الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

أسباب قوة الإيمان

د. علي محمد الصلابي

الحلقة: السابعة و العشرون

رمضان 1441ه/ أبريل 2020م

هذا الفصلُ عظيمُ النفعِ والحاجةِ، بل الضرورةُ ماسّةٌ إلى معرفته والعناية به معرفةً واتصافاً، وذلك أنّ الإيمانَ هو كمالُ العبدِ، وبه ترتفعُ درجاته في الدنيا والآخرة، وهو السببُ والطريقُ لكلِّ خيرٍ عاجلٍ وآجل، ولا يحصلُ، ولا يقوى، ولا يتمُّ إلا بمعرفةِ ما منه يُسْتَمَدُّ، وإلى ينبوعه وأسبابه وطُرُقه، والله تعالى قد جعلَ لكلِّ مطلوبٍ سبباً وطريقاً يوصِلُ إليه، والإيمانُ أعظمُ المطالِبِ وأهمُّها وأعمُّها، وقد جعل الله له مواد كثيرةً تجلبه وتقوّيه، كما كانت له أسبابٌ تضعفه وتوهّيه.ومواده التي تجلبه وتقوِّيه أمران: مجملٌ ومفصّلٌ:
أما المجمل فهو: التدّبُر لآيات الله المتلوّةِ من الكتاب والسنة، والتأمل لآياته الكونية على اختلاف أنواعها، والحرص على معرفة الحق الذي خُلِقَ له العبد، والعمل بالحق، فجميعُ الأسبابِ مرجعُها إلى هذا الأصل العظيم.
وأما التفصيل: فالإيمان يحصل ويقوى بأمورٍ كثيرةٍ، منها:
1 ـ معرفة أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة، والحرص على فهم معانيها، والتعبّد لله بها:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ للهِ تسعةً وتسعين اسماً، مئةً إلاّ واحداً، مَنْ أحصاها دخلَ الجنّة» أيْ مَنْ حفظَها، وفهمَ معانيها، واعتقدها، وتعبَّدَ اللهَ بها دخل الجنّةَ، والجنّةُ لا يدخلُها إلا المؤمنون، فعَلِمَ أنَّ ذلك أعظمُ ينبوعٍ ومادّةٍ لحصولِ الإيمان وقوّته وثباته. ومعرفةُ الأسماءالحسنى هي أصلُ الإيمانِ، والإيمانُ يرجِعُ إليها، فكلّما ازداد العبدُ معرفةً بأسماءِ الله وصفاته ازدادَ إيمانه، وقويَ يقينُه، فينبغي للمؤمن أن يبذلَ مقدروه ومستطاعه في معرفة الأسماء والصفات، وتكونَ هذه المعرفة متلقّاةً من الكتاب والسنة، وما روي عن الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ، فهذه المعرفةُ النافعةُ تجعلُ المؤمنَ في زيادةٍ في إيمانه، وقوّةٍ في يقينه، وطمأنيةٍ في أحواله.
2 ـ تدبّر القرآن الكريم على وَجْهِ العموم:
إنَّ المتدبّرَ لا يزالُ يستفيدُ من علوم القرآن ومعارفه ما يزدادُ به إيماناً، كما قال تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *} [الانفال :2] وهو العلاجُ الناجعُ لأمراضِ القلوبِ، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ *} [يونس :57] إنّه موعظةٌ من الله، وهل هناك أبلغُ من الموعظةِ الربانية؟! وأيسرُ منها؟! وأكثرُ نفاذاً إلى القلبِ والضميرِ؟! ففيه الشفاءُ لأمراضِ الشبهاتِ والشهواتِ، وأمراض الهوى والانحراف، وأمراض الشكِّ والشرك، وأمراضِ القلوبِ والنفوسِ، والجوارحِ،
والحواسِ، وأمراض السياسة والاقتصاد والأخلاق والاجتماع والحياة والحضارة، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الاسراء :82] فهو غذاءٌ للروح، وعلاجٌ يشفي النفوسَ من عللِّها، ويكسبُها المناعةَ القويّةَ.
ومن ثمراتِ تدبُّرِ القرآن: أنّه وسيلةٌ لمعرفة ما يريدُ الله منا، وكيفيّةُ عبادَته تبارك وتعالى، ومعرفة ما أنزل الله إلينا، لأنّ القرآن الكريم منهجُ حياةِ أنزله الله عز وجل، وهو أساسُ التشريع الذي يجبُ على العبادِ أن يتدبّروه، ويلتزموا بأوامره، ويجتنبوا نواهيه ليحقّقوا عبادةَ اللهَ تعالى.
وإذا نُظِرَ إلى انتظامِ القرآن الكريمِ وإحكامِهِ، وأنَّه يصدِّقُ بعضُه بعضاً، ويوافِقُ بعضُه بعضاً، ليس فيه تناقضٌ ولا اختلافٌ: تيقّنَ أنه {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ *} [فصلت :42] وأنّه لو كان مِنْ عندِ غيرِ الله لوُجِدَ فيه من التناقضِ والاختلافِ أمورٌ كثيرة، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا *} [النساء :82] وهذا مِنْ أعظمِ مقوّيات الإيمان، ويقوّيه من وجوهٍ كثيرةٍ، فالمؤمنُ بمجرَّد ما يتلو آيات الله، ويعرف ما اشتمل عليه من الأخبار الصادقة والأحكام الحسنة، يحصل له من أمورِ الإيمانِ خيرٌ كبيرٌ، فكيف إذا أحسنَ تأمُّله، وفهمَ مقاصده وأسراره؟ ولهذا كان المؤمنون الكُمَّلُ يقولون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [ ال عمران: 193] .
3 ـ معرفةُ سيرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وشمائله:
فإنَّ مَنْ عرفه حقَّ المعرفةِ لم يَرْتَبْ في صدقه، وصدقِ ما جاء به، قال تعالى: أي: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ *} صلى الله عليه وسلم توجِبُ للعبدِ المبادرةَ إلى الإيمانِ ممّن لم يؤمنْ، وزيادةَ الإيمانِ ممّن آمن به، وقال تعالى مشجِّعاً لهم على تدبّر أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم الداعية للإيمان: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ *} [سبأ :46] وأقسمَ تعالى بكمال هذا الرسولِ، وعظمةِ أخلاقه، وأنّه أكملُ مخلوقٍ قال تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ *مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ *وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ *وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ *} [القلم :1 ـ 4] فهو صلى الله عليه وسلم أكبرُ داعٍ للإيمان في أوصافه الحميدة، وشمائِله الجميلةِ، وأقوالِهِ الصادقةِ النافعةِ، وأفعالِهِ الرشيدةِ، فهو الإمامُ الأعظمُ، والقدوةُ الأكملُ، وقد ذكرَ اللهُ عن أولي الألبابِ الذين هم خواصُّ الخَلْقِ أنّهم قالوا: وهو هذا الرسول الكريم بقوله {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ}، وعملِه ودينِه وجميعِ أحوالِه {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [ ال عمران: 193] أي: إيماناً لا يدخلُه ريبٌ، ولمّا كانَ هذا الإيمانُ مِنْ أعظمِ ما يقرِّبُ العبدَ إلى اللهِ، ومن أعظمِ الوسائلِ التي يحبُّها الله ـ توسُّلوا بإيمانهم أنْ يكفِّرَ عنهم السيئاتِ، وينيلهم المطالبِ العالياتِ قالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ *} [ ال عمران: 193] ولهذا كان الرجلُ المنصِفُ الذي ليسَ له إرادةٌ إلاّ اتباع الحقِّ مجرّد ما يراه ويسمع كلامه يبادر إلى الإيمان به صلى الله عليه وسلم، ولا يرتابُ في رسالته، بل كثيرٌ منهم مجرَّد ما يرى وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم يعرف أنّه ليس وجه كذاب.
4 ـ التفكّرُ في الكونِ والنظرُ في الأنفسِ:
إنَّ التفكُّرَ في الكونِ، وفي خَلْقِ السماواتِ والأرضِ وما فيهنَّ من المخلوقاتِ المتنوّعةِ، والنظرَ في الإنسان، وما هو عليه من الصفات: يقوِّي الإيمانَ، لما في هذه الموجوداتِ من عظمةِ الخَلْق الدّالِ على قدرة خالِقها وعظمته، وما فيها مِنَ الحُسْنِ والانتظام والإحكام الذي يحيِّرُ الألبابَ، الدالَّ على سَعَةِ علم الله، وشمول حكمته، وما فيها من أصنافِ المنافع والنعمِ الكثيرة التي لا تعدُّ ولا تحصى، الدالة على سَعَةِ رحمة الله وجودِه وبره، وذلك كلُّه يدعو إلى تعظيم مبدعها وبارئها وشكره، واللهج بذكره، وإخلاص الدِّين له، وهذا هو روحُ الإيمان وسرُّه.وكذلك النظر إلى فقرِ المخلوقاتِ كلِّها، واضطرارِها إلى ربها من كلِّ الوجوه، وأنها لا تستغني عنه طرفةَ عينٍ، خصوصاً ما تشاهِدُه في نفسِك، من أدلّةِ الافتقار، وقوّة الاضطرار، وذلك يوجِبُ للعبدِ كمالَ الخضوعِ، وكثرةَ الدعاءِ، والتضرّع إلى ربه، وكمالَ الثقةِ بوعده، وشدّةَ الطمع في برّه وإحسانه، وبهذا يتحقَّقُ الإيمانُ، ويقوى التعبّد، فإنَّ الدعاءَ مخُّ العبادةِ وخالصُها.
وكذلك الفكُّر في كثرةِ نِعَمِ الله والائه العامّة والخاصة، التي لا يخلو منها مخلوقٌ طرفةَ عينٍ، فإنَّ هذا يدعو إلى الإيمان، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيات لأُِولِي الأَلْبَابِ *الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *} [ ال عمران: 190 ـ 191] .
5 ـ الإكثارُ مِنْ ذكرِ الله ومن الدُّعاء الذي هو مُخُّ العبادة في كلِّ وقتٍ:
فإنَّ الذكرَ للهِ يغرسُ شجرةَ الإيمانِ في القلب، ويغذّيها وينمّيها، وكلّما ازدادَ العبدُ ذكراً للهِ، قوي إيمانُه، كما أنَّ الإيمانَ يدعو إلى كثرةِ الذكر، فمن أحبَّ الله أكثرَ مِنْ ذكرِه، ومحبّةُ اللهِ هي الإيمانُ، بل هي روحُه.
وللذكرِ آثارٌ نافعةٌ في حياة المسلمين الدنيوية والأخروية منها:
أ ـ الحياة الطيبة الحقيقية:
فالحياة هي حياةُ الروحِ المتغذّية بالوحي الإلهي، المتعلِّق قلبُ صاحبها بذكر الله، وهي التي وصفَها الله بالحياةِ الطيبة بقوله سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [النحل :97] وبقوله أيضاً: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [يونس :3] فذِكْرُ اللهِ تعالى ومحبّتُه وطاعتُه، والإقبالُ عليه ضامِنٌ لأطيَبِ الحياةِ في الدنيا والآخرة، والإعراضُ عنه ومعصيتُه كفيلٌ بالحياة المنغّصة، والمعيشة الضنك في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى *} [طه :124] وعلى هذا فحياةُ الروح والقلبِ هذه لا يحياها ولا يذوقُ طعَمها إلا الذاكِرُ لله سبحانه وتعالى، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الذي يَذْكُرُ ربَّهُ، والّذِي لا يَذْكُرُ ربَّه، مثلُ الحيِّ والميِّتِ»، فما بين الذاكِر والغافلِ هو ما بين الحيِّ والميّتِ، وشتّان ما بينهما، فسبحان مَنْ أشهدَ عباده جنّته قبلَ لقائه، وفتحَ لهم أبوابها في دارِ العملِ، فاتاهم مِنْ روحِها ونسيمِها وطِيْبِها حتّى قال قائلهم: مساكينُ أهلُ الدنيا، خرجوا منها، ولم يذوقوا أطيبَ ما فيها؟!
قيل: ما أطيبُ ما فيها؟
قال: محبّةُ الله تعالى ومعرفتُه وذكره.
فالذاكر بين الغافلين هو كالحيِّ بين الموتى حياةً متكاملةً في البدن والروح والشعور، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [الانعام :122] .
ب ـ القّوةُ في الأبدانِ وإحياءَ المعاش والجهاد:
إنّ الذكرَ يعطي الذاكرَ قوّةً حتى إنّه ليفعلُ مع الذكر ما لم يكن يظنُّ فعلَه بدونه، وشاهِدُ ذلك موقفُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مع ابنته فاطمة وعلي رضي الله عنهما، لمّا سألته خآدماً، وشكت إليه ما تقاسيـه من الطحـن والسعي والخدمة، فعلمَّهما أنْ يسبِّحَا كلَّ ليلةٍ إذا أخذا مضاجعهما ثلاثاً وثلاثين، ويحمدا ثلاثاً وثلاثين، ويكبِّرا أربعاً وثلاثين، وقال لهما: «فهذا خيرٌ لكما من خادم»، فقيل: إنَّ مَنْ داومَ على ذلك وجدَ قوّة في يومه مغنيةٌ عن خادم.
ج ـ رقَّةُ القلبِ وخشوعُه:
إنَّ ذكرَ اللهِ يوجِبُ خشوعَ القلب وصلاحَه ورِقَّتَه، ويذهِبُ الغفلةَ عنه، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ *} [الرعد :28] وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر :23] .
د ـ النجاة من عذاب الله تعالى:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عَمِلَ آدميٌّ عملاً قط أنجى له مِنْ عذابِ اللهِ مِنْ ذكرِ اللهِ»، وهذه نهايةُ الغايات، وأعظمُ المطالبِ، وهي أُوْلى اثارِ الذكر وثمارُه، وأجلُّ فوائِده في المعاد.
هـ الذاكر من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة:
ذكرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من السبعةِ الذين يظلُّهم اللهُ في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلاّ ظلِّه: «ورجلٌ ذكرَ الله خالياً ففاضتْ عيناه».
و ـ تكثيرُ الشهودِ يومَ القيامة:
فكلُ معالمِ الأرضِ تأتي شاهدةً للذاكرين يومَ تحدِّثُ الأرض أخبارها، فالجبالُ والقِفارُ تتباهى وتستبشِرُ بمن يذكرُ الله عزّ وجلّ عليها، قال ابن مسعود:إنَّ الجبلَ لينادِي الجبلَ باسمه، يا فلان!هل مرَ بكَ اليومَ أحدٌ يذكرُ الله عزّ وجلّ؟ فإذا قال: نعم استبشرَ.
6 ـ معرفة محاسن الدين:
من الأسبابِ المقوّية للإيمانِ معرفةُ محاسنِ الدين، فإنَّ الدينَ الإسلاميَّ كلُّه محاسنُ، عقائدُه أصحُّ العقائدِ وأصدقُها وأنفعُها، وأخلاقهُ أحمدُ الأخلاقِ وأجملُها، وأعمالُه وأحكامُه أحسنُ الأحكامِ وأعدلُها، وبهذا النظرِ الجليلِ يزيِّنُ اللهُ الإيمانَ في قلبِ العبدِ، ويحبّبه إليه، كما امتنّ به على خيار خلقه بقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات :7] فيكونُ الإيمانُ في القلبِ أعظمَ المحبوباتِ، وأجملَ الأشياءِ، وبهذا يذوقُ العبدُ حلاوةَ الإيمانِ، ويجدُها في قلبه، فيتجمَّلُ الباطنُ بأصولِ الإيمانِ وحقائقه، وتتجمّل الجوارحُ بأعمالِ الإيمانِ، وفي الدعاء المأثور: «اللهمّ زيّنا بزينةِ الإيمانِ، واجعلنا هداةً مهتدين».
ومن النماذجِ الرفيعة في القدرة على عرض محاسن الإسلام على الآخرين ما قام به جعفرُ بنُ أبي طالب رضي الله عنه في عرض محاسن الإسلام على النجاشي ملك الحبشة، وكان ذلك سبباً في إسلامه وهدايته، فقد قال جعفر رضي الله عنه، وكان هو المتكلِّم عن المسلمين: أيُّها الملِكُ، كنّا قوماً أهلَ جاهليةٍ، نعبدُ الأصنامَ، ونأكلُ الميتةَ، ونأتي الفواحشَ، ونقطعُ الأرحامَ، ونُسِيْءُ الجوارَ، ويأكلُ القويُّ منّا الضعيفَ، فكنّا على ذلك، حتى بعثَ الله إلينا رسولاً منا، نعرفُ نسبَه وصدقَه وأمانتَه وعفافَه، فدعانا إلى الله لنوحّدَه ونعبدَه، ونخلعَ ما كنّا نعبدُ نحن واباؤنا من دونه من الحجارةِ والأوثانِ، وأمرنا بصدقِ الحديثِ، وأداءِ الأمانةِ، وصلةِ الرحمِ، وحُسنِ الجوارِ، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكلِ مالِ اليتيمِ، وقذف المحصنات.
وأمرنا أن نعبدَ الله وحدَه لا نشركُ به شيئاً، وأمرنا بالصلاةِ والزكاةِ والصيامِ، (قال: فعدّدَ عليه أمورَ الإسلامِ) فصدّقناه، وآمنا به، واتّبعناه على ما جاء به من دينِ اللهِ، فعبدنا الله وحدَه فلم نشركْ به شيئاً، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذّبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادةِ الأوثانِ من عبادة الله تعالى، وأنْ نستحلَّ ما كنا نستحلُّ من الخبائثِ، فلمّا قهرونا وظلمونا، وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادِكَ، واخترناكَ على مَنْ سواكَ، ورَغِبْنا في جوارِك، ورجونا أنْ لا نظلمَ عندَك أيُّها الملك.
فقال له النجاشي: وهل معكَ ممّا جاء به عن اللهِ مِنْ شيءٍ؟
فقال له جعفر: نعم.
فقال له النجاشي: فاقرأه عليَّ.
فقرأ عليه صدراً من {كهيعص *} [مريم] . فبكى ـ والله ـ النجاشي حتى اخضلَّتْ لحيتُه، وبكت أساقفتُه، حتى أَخْضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إنَّ هذا (يقصد القرآن الكريم) والذي جاء به عيسى (يقصِدُ الإنجيل) والذي جاء به موسى (يقصد التوراة) ليخرجُ من مشكاةٍ واحدةٍ (أي من مصدر واحد أي من عند الله تعالى) انطلقا، فلا واللهِ لا أسلِّمهم إليكم أبداً، ولا يُكادون (يخاطب عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ـ مندوبي قريش إلى النجاشي) قالت أمُّ سلمـة رضي الله عنهـا: فخرجا من عنده مقبوحينِ، مردوداً عليهما ما جاءوا به، وأقمنا عنده بخيرِ دارٍ مع خير جارٍ، ثم أسلم بعد ذلك النجاشي، وحَسُنَ إسلامه، وأسلم معه أساقفه وبطارقه وكثيرٌ من النصارى في تلك الديار.
كان ردُّ جعفر على أسئلة النجاشي في غاية الذَّكاءِ وقمّةِ المهارة السياسية والإعلامية والدعوية والعقدية فقد قام بالتالي:
• عدّد عيوبَ الجاهلية، وعرضها بصورةٍ تنفِّرُ السامعَ، وقصد بذلك تشويه صورةِ قريشٍ في عَيْنِ الملـك، وركّز على الصفاتِ الذميمـة التي لا تُنْتَـزَعُ إلا بنبـوَّةٍ.
• عرضَ شخصيةَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم في هذا المجتمع الاسن، المليء بالرّذائل، وكيف كان بعيداً عن النّقائص كلها، ومعروفاً بنسبه وصدقه، وأمانته، وعفافه فهو المؤهّلُ للرسّالة.
• أبرزَ جعفرُ محاسنَ الإسلام وأخلاقَه التي تتفق مع أخلاق دعوات الأنبياء، كنبذِ عبادة الأوثان، وصدقِ الحديث، وأداءِ الأمانة، وصلةِ الرحم، وحُسنِ الجوار، والكفِّ عن المحارم والدِّماء، وإقام الصلاةِ، وإيتاءِ الزّكاة، لأنّ النجاشي وبطارقتَه موغلون في النصرانيةِ، فهم يدركون أنّ هذه رسالاتُ الأنبياء، التي بعثوا بها من لدن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام.
• لقد نجحَ جعفرُ رضي الله عنه بتوفيقِ اللهِ في عَرْضِ محاسنِ الإسلام، فأسلمَ الملكُ، وكسبَه إلى جانبه.
7 ـ الاجتهادُ في التحقُّق من مقامِ الإحسان في عبادة الله، والإحسانُ إلى خلقه:
فيجتهدُ أن يعبدَ الله كأنّه يشاهده ويراه، فيجتهدُ في إكمالِ العملِ وإتقانه، ولا يزالُ العبد يجاهِدُ نفسه ليتحقّق بهذا المقام العالي، حتى يقوِّمَ إيمانَه ويقينَه ويصلُ في ذلك إلى حقِّ اليقين الذي هو أعلى مراتبِ اليقين، فيذوقَ حلاوةَ الطاعاتِ، ويجدَ ثمرةَ المعاملاتِ، وهذا هو الإيمانُ الكامِلُ.
وكذلك الإحسانُ إلى الخلقِ بالقول والفعل والمال والجاه وأنواع المنافع هو من الإيمان، ومن دواعي الإيمان، والجزاء من جنس العمل، فكما أحسنَ إلى عبادِ اللهِ، وأوصلَ إليهم من برّه، أحسنَ الله إليه أنواعاً من الإحسانِ، ومن أفضلها: أن يقوّيَ إيمانه ورغبتَه في فعل الخير، والتقرّب إلى ربه، وإخلاص العمل له، وبذلك يتحقّق العبدُ بالنصح لله ولعباده، فإنّ الدّينَ النصيحةُ، ومن وُفّقَ للإحسان في عبادة ربه، والإحسانِ في معاملةِ الخلق، فقد تحقّق نصحُه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل :90] وقال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ *} [ ال عمران: 134]، وقال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *} [الاعراف :56] وقال تعالى: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ *} [هود :115] وقال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ *} [الرحمن :60] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل :128] فالمحسنون يشعرون بمعيّةِ الله، فيا له من شعورٍ عظيمٍ يستحقّه المحسنون!.
8 ـ الدعوة إلى الله:
ومن دواعي الإيمان وأسبابه الدعوةُ إلى اللهِ وإلى دينه، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والدعوة إلى أصل الدين، والدعوة إلى التزام شرائعه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنّ طريقَ الدعوة إلى الله والنصيحة لعباده من أكبر مقوّمات الإيمان، وصاحبُ الدعوة لابدَّ أن يسعى لنشر هذه الدعوة، ويقيمَ الأدلّة والبراهينَ على تحقيقها، ويأتيَ الأمور من أبوابها، ويتوسّلَ إلى الأمورِ من طرقها، وهذه الأمورُ من طرق الإيمان وأبوابه، وإنّ الجزاءَ من جنسِ العمل، فكما سعى إلى تكميلِ العبادِ ونصحِهم وتوصيتهم بالحق، وصبر على ذلك لا بّد أن يجازيه الله من جنس عمله، ويؤيّده بنورٍ منه وروحٍ وقوةٍ وإيمانٍ وحُسنِ التوكُّل عليه، فإنَّ الإيمانَ وحُسْنَ التوكل على الله يحصلُ به النصرُ على الأعداء، وعلى شياطينِ الإنس وشياطين الجن، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *} [النحل :99] وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ *وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ *وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ *} [فصلت :33 ـ 35] .
9 ـ توطينُ النفس على مقاومة ما ينافي الإيمان:
ومن أهمِّ موادّ الإيمان ومقوياته توطينُ النفس على مقاومة ما ينافي الإيمان من شُعَبِ الكفر والفسوق والعصيان، فكما أنّه لا بدّ في الإيمان من فعلِ جميعِ الأسباب المقوّيةِ المنمّية له، فلا بدَّ مع ذلك من دفعِ الموانعِ والعوائق، وهي الإقلاعُ عن المعاصي، والتوبةُ ممّا يقع منها، وحفظُ الجوارح كلِّها من المحرّمات، ومقاومةُ فتن الشبهاتِ القادحةِ في علوم الإيمان، والمضعفة له، والشهواتِ المضعفةِ لإرادات الإيمان، فإنّ الإرادات ـ التي أصلُها الرغبةُ في الخير ومحبته، والسعي فيه ـ لا تترك إلا بترك إراداتِ ما ينافيها من رغبةِ النفس في الشرِّ، ومقاومةِ النفس الأمارة بالسوء، فمتى حُفِظَ العبدُ من الوقوع في فتن الشبهات وفتن الشهوات تمَّ إيمانه، وقوي يقينه، وصار بستان إيمانه {كَمَثَلِ جَنَّةِ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *} [البقرة :265] ومتى كان الأمر بالعكس، بأن استولت عليه النفس الإمارةُ بالسوء، ووقع في فتن الشبهات أو الشهوات أو كليهما، انطبق عليه هذا المثل، وهو قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ *} [البقرة :266] .
فالعبدُ المؤمنُ الموفَّقُ لا يزالُ يسعى في أمرين:
أحدهما: تحقيقُ أصولِ الإيمان وفروعه، والتحقّق بها علماً وحالاً.
والثاني: السعيُ في دفع ما ينافيها وينقضها أو ينِقصُها من الفتن الظاهرة والباطنة، ويداوي ما قصّر فيه من الأول، وما تجرأ عليه من الثاني، بالتوبة النصوح، وتدارك الأمر قبل فواته، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ *} [الاعراف :201] أي: مبصرون الخلل الذي وقعوا فيه، والنقص الذي أصابهم من طائفِ الشيطان، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان، فإذا أبصروا، تداركوا هذا الخلل بسدّه، وهذا الفتق برتقه، فعادوا إلى حالهم الكاملة، وعاد عدُّوهم حسيراً ذليلاً، وإخوانُ الشيطان، {يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ *} [الاعراف :202] فالشياطينُ لا تُقَصِّرُ عن إغوائهم وإيقاعهم في أشراك الهلاك، والمستجيبين لهم لا يقصّرون عن طاعة أعدائهم، والاستجابة لدعوتهم حتى يقعوا في الهلاك، ويحقُّ عليهم الخسار، ولذلك نكثِرُ من الدعاء: اللهمَّ حَبِّبْ إلينا الإيمانَ وزّينُه في قلوبِنَا، وكرِّه إلينا الكُفْرَ والفُسوقَ والعِصيانَ، واجعلنا مِنَ الرّاشدينَ بفضلِكَ ومنَّتِكَ إنّكَ أنتَ العليمُ الحكيمُ.
10 ـ معرفة حقيقةِ الدُّنيا واعتبارُها ممراً للآخرة:
ومن مقوِّيات الإيمانِ معرفةُ حقيقةِ الدنيا، وأنّها مهما طالتْ فهي إلى زوالٍ، وأنّ متاعَها مهما عَظُمَ، فإنّه قليلٌ حقيرٌ، قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ *} [يونس :24] إنّ الايةَ الكريمةَ السابقة فيها عشرُ جملٍ وقعَ التركيبُ من مجموعها، بحيثُ لو سقطَ منها شيءٌ اختلّ التشبيه، إذ المقصودُ تشبيهُ حالِ الدنيا بسرعةِ تقضّيها، وانقراضِ نعيمها، واغترارِ الناس بها، بحالِ ماءٍ نزلَ من السماء، وأنبتَ أنواعَ العشب، وزيّنَ بزخرفه وجهَ الأرضِ، كالعروس إذا أخذتْ الثيابَ الفاخرة، حتى إذا طمع أهلُها فيها، وظنّوا أنّها مسلمّةٌ من الجوائح، أتاها بأسُ اللهِ فجأةً، فكأنها لم تكن بالأمسِ.
وأخبرنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا *} [الكهف :45] .
أي: واضرب يا محمُّد للناسِ في زوالها وفنائها وانقضائها أي: {مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} فيها من الحَبِّ، فشبَّ، ونما، وحَسُنَ، وعلاه الزهرُ والنضرةُ، ثم بعد هذا كله أي: يابساً أي: تفرِّقه وتطرحه ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ أي: هو قادرٌ على الإنشاء والإفناء.وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ *} [الحديد :20] يقول تعالى مُوهِّناً أمرَ الحياة الدنيا، ومحقّراً لها أي: تفريجُ نفسٍ أي: باطِلٌ أي: منظرٌ جميلٌ أي: بالحسبِ والنّسبِ أي: مطرٍ أي: يُعْجِبُ الزرّاع ذلك {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ}، فإنّهم أحرصُ الناس عليه، وأميلُ الناس إليه أي: ثم يجفُّ بعد خضرته {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا}، وتراه مصفرّاً، أي: من اليبس أي: ثمّ يكونُ بعد ذلك كلّه {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا}، أي: هشيماً منكسراً، وكذلك الدنيا لا تبقى، كما لا يبقى النباتُ الذي وصفناه، ولمّا كان هذا المثلُ دالاً على زوال الدنيا، وانقضائها لا محالةَ، وأنَّ الآخرة كائنةٌ واتيةٌ لا محالةَ، حذّرنا الله تعالى من أمرها، ورغّبنا فيما فيها من الخيرِ، فقال تعالى: أي: وليس في الآخرة الاتيةِ إلا: إمّا هذا وإمّا {وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ}، أي: إمّا عذابٌ شديد، وإمّا مغفرة من الله ورضوان، وقوله تعالى: أي: هي متاعٌ زائلٌ يغرُّ ويخدعُ مَنْ يركنُ إليها وإلى {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ *}، فيغترّ بها، وتعجّبَ ممن يعتقدُ أنّه لا دارَ سواها، ولا معادَ ورائها، مع أنها حقيرةٌ قليلةُ المتاعِ بالنسبة إلى الدّار الآخرة.
إنّ هذه الحقيقةَ التي أشارت إليها الآيات الكريمة، هي حقيقةُ الدنيا بكلِّ متاعها وزينتِها، وما تشتهيه النفسُ منها، وإنَّ كلَّ ذلك بالنسبة لنعيم الآخرة شيءٌ تافه، وقليلٌ وزائلٌ، هكذا فهم المسلمون حقيقةَ الدنيا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبصّرهم، ويذكّرهم بدورهم ورسالتِهم في الأرض، ومكانتِهم عند الله، وظلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم على هذه الحال من التبصير والتذكير حتّى انقدحَ في ذهنهم ما لهم عند الله، وما دورُهم وما رسالتُهم في الأرض، وتأثراً بتربيته الحميدة تـولّد الحمـاسُ والعزيمـةُ في نفوس أصحابه، فانطلقوا عاملين بالليل والنهار بكلِّ ما في وسعهم وما في طاقتهم دون فتور أو توانٍ، ودون كسل أو ملل، ودون خـوفٍ من أحـدٍ إلا الله، ودونَ طمعٍ في مغنـم أو جـاه، إلا أداء هـذا الـدور وهذه الرسـالـة لتحقيق هذه الغـايـة في الدنيا، والفوز والنجاة في الآخرة..


يمكنكم تحميل كتاب سلسلة أركان الإيمان (1)
كتاب الإيمان بالله
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book174.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022