في معنى العبادة وشروط قبولها
د. علي محمد الصلابي
الحلقة: السابعة عشر
شعبان 1441ه/ أبريل 2020م
أ ـ معنى العبادة:
مدارُ العبادةِ في اللغة والشرع على التذلّلِ والخضوعِ والانقيادِ. والعبادةُ في اللغة من الذلة، يقال: طريقٌ معبّدٌ، وبعيرٌ معبَّد، أي: مذّلل.وفي الشرع عبارةٌ عمّا يجمعُ كمالَ المحبّةِ، والخضوعِ، والخوفِ. والعبادة في تعريفها الشامل هي: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمالِ الباطنةِ والظاهرةِ، فالصلاةُ، والزكاةُ، والصيامُ، والحج، وصدقُ الحديث، وأداءُ الأمانة، وبرُّ الوالدين، وصلةُ الأرحام، والوفاءُ بالعهود، والأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر، وجهادُ الكفّارِ والمنافقينِ، والإحسانُ إلى الجار واليتيمِ والمسكينِ وابنِ السبيل والمملوكِ من الآدميين والبهائمِ، والدعاءِ، والذكرِ، وقراءةِ القرآن الكريم، وأمثال ذلك هي من العبادة، وكذلك حبُّ اللهِ ورسوله صلى الله عليه وسلم، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاصُ الدين له، والصبرُ لحكمه، والشكرُ لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكلُ عليه، والرجاءُ لرحمته، والخوفُ من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله.
وذلك أنَّ العبادةَ هي الغايةُ المحبوبةُ له، والمرضيةُ له، التي خَلقَ الخلقَ لها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *} [الذاريات :56] وبها أرسل جميع الرسل.
والعبادةُ تتضمّنُ كمالَ الحُبِّ ونهايته، وكمالَ الذُّلِّ ونهايته، فالمحبوبُ الذي لا يعظَّمُ، ولا يُذَلُّ له، لا يكون معبوداً، والمعظَّم الذي لا يُحَبُّ لا يكون معبوداً.
ب ـ شروط قبول العبادة:
الشرط الأول ـ الإخلاص: وهذا الشرطُ متعلِّقٌ بالإرادةِ والقصدِ والنيّة، والمقصود به إفرادُ الحقِّ سبحانه وتعالى بالقصد والطاعة.
والنيةُ تقع في كلام العلماء بمعنيين: أحداهما: تمييزُ العبادات بعضِها عن بعضٍ، كتمييز صلاةِ الظهرِ عن صلاة العصر مثلاً. إلى أنْ قال: والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعملِ: هل هو لله وحده لا شريك له، أم لله وغيره؟ وهذه النيةُ هي التي يتكلّم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه.
والأدلةُ على هذا الأصل في القرآن والسنة وكلام علماءِ الأمة ومن سارَ على نهجهم كثيرةٌ، فمن القرآن الكريم قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ *أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ *} [الزمر :2 ـ 3] أي لا يقبلُ الله من العملِ إلا ما أخلصَ فيه العاملُ للهِ وحده، لا شريك له. وقوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ *} [الاعراف :29] .
ومن الأحاديث النبوية قوله صلى الله عليه وسلم: «إنمّا الأعمالُ بالنيّاتِ، وإنمّا لكلِّ امرىءٍ ما نوى، فمن كانتْ هجرتهُ إلى اللهِ ورسولِهِ، فهجرتُه إلى اللهِ ورسولهِ، ومَنْ كانتْ هجرتُه لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحُها فهجرتُه إلى ما هاجرَ إليه».
وفي حديث أبي هريرة قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «إنَّ أوَّل الناسِ يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد، فأتي به، فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيكَ حتى استشهدتُ، قال: كذبتَ، ولكنّكَ قاتلتَ لأن يقال جريءُ فقد قيل. ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه حتى أُلقي في النار.
ورجلُ تعلّمَ العلمَ، وعلّمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرّفه نعمَه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلّمتُ العلمَ وعلَّمتُه، وقرأتُ فيكَ القرآن، قال: كذبتَ، ولكنّك تعلّمتَ العلمَ ليقالَ: عالمٌ، وقرأتَ القرآن ليقالَ: هو قارئ، فقد قيل. ثم أُمِرَ به، فسُحِبَ على وجهه، حتى أُلقي في النار.
ورجلٌ وسّعَ الله عليه، وأعطاه من أصنافِ المالِ كله، فأُتي به، فعرّفه نعمَه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ مِنْ سبيلٍ تحبُّ أن ينفقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لك، قال: كذبتَ، ولكنّك فعلتَ ليقالَ: هو جوادٌ، وقد قيل، ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه، حتى ألقي في النار.
الشرط الثاني الموافقة للشرع:
وأما الأدلة من القرآن فكثيرة منها:
قوله تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن{سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *} [الانعام :153] وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء :125] .
أما الأدلة بين السنة النبوية فكثيرة منها:
وقوله صلى الله عليه وسلم: «تركتُ فيكم أمرينِ لن تضلّوا ما تمسّكتُم بهما، كتابَ الله وسنّةَ رسولهِ». وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أحدثَ في أمرِنا هذا ما ليسَ مِنْهُ فهو رَدٌّ».وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد تركتُكم على مِثْلِ البيضاءِ، ليلِها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلاّ هالكٌ».
وعن مطرّف بن عبد الله يقول: سمعتُ مالكَ بنَ أنسٍ إذا ذُكِرَ عنده الزائغين في الدين يقول: قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: سَنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وولاةُ الأمر بعدَه سُنناً، الأخذُ بها اتّباعٌ لكتابِ اللهِ عزّ وجلّ، واستكمالٌ لطاعةِ اللهِ عزّ وجلّ، وقوةٌ على دينِ الله تبارك وتعالى، ليسَ لأحدٍ مِنَ الخَلْقِ تغييرُها ولا تبديلُها، ولا النظرُ في شيءٍ خلافها، مَنِ اهتدى بها فهو مهتدٍ، ومن استنصرَ بها فهو منصورٌ، ومن تركَها واتّبعَ غيرَ سبيلِ المؤمنين ولاّه اللهُ تعالى ما تولَّى، وأصلاه جهنّم، وساءت مصيراً.
ومما روي عن الفُضيل بن عياض أنّه تلا قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك :2] فقال: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إذا كان العملُ خالصاً ولم يكن صواباً، لم يُقْبَلْ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقْبَلْ، حتى يكونَ خالصاً صواباً، والخالصُ إذا كان لله عزّ وجلّ، والصوابُ إذا كان على السنّة.
وبعد ذكر شَرْطَي العبادةِ المقبولةِ عند الله سبحانه وتعالى يتبيّنُ أنَّ دينَ الإسلام مبنيٌّ على أصلين:
الأصل الأول: أن نعبد الله وحده لا شريك له.
والأصل الثاني: أن نعبده بما شرع من الدين، وهو ما أمرت به الرسل.
إنّ الغاية من خلق الإنسانِ وكتابةِ الموتِ والحياةِ عليه واضحٌ في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك :2] والأحسنُ عملاً يتضمّن أمرين: كما فسر ذلك الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ: عندما قال: أحسنه أي: أخلصَه وأصوبَه. فأخلصه: هو «لا إله إلا الله»، وأصوبه: هو «محمد رسول الله»، وهو الذي أشارت إليه سورةُ الفاتحة ـ أم القرآن الكريم ـ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *} [الفاتحة :6 ـ 7] . والذين أنعمَ اللهُ عليهم هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته ـ رضوان الله عليهم ـ والذين ساروا على هذا الصِّرَاطَ المُستَقِيم أي: الصوابِ الموصلِ للغاية، وهذا الطريقُ وسطٌ بين طرفين.
يمكنكم تحميل كتاب سلسلة أركان الإيمان (1)
كتاب الإيمان بالله
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book174.pdf