شرح بعض الآيات التي تحدثت عن الإيمان
د. علي محمد الصلابي
الحلقة: السادسة و العشرون
شعبان 1441ه/ أبريل 2020م
الأولى ـ زينة الإيمان:
قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ *} [الحجرات :7] لمّا كانتِ المعاصي بعضُها كفرٌ، وبعضُها ليس بكفرٍ، فَرَّقَ بينها فجعلها ثلاثةَ أنواعٍ: نوعٌ منها كفرٌ، ونوعٌ منها فسقٌ ليس بكفر، ونوعٌ عصيان ليس بكفر ولا فسق. وأخبر أنّه كرهها كلَّها للمؤمنين.
ولمّا كانتِ الطاعاتُ كلُّها داخلةٌ في الإيمان، وليس فيها شيءٌ خارجٌ عنه لم يفرِّقْ بينها، فيقول: حبب إليكم الإيمان والفرائض وسائر الطاعات، بل أجمل ذلك فقال: فدخل في ذلك جميعُ الطاعات
الثانية ـ نور الإيمان:
قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقَيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *} [النور :35] وقد فُسِّرَ قولُه تعالى: {اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} بكونه منوِّرٌ السماوات، وهادي أهلِ السماواتِ والأرض، فبنوره اهتدى أهلُ السماواتِ والأرض، وهذا إنّما هو فعلُه، وإلاّ فالنورُ من أوصافه، قائمٌ به، ومنه اشتق اسم النور الذي هو أحدُ الأسماءِ الحسنى، والنورُ يضافُ إليه سبحانه على أحدِ وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله. وفي قوله تعالى: وهو أنّ {مَثَلُ نُورِهِ} الإيمان يكونُ من الله، عندما يشرحُ صدر عبدِه المؤمنِ للإسلام، ويجعل له نوراً، فيبدأ به النور والحياة.
وقد شبّه العلمَ المستفاد من الوحي الواصلِ للقلب بالزيت الجيّدِ، فاستدامةُ النورِ وقوتُه وسلامتُه، وتنامي حياة القلب، إنّما تكونُ بالعلم بالكتاب والسنة والعمل به، فهي غذاؤه ومادّةُ حياته.
إنّ ضياءَ النار يحتاجُ في دوامه إلى مادّةٍ تحمله، وتلك المادة للضياء بمنزلةِ غذاء الحيـوانِ، كذلـك نـورُ الإيمان يحتاجُ إلى مادّةٍ من العلم النافع، والعمل الصالح يقومُ بها، ويدوم بدوامها، فإذا ذهبتْ مادّةُ الإيمان طفىء كما تُطْفَأُ النارُ بفراغ مادتها.
إنّ المثلَ دلَّ على أنَّ الإيمانَ يزيدُ وينقصُ، يزيدُ بزيادةِ العلمِ الواصلِ للقلبِ المستفادِ من نورِ الكتابِ والسنةِ، كما ينقصُ بنقصِهِ. ومأخذُ ذلك من المثل هو تشبيهُ العلمِ الذي يمدُّ القلبَ بالمعارِف والحقائقِ الإيمانيةِ بالزيتِ الذي يمدُّ المصباحَ بالوقودِ، وأنَّ المصباحَ يزيدُ ضوؤه، ويصفو بزيادةِ الزيتِ وجودتِهِ، والمؤمنون يتفاوتون بقوّة النورِ الكائن في قلوبهم بحسب ما عندهم من العلم والإيمان، وأكملُ المؤمنينِ نوراً هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم لكمالِ علمِهِ وإيمانِهِ.
إنّ المثلَ دلّ على أنَّ النور الذي يجعله الله في قلوب المؤمنين نور حقيقي، ومأخذُ ذلكَ هو تشبيه ذلك النورِ الذي يُعلمُ معناه، ولا تُعقل كيفيته بنورِ المصباح المحسوس، فالتشبيه بالمحسوس يؤكِّدُ وجودَه وحقيقته.
هناك تشابه بين الفطرة والفتيلة، من حيثُ إنّ كلاًّ منهما في أصلِ خَلْقِهِ وصنعه مهيّأٌ لاستدعاء وتشرُّب ما يناسبه، فالفتيلةُ تتشرَّبُ الوقودَ المناسِبَ، وتمتصُّه، وتتبلَّلُ به، وتصبِحُ مهيأةً به للاشتعال إذا أُوقدت. وكذلك الفطرة على الدين الحنيف التي فطر الله قلوبَ العبادِ عليها مهيأةٌ لاستدعاء ما يناسِبُ ما فُطِرَتْ عليه من التوحيد والدين والحق، فإذا تشّربتْ ما يَرِدُ إليها من ذلك مِنَ العلمِ بالكتابِ والسنّةِ، فإنّها تكونُ مهيأةً لإيقادِ مصباحِ القلبِ، وقذفِ نورِ الإيمانِ بهِ، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم :30] فالله عزّ وجلّ فطر كلَّ الناسِ على معرفته وتوحيده ومحبته، وجبل نفوسَهم على استدعاء وقبول ما يناسب ذلـك من الدين والإسلام. والفطرةُ تزكو بالعلمِ المستمدِّ من الكتابِ والسنةِ، وتطهيرها من مكايد شياطين الإنس والجن، الذين يجتهدون في إفسادِها.
إنَّ المثلَ دلّ على أثرِ نورِ العلمِ والإيمان على العقلِ، حيث أكسبه سلامةَ التعقُّل، وسدادَ النظرِ، وصِحّةَ الاستنتاج، وأنّ الطريق إلى الحقِّ في كلِّ المطالب الدينية إنّما يكونُ بإعمالِ العقلِ المستنيرِ بالوحي النازل على الرسول صلى الله عليه وسلم لاستخلاص الحقائق والمعارف اليقينية وغيرها، وأنّ العقلَ المجرّدَ عن العلم لا سبيلَ له إلى تلك الحقائق.
كما دلَّ المثلُ على أنّ النورَ سطع وأشرق على كلِّ أعمال القلب ووظائفه الأخرى من العقائد، والعواطف، والإرادات، والانفعالات، فأخصبَها بالخيرِ والسلامةِ والصلاحِ.
في قوله دلَّ على {نُورٌ عَلَى نُورٍ} نور القرآن والسنة والعلم المستفاد منهما يغذي نور الإيمان، ويزيدُه ويقوّيه. وفي قوله: دليلٌ على أن {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ *} من الله، نور الإيمان الذي يُقْذَفُ في القلبِ، ونور العلمِ الذي طريقُه الوحي، فمن هُدِيَ إلى الأول، واهتدى بالثاني، فقد أعطاه الله نوراً تاماً، ومن أضلّه الله فليسَ له من نورٍ، بل هو في طريقٍ من طُرِقِ الضلال، سائرٌ في الظلّماتِ.
الثالثة ـ روح الإيمان:
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقَيمٍ *} [الشورى :52] . فسمّى وحيَه روحاً لِمَا يحصلُ به مِنْ حياةِ القلوبِ والأرواح التي هي الحياةُ في الحقيقة، ومن عَدِمَها فهو ميتٌ لا حيٌّ ... وسمّاه نوراً لما يحصل به من استنارةِ القلوبِ وإضاءتها، وكمال الروح بهاتين الصفتين بالحياة والنور، ولا سبيلَ إليهما إلا على أيدي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، والاهتداء بما بعثوا به، وتلقّي العلم النافع والعمل الصالح من مشكاتهم، وإلا فالروحُ ميّتةٌ مظلمةٌ، وإن كان العبدُ مشاراً إليه بالزهد والفقه والفضيلة والكلام في البحوث، فإنّ الحياةَ والاستنارةَ بالروح الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعله نوراً يهدي به مَنْ يشاء من عباده، فليس العلم كثرةَ النقل والبحث والكلام ولكنّه نورٌ يميِّزُ به صحيحَ الأقوالِ من سقيمِها، وحقَّها مِنْ باطِلها، وما هو من مشكاةِ النبوّةِ مما هو من اراء الرجال.
يمكنكم تحميل كتاب سلسلة أركان الإيمان (1)
كتاب الإيمان بالله
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book174.pdf