صور من عذاب أهل النار
الحلقة: الخامسة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1442 ه// سبتمبر 2020
أ ـ إنضاجُ الجلودِ: إنّ نيرانَ الجبارِ تحرقُ جلودَ أهل النار، والجلدُ موضعُ الإحساسِ بألمِ الاحتراقِ، ولذلك فإنّ الله يبدّلُ لهم جلوداً أخرى غيرَ تلك التي احترقتْ لتَحْتَرِقَ من جديدٍ . قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ﴾ [النساء: 56] وقال تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا *﴾ [الكهف: 29] .
ب ـ الصهر: من ألوانِ العذابِ صبُّ الحميم فوق رؤوسهم، والحميمُ هو ذلك الماء الذي انتهى حَرُّه، فلشدَّة حَرِّهِ تذوبُ أمعاؤهم، وما حوتْه بطونُهم، قال تعالى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ *يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ *﴾ [الحج: 19 ـ 20] وقال رسول الله (ﷺ): « إنَّ الحميمَ ليصبُّ على رؤوسهم، فينفذُ الحميم حتّى يخلصَ إلى جوفه، فيسلتُ ما في جوفه، حتى يمرقَ من قدميه، وهو الصهرُ، ثم يعادُ كما كان».
ج ـ اللفحُ: أكرمُ ما في الإنسان وجهُه، ولذلك نهانا الرسولُ (ﷺ) عن ضربِ الوَجْهِ، ومن إهانةِ اللهِ لأهلِ النّارِ أنّهم يُحْشرون يوم القيامة على وجوههم عُمياً وصُماً وبُكماً، قال تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا *﴾ [الإسراء: 97] . ويلقون في النّارِ على وجوههم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *﴾ [النمل: 90] .
ثم إنّ النارَ تلفَحُ وجوهَهم وتغشاها أبداً، لا يجدون حائلاً يحولُ بينهم وبينها، قال تعالى: ﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَنْ ظُهُورِهِمْ ولاَ هُمْ يُنْصَرُونَ *﴾ [الأنبياء: 39] وقال تعالى: ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ [المؤمنون: 103 ـ 104] .
وفي قوله تعالى: ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾: تحرقها، واللفح كالنفخ إلا أنّه أشدُّ تأثيراً منه، وتخصيصُ الوجوه بذلك لأنَّها أشرفُ الأعضاءِ، فبيانُ حالها أزجرُ عن المعاصي المؤدية إلى النار، وهو السرُّ في تقديمها على الفاعل .
ثم إنَّ وجوههم تعلوها النار، وتحيطُ بها، وتسعّرُ أجسامهم المسربلة بالقطران، قال تعالى: ﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ *سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ *﴾ [إبراهيم: 49 ـ 50] وقال تعالى: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وَجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا﴾ [الأحزاب: 66] إنّه مشهدٌ بائسٌ أليمٌ حين تغشاهم النار من كلّ جهة، فالتعبيرُ على هـذا النحو يرادُ به تصويرُ الحركةِ وتجسيمُها، والحرصُ على أن تصلَ النارُ إلى كلِّ صفحةٍ من صفحاتِ وجوههم زيادةً في النكال .
د ـ السَّحْبُ: ومن أنواع العذابِ الأليم سَحْبُ الكفار في النار على وجوههم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ *يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وَجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ *﴾ [القمر: 47 ـ 48]، ويزيدُ في الامهم إهانتُهم حالَ سحبهم في النار أنّهم مقيّدون بالقيود والأغلال والسلاسل، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ *الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ *إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ *فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ *﴾ [غافر: 69 ـ 72] قال قتادة: يسحبون مرة في النار، وفي الحميم مرة.
هـ تسويدُ الوجوه: ومن ألوان عذابِ الحياة الآخرة تسويدُ الوجوه، وذلك لما ترى من سوء العاقبة، وما يحلُّ بها من النكال والوبال، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ *﴾ [آل عمران: 106] كأنّما أُلبست وجوهُهم قطعاً من أديم الليل حال كونه حالكاً مظلماً لا بصيصَ فيه من نور القمر الطالع ولا النجم الثاقب، فتشقها قطعةً بعدَ قطعةٍ، فصارت ظُلماتٌ متراكمةٌ بعضها فوق بعض . قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *﴾ [يونس: 27] . ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَوَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ *تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ *﴾ [القيامة: 24 ـ 25] .
تلك وجوه أهل النار التي تغشاها ظلمة وانكدار، ويبدو عليها مضضٌ، وإرهاق، فإنّها ليست كالحةً فحسب، ولـكن يخالجها التوجُّسُ، أن تنزل بها داهية تقصِمُ الفقار، والتوجُّس شرٌّ من وقوع العذاب .
و ـ اندلاقُ الأمعاءِ في النار: في ( الصحيحين ) عن أسامة بن زيد عن النبي (ﷺ) قال: « يُجاءُ بالرَّجُلِ يومَ القيامةِ فيُلقى في النَّارِ، فتندلقُ أقتابُه في النارِ، فيدور به كمايدور الحمارُ برحَاه، فتجتمعُ أهلُ النّارِ عليه، فيقولون: يا فلان، ما شأنُكَ، ألسَتَ كنتَ تأمرُ بالمعروفِ، وتنهى عن المنكرِ؟ فيقول: كنتُ امرُكم بالمعروفِ ولا اتيه، وأنهاكُم عن المنكرِ واتيه » .
ز ـ حيّاتُ جهنم: في النار حياتٌ يعذِّبنَ أهلها، قال تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَّرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ*﴾ [آل عمران: 180] وهـذا الطوقُ عبارةٌ عن ثعبان في رقابهم، كما فسّرها بذلك النبيُّ (ﷺ)، فعن عبد الله بن مسعود عن رسولِ الله (ﷺ) قال: « ما مِنْ رجلٍ لا يؤدِّي زكاةَ مالِهِ إلا جعلَ الله يومَ القيامةِ في عُنُقِهِ شُجَاعاً، ثم قرأ علينا مصداقَهُ من كتاب الله عز وجل: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ » الآية وقال مرة: قرأ رسولُ اللهِ (ﷺ) مصداقه: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، « مَنِ اقتطعَ مالَ أخيه المسلمِ بيمينٍ لقيَ اللهَ وهو غضبانُ » ثم قرأ رسولُ اللهِ (ﷺ) مصداقه من كتاب الله: ﴿ان الذين يشترون بعهد الله﴾.
وقال رسول الله (ﷺ): « مَنْ اتاهُ الله مالاً فلم يؤدِّ زكاتَهُ مُثِّلَ له يومَ القيامةِ شُجَاعا أقرعَ، له زبيبتانِ يطوَّقه يومَ القيامةِ، ثم يأخذُ بِلهْزِمتيهِ (يعني شدقيه ) ثم يقول: أنا مالُكَ أنا كَنْزُكَ » تَلا هذِه الآيَةَ: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ...﴾ [آل عمران: 180] إلى آخِرِ الآيَةِ.
وقال رسول الله (ﷺ): « إنَّ في النَّارِ حَيَّاتٌ كأمثالِ أعناقِ البُخْتِ تَلْسَعُ إحداهنَّ اللسعةَ فَيَجِدُ حموتَها أربعينَ خريفاً، وإنَّ في النارِ عقاربٌ كأمثالِ البغالِ الموكّفة، تلسعُ أحدَهم اللسعةَ فيجدُ حموتها أربعين سنة » .
ح ـ كثرة أهلها: أهل النار كثيرون، وقد دل على ذلك كتاب الله تعالى في ثلاثة مواضع وهي :
الأول: قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأََمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ *﴾ [هود: 119] .
والثاني: قول تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَِمْلأََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ *﴾ [السجدة: 13] .
والثالث: قول تعالى: ﴿قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ *لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ *﴾ [ص: 84 ـ 85] .
كما دلت السنة على ذلك، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبيِّ(ﷺ) قال: « يقولُ اللهُ تعالى: يا ادمُ، فيقول: لبَيكَ وسعديكَ، والخيرُ في يديكَ، فيقول: أَخْرِجْ بعثَ النّار، قال: وما بَعْثُ النّارِ ؟ قال: مِنْ كُلِّ ألفٍ تسعمئةٍ وتسعةً وتسعين، فعندَهُ يشيبُ الصغيرُ، وتضعُ كلُّ ذاتِ حَمْلٍ حملها، وترى الناسَ سُكارى وما هُمْ بِسُكارى، ولكنَّ عذابَ اللهِ شديدٌ »، قالوا: يا رسول الله، وأينَ ذلك الواحدُ ؟ قال: « أبشروا، فإنَّ مِنْكُم رَجُلاً، ومِنْ يأجوجَ ومأجوجَ ألفاً، ثم قال: والذي نفسِي بيدِهِ إنِّي أَرْجُو أن تكونوا رُبْع أهلِ الجنّةِ » فكبَّرْنا، فقال: « أرجو أنْ تكونوا ثُلُثَ أهلِ الجنّةِ » فكبرّنا، فقال: « أرجو أنْ تكونوا نصفَ أهلِ الجنَّةِ » فكبرّنا، فقال: « ما أنتم في الناسِ إِلاّ كالشعرةِ السوداءِ في جِلْدِ ثَوْرٍ أبيضَ، أو كشعرةٍ بيضاءَ في جلدِ ثورٍ أسودَ ».
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان باليوم الآخر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي