الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

تسبيح الملائكة لله تعالى

الحلقة: الخامسة

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شوال 1441 ه/ مايو 2020

الملائكة مطبوعون على طاعة الله ليس لهم القدرةُ على العصيان قال تعالى: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} التحريم: 6. فتركُهم للمعصيةِ وفعلُهم للطاعةِ جبلةُ لا يكلّفهم أدنى مجاهدةٍ لأنّه لا شهوةَ لهم وهم مأمورونَ بالعبادةِ والطاعةِ قال تعالى {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ *} 5 وفي الاية والخوف نوعٌ من التكاليف {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} بل هو أعلى أنواعِ العبودية كما قال تعالى فيهم {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ *} الأنبياء: 28.
وقد دلّتِ النصوصُ الشرعيةُ على عصمة الملائكة من الذنوب فمن ذلك قوله تعالى {اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ *يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ *وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} الانبياء 26 ـ 29.
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} التحريم: 6.
فالملائكةُ عبادٌ يتّصفون بكلِّ صفاتِ العبوديةِ قائمونَ بالخدمة منفّذون للتعاليم وعلمُ الله بهم محيطٌ لا يستطيعون أن يتجاوزوا الأوامر ولا أن يخالفوا التعليمات الملقاة إليهم خائفون وجلون وهم لا يفعلون إلا ما يؤمرون به فالأمرُ يحرّكهم والأمر يوقفهم وهم مكلّفون بالطاعة وهم يقومون بالعبادة والتكاليف بيسر وسهولة.
تكرّر في الكتابِ والسنةِ ذكرُ تسبيحِ الملائكة في صور متنوعة وبعبارات مختلفة منها:
1 ـ تسبيحُهم على الدوام بلا انقطاع:
أ ـ قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} الأعراف: 206.
يعني بهم الملائكة وهذه العبوديةُ تعني قربهم من الله تعالى ورفعة منزلتهم على غيرهم من المخلوقات.
ثم وصفهم الله تعالى في هذه الاية بثلاثةِ أوصافٍ:
أنهّم لا يستكبرون عن عبادة الله تعالى وأنهّم يسبحونه وأنّهم يسجدون له وهذه الأوصافُ دالّةٌ على كمال عبوديتهم لله تعالى حيث قد اجتمعت لهم العبادة القلبية والقولية والبدنية:
فعدم الاستكبارِ عبادةٌ قلبيةٌ تنشأ عنها العبادة القولية والبدنية.
والتسبيحُ هو ذكرهم لله تعالى وتنزيههم إياه عن كلِّ ما لا يليقُ بجلاله وعظمته وهو عبادة كائنةٌ بالقلب وهي اعتقادُ التنزيه وباللسان وهي قول (سبحان الله) ونحوه من الذكر، وبالجوارح، كالصلاة مثلاً.
والسجود عبادةٌ بدنية تتضمن الخضوعَ والذلَّ لله العلي العظيم وتقديم الجار والمجرور في قوله إيذان باختصاص سجودهم لله تعالى وحده دون غيره.
ب ـ قال تعالى {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ *يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} الأنبياء: 19- 20.
فقوله هنا: {وَمَنْ عِنْدَهُ} يعني الملائكة، كما في الأية السابقة، وقد تضمنت هذه الآية بيان أن الملائكة زيادة على عدم استكبارهم عن عبادة الله {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} أي: لا يتعبون ولا يملون، ولهذا فهم {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} وهذا كالبيان لقوله: {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} لأن من يحب أمرا، لا يتعب منه، ولا يتركه، ولا يمل منه، بل يواظب عليه ليلاً ونهاراً، لا يلحقهم كلال ولا إعياء، ولا يشغلهم التسبيحُ عن تدبير ما وكلوا به من أمور الخلق.
ج ـ قوله تعالى {فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ *} فصلت: 38. وهذه الايةُ في معنى الآيتين السابقتين فقوله تعالى {لاَ يَسْأَمُونَ *} كقوله تعالى {لاَ يَفْتُرُونَ}.
وجميع هذه الآيات دالّةٌ على قوة الملائكة وكمال حياتهم وشدة الداعي منهم إلى تسبيح الله تعالى وملازمته فلا يلحقهم فيه فتورٌ ولا سامةٌ ولا يشغلهم عنه شاغل.
2 ـ تسبيح حملة العرش والحافين من حوله من الملائكة:
أ ـ قوله تعالى {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} غافر: 7. ذكرَ اللهُ تعالى في هذه الاية صنفينِ من ملائكتهِ المسبحين بحمده وهما الملائكة الذين يحملون العرش والملائكة الذين يطوفون حول العرش ثم أخبرَ تعالى عنهم جميعاً بثلاثةِ أمورٍ:
الأول أنهم وهذا مدحٌ لهم بكثرة عبادتهم لله {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} وخصوصاً التسبيح والتحميد وسائر العبادات تدخلُ في تسبيح الله وتحميده لأنّها تنزيهٌ له عن كون العبد يصرفها لغيره وحمد له بل الحمدُ هو العبادةُ لله تعالى.
الثاني أنهم أي يقرّون {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} وأنّه لا إله لهم سواه ويشهدون بذلك ولا يستكبرون عن عبادته.
الثالث أنهم أي يستغفرون للمؤمنين من أهل {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} ممّن امنَ بالغيب وأقرّ بمثل إقرار الملائكة من توحيد الله تعالى والبراءة من كل معبود سواه، وهذا من جملةِ فوائد الإيمان وفضائله الكثيرة أنّ الله تعالى قيّضَ ملائكته المقرّيين الذين لا ذنوبَ عليهم ليستغفروا لأهل الإيمان من البشر ويدعوا لهم بظهر الغيب فالمؤمنُ بإيمانه تسبّب بهذا الفضل العظيم.
وقوله تعالى هو بيانٌ لصفة دعائهم {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} وكذا الايتان المذكورتان بعدهما وتخصيصُ هذين الصنفين من الملائكة بالذكر في الموضعين السابقين دليلٌ على ما لهما من شأن عظيم إذ اختارهم الله تعالى لحمل عرشه العظيم والطواف من حوله فلا شكَّ أنّهم من أكبر الملائكة وأعظمهم وأقواهم وأقربهم منه سبحانه وتعالى.
ب ـ قال تعالى {وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} الزمر: 75.
هذه الآية ذكرت بعد ذكر أحداث يوم القيامة وما يقع فيه من القضاء بين العباد وتوفية كل نفس ما عملت وإدخال أهل الجنة وأهل النار كُلاًّ في المحل الذي يستحقه ويليق به فقوله تعالى} وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ{أي في ذلك اليوم العظيم }حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ{ أي محدقين محيطين بالعرش}يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ{ ۖ أي يمجدونه، ويعظمونه، ويقدسوه، وينزهونه عن الجور، وعن كل ما لا يليق بجلاله، }وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{ وهذا إخبار عن حمد الكون أجمعه ناطقه وبهيمه لله رب العالمين، عقيب قضائه بالحق بين الخلائق، ولهذا حذف فاعل الحمد في قوله: }وَقِيلَ{ لإفادة العموم والإطلاق حتى لا يسمع إلا حامد لله تعالى من أوليائه ومن أعدائه، ومن جميع مخلوقاته، كما قال الإمام الحسن البصري لقد دخلوا النار وإنَّ حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه حجة ولا سبيلاً .
3 ـ تمدح الملائكة بتسبيحهم لله تعالى:
أ ـ قال تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} 3 يتضمّنُ تمدحهم بتسبيحهم وتقديسهم لله تعالى.
ب ـ وقال تعالى حكايةً لقول الملائكة {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون *وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ *} الصافات 165 ـ 166. وفي هذا تمدّح بوقوفهم صفوفاً في السماء لعبادة الله تعالى وبتسبيحهم الله تعالى وقد أقسمَ الله تعالى بهم في قوله سبحانه {والصافات صَفًّا *} فأمّا الصافاتُ فإنّها الملائكةُ الصافّات لربها في السماء، وقولهم وقال ابن كثير في تفسير الآيتين أي نصطفُّ فنسبّحُ {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ *} ونمجدّه ونقدسه وننزهه عن النقائص فنحن عبيدٌ له فقراء إليه خاضعون لديه.
4 ـ تسبيح الملائكة لكلام الله تعالى وقضائه:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال أخبرني رجلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنّهم بينما هم جلوسٌ ليلةً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رُمِيَ بنجمٍ فاستنار فقال لهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رُمِيَ بمثلِ هذا؟» قالوا الله ورسوله أعلم كنا نقولُ ولِدَ الليلةَ رجلٌ عظيمٌ وماتَ رجلٌ عظيمٌ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فإنهّا لا يُرْمَى بها لموتِ أحدٍ ولا لحياتِهِ ولكنَّ ربّنا تباركَ وتعالى اسمُه إذا قضى أمراً سبّح حملةُ العرشِ ثم سبّحَ أهلُ السماءِ الذين يلونهم حتّى يبلغَ التسبيحُ أهلَ هذه السماء الدنيا ثم قال لحملة العرش:
ماذا قال ربُّكم؟ فيخبرونهم ماذا قال: قال فيستخبرُ بعضُ أهلِ السماوات بعضاً حتّى يبلغَ الخبرُ هذه السماء الدنيا فتخطفُ الجنُّ السمعَ فيقذفون إلى أوليائهم ويرمونَ به فما جاؤوا به على وجهه فهو حقٌّ ولكنّهم يقرفون فيه ويزيدون».
فهذا الحديثُ يبيّن أنَّ الملائكةَ يسبّحون لله تعالى إذا قضى أمراً أي إذا تكلّم بأمره الذي قضاه مما يكون وفي ذلك إشارةٌ إلى أنّ هذا التسبيحَ للتنزيه والتعظيم والخضوع لكلام الله تعالى وقضائه بما شاء أن يكون من الأمور فإنّه سبحانه لا يقولُ إلا الحقّ ولا يقضي إلا بالحق.
وقد جاء تأكيدُ هذا المعنى في حديثٍ اخرَ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إنّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا قضى اللهُ الأمرَ في السماءِ ضَرَبَتْ الملائكةُ بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنّه سلسلةٌ على صفوان، فإذا فُزِّعَ عن قلوبهم، قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال الحقّ وهو العلي الكبير». وهذا كلُّه يبيّن أنّ لكلامِ الله تعالى بالقضاءِ أو الوحي وقعاً عظيماً على الملائكة يخرّون لذلك سجداً لله تعالى ويسبّحون تنزيهاً وتعظيماً وخضوعاً له سبحانه.
5 ـ افتتاح الملائكة في كلامها مع الله بالتسبيح:
ومن تسبيحِ الملائكةِ لله تعالى أيضاً أنّهم إذا تكلّموا معه سبحانه افتتحوا كلامهم بالتسبيح له وذلك في مقاماتٍ دلَّ عليها كتابُ الله تعالى ومن هذه المقامات:
أ ـ قوله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم{لبقرة: 31-23. هذا مقامُ بيّن الله تعالى فيه شرف ادمَ للملائكة بما فضّله به من علم أسماء كلِّ شيء من أصناف المخلوقات، ثم عرض تعالى تلكَ الأشياء على الملائكة قائلاً وقد علم تعالى أنّه {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} علمَ لهم بذلك وإنّما سألهم ليريَهم عجزهم وأنّه قد خلقَ من خلقه مَنْ هُوَ أعلم منهم بتعليمه إياه، فأجاب الملائكة قائلين أي تنزيهاً لك أن نعلمَ شيئاً إلا {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *} علّمتنا إياه فإنّكَ أنتَ العليم بكلِّ شيءٍ من غير تعليم وأنتَ الحكيمُ في خلقك وأمرِك وفي تعليمك ما تشاء لمن تشاء، لكَ الحكمةُ العليا والعدلُ التام في ذلك.
والشاهِدُ أنهم بدأوا كلامَهم مع الله تعالى في هذا المقام بالتسبيح وهذا أدبٌ منهم وتعظيمٌ لذي الجلال والإكرام والعظمة المطلقة.
ب ـ قال تعالى {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ *قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ *} 40 ـ 41.
وهذا تقريعٌ للمشركين يومَ القيامةِ على رؤوس الخلائق حين يحشرُهم الله تعالى جميعاً ثم يسألُ الملائكةَ الذين كان هؤلاء المشركون يتّخذونهم الهة من دون الله فيقول تعالى للملائكة {أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} أي أنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم، فيجيب الملائكة متبرئين من عبادة المشركين: } قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ{ افتتحوا جوابهم بالتسبيح لله تعالى، أي : تنزيها لك أن يكون معك شريك في العبادة، فنحن عبيدك، مفتقرون إلى ولايتك، فلا نتخذ وليا من دونك، ونبرأُ إليك من هؤلاء المشركين.
وهذا يعني أنّ الملائكـة لم يـأمروهم بذلك وحـاشـاهم وإنّمـا أمرَهمُ بـذلك الشياطينُ من الجن، ولهذا قالوا }بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ {.
6 ـ حال الملائكة في تسبيحهم لله تعالى:
وممّا يبيّن حالَ الملائكة في تسبيحهم لله تعالى قوله عز وجل {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *} الشورى: 5، ومعنى {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ{ أي : قاربتِ السماواتُ على عِظَمِها وكونها جماداً أن يتشققن ويتصدّعن، ومعنى }فوقهن{ أي: كلّ سماءٍ تتفطر فوقَ التي تليها.
وللعلماء في سبب مقاربة السماوات للتفطر في هذه الآية وجهان كلاهما يدلُّ له قرانٌ:
الوجه الأول: أنّ المعنى خوفاً من الله تعالى وهيبة {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} ويدلُّ لهذا الوجه قوله تعالى قبله {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ *} لأنّ علوَّه عزّ وجل وعظمته سَبَّبَ للسماواتِ ذلك الخوف والهيبة والإجلال حتّى كادتْ تتفطّر وعلى هذا الوجه فقوله بعده مناسبتُه لما قبله {وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} لأنّ المعنى أنّ السماواتِ في غايةِ الخوفِ منه تعالى والهيبةِ والإجلال له وكذلك سكّانها من الملائكةِ فهم يسبّحون بحمد ربهم أي ينزّهونه عن كلِّ ما لا يليقُ بكماله وجلاله مع إثباتهم له كُلَّ كمالٍ وجلالٍ خوفاً منه وهيبةً وإجلالاً.
الوجه الثاني: أن المعنى من شدّةِ عِظَمِ الفريةِ التي افتراها الكفّار على خالق السماوات والأرض جلا {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} من كونه اتّخذَ ولداً سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً وهذا الوجهُ جاءَ موضَّحاً في قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا *لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا *تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا *أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَدًا *وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا *إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا *} مريم: 88 ـ 93.
وغايةُ ما في هذا الوجه أنَّ ايةَ الشورى هذه فيها إجمالٌ في سبب تفطّر السماوات وقد جاءَ ذلك موضَّحاً في اية مريمَ المذكورة وعليه فمناسبة قوله تعالى لما قبله أنّ الكفار وإن قالوا أعظمَ الكفرِ {وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} فإنَّ الملائكة بخلافهم فإنّهم يداومون على ذكرِ الله وطاعته كما قال تعالى: {فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ *} فصلت: 38.
وكلا الوجهينِ المذكورينِ حقٌّ غير أنَّ الوجه الأول هو المقصودُ هنا فمنه يتبيّن حالُ الملائكةِ في تسبيحهم لله تعالى أنّهم لشدة خوفهم من الله وهيبتهم وإجلالهم له يسبّحون بحمده على الدوام بلا انقطاع وقوله تعالى في هذه الاية الكريمة لخصوصِ الذين امنوا {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} كما أوضحه الله بقوله تعالى {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} وقوله تعالى في ختام الاية أكْدَ فيه أنّه هو وحدَه المختصّ بغفران {أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *} وإيجادِ الرحمات، وذلك بذكرِ حرف الاستفتاح (ألا) وحرف التوكيد (إن) المقتفين للتوكيد وضمير الفصل (هو) المقتفي للحصر، وبجميع ما سبقَ ذِكْرُه في هذا المطلبِ من الايات والأحاديث والاثار يتجلّى مقامُ الملائكة في التسبيحِ، وأنّهم في هذه العبادة العظيمة متمّيزون عن غيرهم من العالمين.


يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب :
الإيمان بالملائكة
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC170.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022