حقيقة العبادة
د. علي محمد الصلابي
الحلقة: الثامنة عشر
شعبان 1441ه/ أبريل 2020م
إنّ دائرةَ العبادةَ الني خلق الله لها الإنسان، وجعلها غايته في الحياة، ومهمته في الأرض دائرةٌ رحبةٌ واسعةٌ، إنها تشمل شؤون الإنسان كلها، وتستوعبُ حياته جميعاً، وتستغرقُ مناشطه، وأعماله كافة، ومن التعريف السابق للعبادة عندما ذكرنا بأنّه: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ـ لا يمكنُ أن يخرجَ شيءٌ من نشاطات الإنسان وأعماله، سواء أكان ذلك في العباداتِ المحضة، أو في المعاملاتِ المشروعة، أو في العاداتِ التي طُبِعَ الإنسانُ على فعلها من دائرة العبادة. وهنا ينبغي لنا الإشارةُ إلى أنَّ الأصلَ في العباداتِ المحضةِ المنعُ، حتى يردَ ما يدلُّ على مشروعيتها، وأنّ الأصلَ في العاداتِ العفوُ، حتى يردَ ما يدلُّ على منـعهـا، وذلك مبني على أنّ تصرّفـات العباد من الأقـوال والأفعـال نوعـان: عباداتٌ يَصْلُـحُ بهـا دينـه، وعاداتٌ يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصولِ الشريعة نعلمُ أنَّ العباداتِ التي أوجبها الله أو أحبَّها لا يثبتُ الأمرُ بها إلاّ بالشرع وحده.
وأمّا العاداتُ: فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصلُ فيها عدم الحظر، فلا يحظر منها إلاّ ما حظره الله سبحانه وتعالى، وذلك لأنّ الأمرَ والنهيَ هنا شرعُ الله.
والعبادةُ لا بدَّ أن يكونَ مأموراً بها، فما لم يثبتْ من العباداتِ أنّه مأمور به، كيف يحكم عليه بأنه عبادة؟ وما لم يثبت من العبادات أنّه منهيٌّ عنه كيف يحكم عليه أنه محظور؟
والعادات الأصلُ فيها العفوُ، ولا يُحْظرُ منها إلاّ ما حرّم الله.
وهذا التقسيم في الحظر والإباحة لا يخرِجُ شيئاً من أفعال الإنسان العادية من دائرةِ العبادةِ لله، ولكنّ ذلك يختلِفُ في درجته ما بينَ عبادةٍ محضةٍ، وعادةٍ مَشُوْبَةٍ بالعبادة، وعادةٍ تتحوَّل بالنيةِ والقصدِ إلى عبادةٍ، لأنَّ المباحاتِ يؤجَرُ عليها بالنيّةِ والقصدِ الحسنِ، إذا صارت وسائلَ للمقاصد الواجبة، أو المندوبة، أو تكميلاً لشيءٍ منها.
قال النووي في شرحه لحديث «وفي بِضعِ أحَدِكُم صدقةٌ»: وفي هذا دليلٌ على أنَّ المباحاتِ تصيرُ طاعاتٍ بالنّيةِ الصادقة.
ومن ذلك يتّضح: أنَّ الدِّينَ كلَّه داخلٌ في العبادةِ، والدَّينُ منهجُ الله، جاءَ ليسعَ الحياةَ كلَّها، وينظِّمَ جميعَ أمورِها من أدبِ الأكلِ والشربِ وقضاءِ الحاجةِ إلى بناءِ الدولةِ، وسياسةِ المالِ، وشؤونِ المعاملاتِ والعقوباتِ، وأصولِ العلاقاتِ الدوليةِ في السلم والحرب.
إنَّ الشعائرَ التعبّدية من صلاةٍ، وصومٍ، وزكاةٍ، لها أهميتُها ومكانتُها، ولكنَّها ليست العبادةَ كلَّها، بل هي جزءٌ من العبادةِ التي يريدُها الله تعالى.
إنّ مقتضى العبادةِ المطالبِ بها الإنسانُ أن يجعل المسلمُ أقوالَه وأفعالَه وتصرفاتهِ وسلوكَه وعلاقاتِه مع الناس وفقَ المناهج والأوضاعِ التي جاءتْ بها الشريعةُ الإسلاميةُ، يفعلُ ذلك طاعةً لله، واستسلاماً لأمره.
والدليل على المفهومِ الشاملِ للعبادةِ الكتابُ والسنةُ وفعلُ الصحابةِ رضوان الله عليهم.
فأمّا القرآن الكريمُ فقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ *} [الانعام :162 ـ 163] .
وأمّا السنةُ: فقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ المسلمَ إذا أنفقَ على أهلِهِ نفقةً، وهو يَحْتَسِبُها كانتْ له صدقةً». وقوله صلى الله عليه وسلم: «دخلتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ ربطْتَها، فلم تُطْعِمْهَا، ولم تَدَعْهَا تأكلُ مِنْ خِشَاشِ الأرضِ حتّى ماتت».
وأما الاستدال على عموم العبادة وشمولها لحياة الإنسان بفعل الصحابة ففي قصة بعثِ أبي موسى ومعاذ إلى اليمن، وفي آخره قال أبو موسى لمعاذٍ: فكيفَ تقرأُ أنتَ يا معاذ؟ قال: أنامُ أوَّل الليل فأقومُ، وقد قضيتُ جزئي من النوم، فأقرأُ ما كَتَبَ اللهُ لي، فَأَحْتَسِبْ نومتي، كما أَحْتَسِبُ قومتي، وفي كلام معاذ رضي الله عنه دليلٌ على أنّ المباحاتِ يؤجَرُ عليها بالقصدِ والنيّةِ.
يمكنكم تحميل كتاب سلسلة أركان الإيمان (1)
كتاب الإيمان بالله
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book174.pdf