الآثار السيئة للحكم بغير ما أنزل الله تعالى
د. علي محمد الصلابي
الحلقة: الثانية والعشرون
شعبان 1441ه/ أبريل 2020م
إنَّ للحكمِ بغيرِ ما أنزلَ اللهُ اثاراً دنيويةً وأخرويةً سيئةً، تبدو على الحياةِ في وجهتها الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، تصيبُ بشررِها محاسنَها، وتشوِّه معالمَها، وبذلك تتحوّل الحياةُ إلى فتنةٍ في الدنيا والآخرة، فالله عزَّ وجلَّ حذّرنا من مخالفة الأوامرِ الشرعيّة في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *} [النور :63] أي: فليحذرْ وليخشَ من خالفَ شريعةَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم باطناً أو ظاهراً أي: في قلوبهم من كفرٍ أو نفاقٍ أو بدعةٍ أي: في الدنيا {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *}، أو حَدٍّ، أو حبسٍ، أو نحو ذلك.
إن المجتمعاتِ والشعوبَ التي تُسلِمُ قيادتها للحكام الذي يحكمونها بغير شريعةِ اللهِ تدفعُ ضريبةَ التخلِّي عن الحكم بما أنزل الله من أموالِها وأعراضِها وعقولِ أبنائها، وغير ذلك من ثرواتها الأدبيّةِ والماديّةِ، ذلك إلى جانب ما يجرُّه التَّخلِّي عن الحكمِ بما أنزل الله من الجوع والخوفِ وضنكِ العيش، وغضبِ اللهِ في الدنيا والآخرة. وإليك بعض الاثار المترتبة على الحكم بغير ما أنزل الله في الدارين:
1 ـ قسوة القلب:
قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة :13] فهم لمَّا نقضوا ميثاقَ اللهِ على السّمعِ والطاعةِ، وساءَ تصرُّفهم في آيات اللهِ، وتأوّلوا كتابَ الله على غيرِ ما أنزله، وحملوه على غيرِ مراده، وقالوا عليه ما لم يقل، ثم تركوا العملَ بهِ رغبةً عنه، جعلَ الله قلوبهم قاسيةً، فلا يتّعظون بمواعظه لغلظِ قلوبهم وقساوتها، وهذا من أعظم العقوباتِ التي يُخْذَلُ بها القلب، ويُمنعُ الألطاف الربانية، ولا يزيدُه الهدى والخيرُ إلا شرّاً. وهكذا الشأنُ في كلِّ من عدلَ عن شرعِ اللهِ، مُحكِّماً عقله وهواه، فجزاؤه أن يُطبعَ على قلبه قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ *} [الجاثية :23]
2 ـ الضلالُ عنِ الحقِّ:
قال تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ *} [ص :26] ومعلومٌ أنَّ نبيَّ الله داود عليه السلام لا يحكمُ بغيرِ الحقِّ، ولا يتّبع الهوى فيضله عن سبيل الله، ولكنَّ الله تعالى يأمُرُ أنبياءَه عليهم السلام، وينهاهم، ليُشرِّعوا لأممهم.
وقد جاء التحذيرُ الصريحُ من خطورةِ اتّباع الأهواء، وتقديمها على أحكام الله تعالى، وأنّه ليس لمؤمنِ ولا مؤمنةٍ أن يكونُ له اختيارٌ عند حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فما أمرَ الله هو المتّبعُ، وما أرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو الحقُّ، ومن خالفهما في شيءٍ فقد ضلَّ ضلالاً مبيناً، لأنَّ الله تعالى هو المقصد، والنبيَّ صلى الله عليه وسلم هو الهادي الموصل، فمن ترك المقصِد، ولم يسمع قول الهادي، فهو ضالٌّ قطعاً، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً *} [الاحزاب :36] .
3 ـ الوقوع في النفاق:
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا *فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقًا *} [النساء :61 ـ 62] يُبتلَى بالنفاقِ مَنْ يضمِرون الكراهيةَ لشرع الله تعالى، حتى تصيرَ قلوبُهم مريضةً بهذا النفاقِ، فيحاولون جهدَهم أن يُخفوا نفاقَهم، ظانِّين أنَّ ذلك أمرٌ ممكن، ولكنْ يأبَى اللهُ تعالى إلاّ أن يفضحَ المنافقين بفلتات ألسنتهم، قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لأََرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ *}[محمد: 29 ـ 30] و(الأضغانُ): جمعُ ضِغنٍ، وهو ما في النفوسِ من الحَسَدِ، والحِقْدِ، والعداوةِ للإسلامِ وأهلِهِ، القائمين بنصرِهو(لحن القول): ما يبدو من كلامهم الدّالِّ على مقاصِدهم بالتعريض أو التورية.
إنّ شأنَ المنافقين الدائم هو الاستهزاءُ بالشريعة وحملتِها، والإعراضُ عمّا أنزل الله تعالى، والصدُّ عن سبيله، وقد كانوا يُشفقون من افتضاح نفاقهم بهذا الاستهزاء والإعراض، حتّى قال قائلهم: واللهِ لوددتُ أنِّي قُدِّمتُ فجُلدتُ مئةً، ولا ينزل فينا شيءٌ يفضحنا، فأنزل الله تعالى فيهم: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ *} [التوبة :64 ـ 66] .
4 ـ الحرمان من التوبة:
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ *} [المائدة :41] نزلت هذه الآية الكريمةُ في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم المقدِّمين آراءَهم وأهواءَهم على شرائع الله عز وجل أي: أظهروا الإيمان {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}، وقلوبُهم خرابٌ، خاويةٌ منه، وهؤلاء المنافقون أعداء الإسلام وأهله والجريمة التي اقترفها هؤلاء هي انحرافهم عن شريعة الإسلام بتبعيضها تارة، وأخرى بتحريفها حسب أهوائهم وشهواتهم، ومصالحهم الدنيئة، فجاءت عقوبتهم متلائمة مع فظاعة جرمهم، الحرمان من التوبة (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) أي: إن الله تعالى حتم عليهم ألا يتوبوا من ضلالهم وكفرهم، فلم يرد الله أن يطهر من دنس الكفر ووسخ الشرك قلوبهم بطهارة الإسلام فيتوبوا.
ودلّت الآية الكريمةُ على أنّ مَنْ كان مقصودُه بالتحاكم إلى الحُكم الشرعي اتّباعَ هواه، وأنّه إنْ حُكِمَ له رضيَ، وإن لم يُحْكَمْ له سَخِطَ، فإنَّ ذلك مِنْ عدمِ طهارةِ قلبه، كما أنَّ مَنْ حاكمَ أو تحاكمَ إلى الشرعِ، ورضيَ به، وافقَ هواه أو خالفَه، فإنّه من طهارةِ القلبِ. ودلَّت أيضاً: على أنَّ طهارةَ القلبِ سببٌ لكلِّ خيرٍ، وهي أكبرُ داعٍ إلى كلِّ قولٍ رشيدٍ، وعملٍ سديدٍ.
كما دلّت على الخزي لليهود والمنافقين، فبالإضافة لعدم طهارةِ قلوبهم فإنَّ هناك خزياً يلاحِقُهم، ويحيطُ بهم من جميع الجهات، قال تعالى: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} اليهودِ: فضيحتُهم بظهورِ كذبهم في كتمان نصِّ الله تعالى في إيجابِ الرجم، وأخذ الجزية منهم، وخزي المنافقين: هتكُ أستارِهم باطّلاع الرسول صلى الله عليه وسلم على كذبهم وخوفهم من القتل.
5 ـ الصَّدُّ عن سبيلِ اللهِ:
قال تعالى: {اشْتَرَوْا بِآيات اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [التوبة :9] فهذا حديثُ القرآن الكريم عن مشركي العرب الذين اعتاضوا عن اتّباع شرع الله، بما اهتموا به من أمور الدنيا الخسيسة، صادّين الناسَ عن الإسلام.
وهناك صنفان متقابلان من أهل الكتاب، تحدّث القرآن الكريم عنهم في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا *وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا *} [النساء :160 ـ 162] ففريقٌ توعّدهم الله تعالى بالعذابِ الأليم، لتعاطيهم الرِّشوة على الحكم، فصدّوا الناسَ عن الدِّين، إضافةً إلى أكلهم الرِّبا، وأموال الناس بالباطل، وفي مقابلهم فريقٌ استحقّوا الاجرَ العظيم، لإيمانهم بالشريعة المنزَّلة، ثم إيمانهم بالشريعة الحقّة الناسخة، فكانوا مثلاً يُقتدى بهم.
ولهذا الارتباط الوثيق بين الانحراف عن شرع الله والصَّدِّ عن دينه، استحقَّ الصَّادون عن سبيلهِ اللعنةَ والطردَ من رحمته، قال تعالى:(ونادى أصحاب الجنة
أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُّمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخرة كَافِرُونَ *} [الاعراف :44 ـ 45] .
6 ـ غيابُ الأمن وانتشارُ الفوضى:
قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى *أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى *} [العلق :6 ـ 7] والطغيانُ هو الصفةُ السائدةُ في الإنسانِ عندما يكونُ في معزلٍ عن شرح الرحمن، ولو تأمّلنا وصفَ القرآن الكريم للإنسان بمعزلٍ عن الإيمان، لوجدناه عجباً، فهو ضعيفٌ أمام المغريات، ونسيٌّ للإحسان، وظلومٌ في الحقوق، وكَفَّارٌ للنعم، ومجادِلٌ بالحق أو الباطل، وعجولٌ متسرِّعٌ، وناكرٌ للفضلِ، وبخيلٌ بما عنده، وشديدٌ في الخصومةِ، وشَرِهٌ في جلبِ الخير لنفسِه،وقنوطٌ إذا عجزَ عن جلبِ هذا الخير، وهَلِعٌ جَزِعٌ إذا أصيبَ بضُرٍّ، أو ألمَّ به شَرٌّ، وهو ضانٌّ بالخيرِ إذا تحصّل عليه، ولا يمكن أن تواجه وتعالج وتهذَّب طباعُ هذا المخلوقِ إلا بشريعةٍ مِنْ عندِ خالقِهِ: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ *} [الملك :14] وكيف نتخيَّلُ مجتمعنا يُتْرَكُ فيه الإنسانُ كالوحش الضاري، أو السَّبعِ الكاسر، دونما شريعةٍ تطهِّر قلبه وجوارحه.
إنَّ تحقيقَ الأمنِ في المجتمعاتِ مرتبطٌ بتطبيق شرع لله، فقد خَصَّ اللهُ عزَّ وجلَّ مَنْ طبّقَ شرعَهُ، وحقَّقَ شريعتَه بالأمن، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ *} [الانعام :82] والمتأمِّلُ في حالِ المجتمعاتِ غير المحكومة بحكمة الشريعة، وضبطها للأمور يرى كثرةَ القتلِ والاغتصابِ، واستباحةَ الأموالِ بكلِّ الطرق والأشكالِ، وانتشارَ الفواحشِ والزنا والفجورِ والخَنا، والآدمانِ، واللصوصيةِ، والجاسوسيّةِ، والتحاسدِ، والشُّحِّ، والبخلِ، والجهلِ، والظُّلمِ، وهذا كلُّه من مظاهر غياب الأمن المرتبط بتحكيم شرع الله.
7 ـ انتشارُ العداوةِ والبغضاءِ:
قال تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة :64] .
فاليهودُ لمّا خالفوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وكذَّبوه، ولم ينقادوا لشريعته، أخبر الله عزّ وجلّ أنَّ قلوبهم لا تجتمع، بل العداوةُ واقعةٌ بينهم دائماً، لأنهم خالفوا شريعةَ الحقِّ.
والنصارى بتركهم بعضَ ما ذُكِّروا به من شريعتهم، ثم تكبُّرِهم عن اتّباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانت عاقبتُهم كعاقبةِ إخوانهم اليهود، قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ *} [المائدة :14] .
والأمةُ الإسلامية وعظها الله تعالى بالعداوةِ المُلقاةِ فميا بين طوائف اليهود والنصارى، حتّى لا تقعَ فيما وقعوا فيه، فالرعيةُ تُلقى بينهم العداوات إذا رغبتْ عن شرعِ اللهِ، فمتى تركَ الناسُ بعضَ ما أمرهم الله به، وقعتْ بينهم العداوةُ والبغضاءُ، وإذا تفرّقَ القومُ فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا.
وإذا خرجَ ولاةُ الأمورِ عن الحكمِ بين الناس بالكتاب والسنة، فقد حكموا بغير ما أنزلَ الله، ووقع بأسهم بينهم، وهذا مِنْ أعظمِ أسباب تغيير الدول.
وقد تعوّذَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من مغبةِ تركِ الحكم ما أنزل الله، وعدَّ ذلك من أعظم أسـبابِ وقـوعِ العداوةِ والبغضـاءِ بين المسلمين، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قـال: أقبل علينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقـال: «يا معشرَ المهـاجريـن، خمسٌ إذا ابتليتُم بهنَّ وأعوذُ بالله أن تُدركوهنَّ ... وما لم تحكم أئمتُهم بكتابِ الله ويتخيّروا مِما أنزلَ الله، إلا جعلَ الله بأسهم بينهم».
8 ـ الحرمانُ من النصر والتمكين:
قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ *} [ ال عمران: 160] وليس شيءٌ أدعى للخذلانِ والحرمانِ من النصر والتمكين مثل هجر التحاكم إلى شريعة الله تعالى، وعدم نصرِها في الأرض، ويُعتبر ذلك إخلالاً بشرط النصر المنصوص عليه في آيات كثيرة من كتاب الله، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ *} [محمد :7] والمعنى: إنْ تنصروا دينَ اللهِ وشريعتهَ بالعملِ بها وتعظيِمها ينصرْكُمُ الله على أنفسكم، وعلى أعدائكم من شياطين الجنّ والإنس، فإنَّ الجزاءَ من جنس العمل.
وقد نصَّ القرآن الكريم على كيفية نصر الدين والشريعة في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ *} [الحج :41] والآية الكريمةُ تدلُّ على أنَّ الذين لا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، ليس لهم وعدٌ مِنَ اللهِ بالنصرِ البتةَ... فالذين يرتكبون جميع المعاصي ممّن يتسمّون باسم المسلمين، ثم يقولون: (إن الله سينصرنا) مغرورون، لأنّهم ليسوا من حزبِ اللهِ، الموعودين بنصره، كما لا يخى.
ومعنى نصرُ المؤمنين لله، نصرُهم لدينه ولكتابه، وسعيهم وجهادُهم في أن تكونَ كلمتُه هي العليا، وأن تقامَ حدودُه في أرضه، وتُمْتَثَلَ أوامرُه، وتُجْتَنَبَ نواهيه، ويُحْكَمَ في عبادِه بما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم.
9 ـ هولُ العقابِ الذي ينتظرُ المبدّلين لشرعِهِ:
قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلَالاً قُلْ أآلله أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ *} [النساء :59 ـ 60] ففي هذه الآيات الكريمةُ أنكرَ الله تعالى على مَنْ حرّمَ ما أحلَّ الله، أو أحلَّ ما حرَّم الله، بمجرّد الاراءِ والأهواء، التي لا مستندَ لها، ولا دليلَ عليها، ثم توعّدهم على ذلك يومَ القيامة فقال: أي: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ظنُّهم أنْ يُصنعَ بهم يومَ مرجعهم إلينا يومَ القيامة؟ فهذا استفهامٌ يرادُ منه تهويلُ وتفظيعُ العقابِ الأليم، الذي ينتظِرُ المفترين المتقوّلين على الله، المبدّلين لشرعه، ولذا نُكِّرَ وأُبهم، فمصيرُهم هو أسوأُ المصير، وعقابُهم أوخمُ العقاب. وصيغة الغائب تشمل جنسَ الذين يفترون على الله الكذبَ، وتنتظمهم جميعاً، فما ظنُّهم يا تُرى؟ ما الذي يتصوّرون أن يكونَ في شأنهم يومَ القيامة؟ وهو سؤالٌ تذوبُ أمامَه حتى الجبالَ الصلدةَ الجاسية.
10 ـ الإهانة عند قبض الأرواح:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ *ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ *فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ *ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ *} [محمد :25 ـ 28] هذه الآيات الكريماتُ تهدِّدُ وتتوعّدُ نوعاً من المنحرفين عمَّا أنزل الله تعالى، وهم الذين يطيعون أعداءَ الله ـ كاليهود والنصارى ـ في بعضِ ما يأمرون به، والآيات تصفهم بالردّة بسبب ذلك الفعل، وتتوعّدهم بمصيرٍ مظلمٍ، وعذابٍ مؤلمٍ، يبدأ معهم منذ اللحظات الأولى من مفارقة الدنيا. أي: كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكةُ لقبض أرواحهم، وتعصّت الأرواحُ في أجسادهم، واستخرجها الملائكةُ بالعنفِ والقهرِ والضربِ.
وقال سبحانه في نوع آخر من المنحرفين عن شرعه المنزل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتهِ تَسْتَكْبِرُونَ *} [الانعام :93] فالآية تحكي أحوالَ هؤلاءِ عندَ معاينةِ الموتِ، والخروجِ من الدنيا أي: شدائده وسكراته بالعذابِ ومطارقِ الحديد لقبض أرواحهم أي: أخرجوا أرواحكم من {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ}، أي هاتوا أرواحكم، والأمرُ للإهانةِ والإرهاقِ، إغلاظاً في قبضِ أرواحِهم، ولا يتركون لهم راحةً، ولا يعاملونهم بلينٍ، وفيه إشارةٌ إلى أنّهم يجزعون، فلا يلفظون أرواحهم، وهو على هذا الوجه وعيدٌ بالالام عند النزع، جزاءً في الدنيا على شركهم. أي: الهَوَان أي: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتهِ تَسْتَكْبِرُونَ *}، وتأنفون عن قبول ما أنزله الله في آياته.
11 ـ الأكلُ من النار، وغضبُ الجبار:
قال العليم الخبير: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ *ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقِ بَعِيدٍ *} [البقرة :174 ـ 176].
بعد أن تحدّثتِ الآيات عن بعض أحكام الشريعة مثل تحريم أكلِ الميتةِ، والدمِ، ولحمِ الخنزيرِ، وما أُهلَّ لغيرِ الله به، توعّدت من يكتمون أحكامَ الشريعةِ مقابلَ ثمنٍ قليلٍ يأكلونه، لأنّ كتمانَ الشريعة يسلتزمُ أنواعاً من الانحراف عنها، فهؤلاء الذين يكتمون الحقَّ المنزل، لقاءَ ثمنٍ رخيصٍ، إنّما يأتون حراماً، يعذّبهم الله عليه بنار جهنم، يأكلونها في بطونهم الجشعة، فهي نارٌ على الحقيقةِ، يأكلونها يومَ القيامة، جزاءَ ما اقترفوا من أكلِ الرشوةِ على الدين، والذي هو أعظم من عذاب النار، غضبُ الله عليهم، وإعراضهُ عنهم أي: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} يطهِّرهم من الأخلاق الرَّديئةِ، إذ ليسَ لهم أعمالٌ تصلحُ للمدح والرِّضا والجزاء عليها، بل يعذّبهم عذاباً أليماً، لأنهم تركوا كتابَ الله، وأعرضوا عنه، وعن التحاكم إليه في الدنيا، واختاروا الضلالة على الهدى، والعذابَ على المغفرة.
12 ـ العذابُ المهينُ:
ذكر العزيزُ الحكيمُ جوانبَ من أحكامِ الشريعة في صدرِ سورةِ النساء، والمتمثّلة في بيان أموال اليتامى، وأحكامِ الأنكحةِ، وأحوالِ المواريثِ والوصايا، ثم ذكر بعدَ ذلك الوعد والوعيد، ترغيباً في الطاعة، وترهيباً من المعصية، فقال سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *} [النساء :13] فهذا هو الوعدُ.
أما الوعيد فهو قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ *}[النساء: 14] فكلُّ من اعتدى على حدود اللهِ تعالى، مُكذِّباً أو جاحداً، أو مُبدِّلاً أو مبغضاً، فهو متوعَّدٌ بهذا العذاب المهين، لأنّه غيَّرَ ما حكمَ الله به، وضادَّ الله في حُكمِه، وهذا إنّما يصدر عن عدمِ الرّضا بما قسمَ الله، وحكمَ به، ولهذا يُجازيه الله بالإهانةِ في العذاب الأليم.
هذه هي أهم الآثار السيئة للحكم بغير ما أنزل الله، قال الشاعر (من الكامل):
واللهِ ما خوفي الذنوبَ فإنّها لعلى طريقِ العفوِ والغفرانِ
لكنّما أخشى انسلاخَ القلبِ عن تحكيمِ هذا الوحيِ والقرآن
يمكنكم تحميل كتاب سلسلة أركان الإيمان (1)
كتاب الإيمان بالله
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book174.pdf