاتبة الملوك خارج جزيرة العرب تعبيراً عمليّاً على عالمية الدَّعوة الإسلاميَّة، تلك العالميَّة الَّتي أوضحتْها آيات نزلت في العهد المكِّي، مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

وهكذا، فإنَّ رسائل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  إلى أمراء العرب والملوك المجاورين لبلاده تُعَدُّ نقطة تحوُّلٍ في سياسة دولة الرَّسول الخارجيَّة، فعظم شأنُها، وأصبحت لها مكانةٌ دينيَّةٌ، وسياسيَّةٌ بين الدُّول، وذلك قبل فتح مكة، كما أنَّ هذه السياسة مهَّدت لتوحيد الرَّسول صلى الله عليه وسلم  لسائر أنحاء بلاد العرب في عام الوفود. 

 

يمكن النظر في كتاب السِّيرة النَّبويّة عرض وقائع وتحليل أحداث

                        على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ

http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC-169.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022