ثمار الإيمان بالقدر (1)
الحلقة: السادسة و الثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رمضان 1441 ه/ مايو 2020م
للإيمان بالقدر ـ كما جاء في القرآن والسنة ـ وكما فهمه سلف الأمة ثمار مباركة وآثار طيبة، في عقلية المسلم ونفسيته، في وجدانه وأرادته، وعلاقته بنفسه وبربه، وبمن حوله، وما حوله، وفي الحياة الإسلامية بصفة عامة، يشهد بها كل ذي لب، ويلمسها كل ذي بصر، لما لها من تأثير إيجابي في السلوك الخاص والعام وفي السلم والحرب، وفي اليسر والعسر والرخاء والشدة، والنعماء والبأساء .
ومن أهم هذه الثمار والآثار:
1ـ الإقدام على عظائم الأمور:
الإيمان بالقدر في حياة المؤمن أقوى حافز للعمل الصالح والإقدام على عظائم الإمور بثبات وعزم وثقة ولقد كانت الصورة الصحيحة للإيمان بالقدر في حياة الأجيال الأولى من المسلمين هي التي صنعت تلك العجائب التي سجلها تاريخهم والتي ثبتت الدعوة في الأرض ونشرتها على نطاق واسع في فترة وجيزة من الزمن لا مثيل لها ـ في قصرها ـ في التاريخ، وهي التي أقامت هذا البناء الشاهق في كل ميدان من ميادين الحياة.
نعم ، لقد كان من أول ثماره الباهرة ذلك الاستبسال في الجهاد في سبيل الله وفي سبيل نشر الدعوة ، فقد كانوا لا يخافون الموت، لأنهم يوقنون بأن الآجال محددة لا تتأخر ولا تتقدم لحظة واحدة ولما كانت هذه العقيدة راسخة في قلوب المؤمنين ثبتوا في القتال وعزموا على مواصلة الجهاد، فجاءت ملاحم تحمل أروع الأمثلة على الثبات والصمود أمام الأعداء مهما كانت قوتهم ، ومهما كان عددهم، لقد أيقنوا بقول الله تعالى:"قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" (التوبة: 51) .
فإذا كان لا يصيب الإنسان إلا ما كتبه الله له، سواء كان قاعداً في بيته أو في ميدان القتال، ففيم الجبن وفيم الفرار من القتال خوفاً من الموت؟ فهل القتال هو الذي يقتل؟ أم قدر الله لإنسان ما أن يموت في لحظة معينة في حالة معينة هو الذي يميته؟ وإذا كان كتب عليه الموت فهل يعفيه منه ألا يذهب إلى القتال؟ وإن كان لم يكتب عليه فهل يقتله الذهاب إلى الميدان؟
هكذا كان الأمر في حسّهم فأقبلوا على الجهاد في ثقة وثبات وعزم، وكان منهم ما سجله التاريخ من مواقف رائعة من الشجاعة والصبر على الشدة مع الإطمئنان إلى قدرة الله سبحانه.
ولقد وعى المسلمون كذلك الدرس الذي نزل عليهم في سورة آل عمران بشأن غزوة أحد، حين قال المنافقون :"هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ" فرد عليهم :"قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ" وحين قالوا :"لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا" فرد عليهم :"قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ" وحين قال الله للمؤمنين :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ" (آل عمران: 156 ـ 158) . وعوه فأيقنوا أنه لا يموت إلا من كتب عليه الموت ولو كان في مضجعه في بيته وأنه إن لم يكن كُتب عليه الموت في تلك اللحظة فكل هول الحرب وكل سهام الأعداء وسيوفهم لن تصيبه بالموت.
وأيقنوا كذلك أنه حين يكون الإنسان في القتال ويموت ـ بقدر من الله ـ فأمامه المثوبة والأجر وهو الكاسب بهذا القدر الذي قدره له الله، لذلك كان القتال في سبيل الله أمراً محبباً إلى نفوسهم، فنصروا الله فنصرهم وثبت أقدامهم ، كما وعد سبحانه :"إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" (محمد: 7) .
كذلك كان الإيمان بالقدر على هذه الصورة هو حافزهم للانسياح في الارض، سواء لنشر الدعوة، أو طلب الرزق، أو اكتشاف المجهول من الأرض، فكان لهم في كل ميدان نشاط ملحوظ وآثار مشهودة، ففي نشر الدعوة نجد أن الإسلام قد امتد من المحيط غرباً إلى الهند شرقاً في فترة من الزمن لا تتجاوز قرن وهي سرعة لا مثيل لها في التاريخ، وأنتشر مع الإسلام سلطان الدولة الإسلامية بما أرهب أعداء الله ، وانتشر معه كذلك اللسان العربي بسرعة تفوق الوصف في انتشار اللغات في الأرض .
وفي ميدان طلب الرزق تدفقت الثروات على العالم الإسلامي حتى صار المسلمون أغنى أمة في الأرض، لأنهم يجوبون البحار والقفار تجاراً وصناعاً فيأتي إليهم المال من كل سبيل وتتاح معه فرصة العمران والحضارة، وفي ميدان الكشف الجغرافي كان المسلمون هم الذين ارتادوا البقاع المجهولة ـ أول من ارتادها ـ ورسموا لها الخرائط الجغرافية الدقيقة التي مكنت "فاسكوا داجاما" و"ماجلان" فيما بعد من القيام برحلاتهما حول أفريقيا وآسيا، كما كشفوا منابع النيل ورسموا خرائطه التي جاء المكتشفون الأوربيون على هداها من بعد ليزعموا أنهم هم المكتشفون، وهكذا امتدت الحياة بجميع صورها شرقاً وغرباً بهذا الدافع الإيماني العميق .
2ـ القضاء على الكسل والتواكل:
إن جموع المسلمين قد انحرفت في العصور الأخيرة في عقيدة القدر بشأن ما يجري في الحياة الدنيا، لقد أصابهم التواكل فيما أصابهم من انحرافات، وأدى بهم التواكل إلى العجز والكسل والقعود، لقد فهم ـ بعض الناس ـ من معنى أنه لا يحدث في الكون إلا ما يريده الله، أنه لا حاجة للإنسان أن يعمل، فإن قدر الله ماض سواء عمل الإنسان أو لم يعمل، فلا ضرورة للكد في طلب الرزق لأن: مالك سوف يأتيك ، ولا ضرورة للنشاط والحركة لأنها في زعمهم ضد التوكل الصحيح ، كما فهموا كذلك من معنى التسليم لقدر الله القعود عن تغيير ما أصاب الإنسان من فقر أو مرض أو جهل أو حتى معصية، لأن كل ذلك مقدر من عند الله فلا ينبغي مقاومته إنما ينبغي الاستسلام له! وهذا التواكل وهذه السلبية ليست من الإسلام في شيء على الإطلاق، وإلا فلو كانت من الإسلام فكيف غابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن صحبه الكرام الذين تلقوا عنه المفاهيم الصحيحة لهذا الدين ؟
والفهم الصالح لم يفهم قط من عقيدة القدر هذا الفهم الخاطئ الذي يلغي مسئولية الإنسان عن عمله؟
لقد فهم المسلمون من درس أحد أن ما وقع لهم كان مقدراً لهم عند الله، ولكنه كان في ذات الوقت من عند أنفسهم بسبب معصيتهم للرسول صلى الله عليه وسلم :"أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ" (آل عمران: 165 ـ 166) .
فقد وعى المسلمون من الدرس أن كون الهزيمة تمت بقدر الله لا ينافي أنها في ذات الوقت "مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ" أي: أن وقوع شيء بقدر الله لا ينفي مسئولية الإنسان عن خطئه، فليس لمخطئ أن يهز كتفيه ويقول: إنما وقع الخطأ مني بقدر من الله، ولقد قدّر الله ألا أخطئ لما أخطأت فلست مسئولاً عن الخطأ، كلا: إن الإيمان بالقدر لا يتنافى فيه أن يكون الحدث مقدراً من عند الله، وأن يكون الإنسان مسئولاً عن عمله في ذات الوقت.
كذلك وعى المسلمون من وقعة أحد وأحداثها درساً آخر، إن عليهم أن يسلموا لقدر الله، ولكن ما معنى التسليم؟ هل معناه القعود عن تغيير ما أصابهم، ولو أنه قد أصابهم بقدر من الله؟ إنما قال لهم:"فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْ لاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (آل عمران: 153) .
فالحزن يفتت العزيمة ويوهنها، وهو الأمر الذي لا يريده الله لهم، فوجّههم إلى التسليم بقدر الله لكيلا يحزنوا وتتفتت عزيمتهم، ولكن هل طلب منهم الاستسلام لما أصابهم بمعنى عدم العمل على تغييره .
إن أحداث المعركة سارت في خط مختلف تماماً، فقد جمع الله الرسول صلى الله عليه وسلم مشاعر المسلمين وعزائمهم كما جمع صفوفهم ليدخل بهم المعركة مرة أخرى على أثر الهزيمة. وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى:"الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَال لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ" (آل عمران: 172 ـ 174) .
لقد صرفَ الله أعداءهم فلم تقع المعركة، ولكنهم كانوا قد استعدوا للقتال تماما، استعدوا له بأرواحهم، ومشاعرهم، فجمعوا عزائمهم رغم تخويف الناس لهم وعزموا على لقاء العدو متكلين على الله، وهذا هو التوكل الحق الذي يطلبه الله من المسلمين.
إن القعود عن تغيير الأمر الواقع بحجة أنه واقع بقدر من الله جهالة عظيمة لا تنبغي للمسلم، نعم إن ما وقع بالفعل قد وقع بقدر من الله ـ وإن كان لا ينفي مسئولية الإنسان ـ ولكن من يعلم ما يكون عليه قدر الله غداً، بل في اللحظة القادمة، هل علم ذلك القاعد المتواكل أن قدر الله القادم لن يكون مغايراً لقدر الله الواقع؟ أليس في الاحتمال أن الله قد قدر للحظة القادمة قدراً غير القدر الذي كان في اللحظة الماضية؟ فكيف يقعد عن العمل بزعم أنه متوكل على الله مستسلم لقدره ؟
إن الفهم الصحيح للإيمان بالقدر، لا ينفي مسئولية الإنسان عن عمله، ولا يدعو إلى القعود عن تغيير الواقع، يدعوا إلى التواكل وعدم الأخذ بالاسباب انتظاراً لقدر الله وذلك هو الفهم الذي ينبغي أن يعود المسلمون إليه، ليزول عنهم ما أصابهم من فقر وجهل ومرض وتواكل وعجز، وما ترتب على ذلك كله من غلبة عدوهم عليهم، وهوائهم على أنفسهم وعلى الناس .
3ـ الثبات في مواجهة الطغيان:
ومن ثمار الإيمان بالقدر، أنه يهب صاحبه ثباتاً ورسوخاً في مقاومة الباطل ومواجهة الظلم والطغيان، وإنكار المنكر، لا يهاب فرعوناً متألهاً ولا طاغوتاً متجبراً، وذلك أن الناس عادة يخافون على أمرين نفيسين عندهم وهما:
العمر والرزق والعمر محتوم، والرزق مقسوم ولهذا وقف المؤمنون في وجه الطغاة والجبارين، ولم يعبأوا بجبروتهم ولم يهنوا أمام قوتهم وطغيانهم وفي عصرنا رأينا العلماء والدعاة الشامخين يواجهون المستعمرين، وأذناب المستعمرين من الملوك والرؤساء، لا يبالون بما يصيبهم في سبيل الله .
فالإيمان بالقدر من أعظم ما دفع المجاهدين إلى الإقدام في ميدان النزال غير هيابين ولا وجلين، وكان الواحد منهم يطلب الموت في مظانه، ويرمي بنفسه في مضائق يظن فيها هلكته، ثمّ تراه يموت على فراشه، فيبكي أن لم يسقط في ميدان النزال شهيداً وهو الذي كان يقتحم الأخطار والأهوال ، فهذا خالد بن الوليد لما حضرته الوفاة وأدرك ذلك بكى وقال: ما من عمل أرجى عندي بعد لا إله إلا الله، من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، بتها وأنا متترس والسماء تنهل عليّ، وأنا انتظر الصبح حتى أغير على الكفار، فعليكم بالجهاد، لقد شهدت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وها أنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء، لقد طلبت القتل في مظانه، فلم يقدّر لي إلا أن أموت على فراشي ، وقد تصدى خالد لطغيان الفرس والروم معاً.
4ـ الصبر عند نزول المصائب:
ومن ثمرات الإيمان بالقدر الصبر عند نزول المصائب، فالمؤمن بالقدر لا يسيطر عليه الجزع، والفزع، ولا يستبد به السخط والهلع، بل يستقبل مصائب الدهر بثبات، كثبات الجبال فقد استقر في اعماقه، قول الله تعالى:"مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ" (الحديد: 22 ـ 23) .
فالإيمان بالقدر من أعظم الأدوية التي تعين المؤمن على الشدائد والمصائب والبلايا، فهذه ثمرة من أعظم ثمرات الإيمان بالقدر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرس في نفوس أفراد الأمة الإسلامية هذا الإيمان ويرشدهم ويعلمهم كيف يتعاملوا مع المصائب والشدائد، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً لها في الموت، فقال للرسول: أرجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى .
ففي قوله صلى الله عليه وسلم: إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى: معناه الحث على الصبر والتسليم لقضاء الله تعالى وتقديره أن هذا الذي أخذ منكم كان له لا لكم فلم يأخذ إلا ما هو له، فينبغي أن لا تجزعوا كما لا يجزع من استردت منه وديعة، وقوله صلى الله عليه وسلم :"وله ما أعطى" معناه أن ما وهبه لكم ليس خارجاً عن ملكه بل هو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وكل شيء عنده بأجل مسمى" معناه: أصبروا ولا تجزعوا فإن كل من يأت قد انقضى أجله المسمى فمحال تقدمه أو تأخره عنه، فإذا علمتم هذا كله فأصبروا واحتسبوا ما نزل بكم والله أعلم، وهذا الحديث من قواعد الإسلام المشتملة على جمل من أصول الدين وفروعه والآداب، والمراد بأصول الدين هنا الإيمان بالقضاء والقدر .
ومن الأذكار التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة قوله صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد . وفي الحديث استحباب هذا الذكر عقب الصلوات، لما اشتمل عليه من ألفاظ التوحيد ونسبة الأفعال إلى الله والمنع والإعطاء وتمام القدرة .
والمسلم يرضى ويسلم ويسلي نفسه بالصبر الجميل عند نزول المصائب، قال عز وجل:"وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" (البقرة: 155 ـ 157) .
وتعلم الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء العظيم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجاً" .
قال: فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها؟
فقال: "بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها" .
5ـ الرضا والقناعة بما قسم الله:
ومن ثمار الإيمان بالقدر: رضا المؤمن بما قسم الله، وقناعته بما رزق الله، وهذا بثمر ثمرات طيبة في نفسية المؤمن وحياته.
أولها: غنى النفس ، فمن الناس من لو أوتي وادياً من ذهب لابتغى ثانياً، ولو أوتي ثانياً ، ولو أُوتي ثانياً لتمنى ثالثاً، ومثله كجهنم يقال لها: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟
والغنى الحقيقي ليس إلا غنى النفس الذي قال عنه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة الغرض، إنما الغني عن النفس" . وقال صلى الله عليه وسلم: "أرض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس" .
وقال الشاعر:
إن الغنى هو الغنى بنفسه ولو أنه عار المناكب حاف
ما كل ما فوق البسيطة كافياً وإذا قنعت فبعض شئ كاف
ولا يعرف هذا الغنى النفسي إلا من رضى بما قسمه الله، وقنع به.
والثاني: الإجمال في الطلب: فهو يسعى في رزقه، ويكدح في حياته، ولكن بإجمال واعتدال، وليس كأولئك الذين يلهثون أثناء النهار والليل مكدودي الأجسام، مشتتي القلوب، مهمومي النفوس، لا يشعرون بهدوء بال، ولا براحة نفس، ولا بإطمئنان فكر، فإن حصلوا على المزيد إزدادوا لهثاً وهما إن أخفقوا امتلئوا نكداً وغماً ، وفي الحديث إن روح القدس نفث في روعي: أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب .
وثالثها: ألا يتطلّع إلى ما ليس في وسعه وليس من شأنه، ويرضى بما وهب الله له مما لا يستطيع تغييره وفي حدود ما قدر له يجب أن يكون نشاطه وطموحه، فلا يعيش متمنياً ما لا يتيسر له، متطلعاً إلى ما وهب لغيره ولم يوهب له، وذلك كتمني الشيخ أن يكون له قوة الشباب، وتطلع المرأة الدميمة إلى الحسناء في غيرة وحسد، ونظرة الشاب القصير إلى الرجل الطويل في حسرة وتلهف، وطموح البدوي الذي يعيش في أرض فقراء بطبيعتها إلى رفاهية الحياة وأسباب النعيم، وكما حدث في عهد الرسول حين تمنى النساء أن يكن لهن ما للرجال، فأنزل الله: "وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ" (النساء : 23) .
إن الإيمان بالقدر يبعث إلى القناعة وعزة النفس والإجمال في الطلب وترك التكالب على الدنيا والتحرر من رق المخلوقين وقطع الطمع مما في أيديهم، والتوجه بالقلب إلى رب العالمين، وهذا أسمى فلاحه ورأس نجاحه، قال الشاعر:
أفادتني القنـــــــــاعة كل عز وهل عز أعز من القناعة
فصيرها لنفسك رأس مال وصير بعدها التقوى بضاعة
تجز ربحاً وتغنى عن بخيل وتنعم في الجنان بصبر ساعة
6 ـ العز في طلب الحوائج:
ومن ثمار الإيمان بالقدر، أن يطلب المؤمن حاجته عند من هي عنده بعزة نفس لا يطأطئ رأسه ولا يذل نفسه ولا يدني ظهره لمخلوق، إن الله تعالى كتب العزة للمؤمن فلا ينبغي له أن يفرط فيها، قال عز وجل: "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ" (المنافقون : 8) .
فلا يحل لمؤمن أن يذل نفسه لمخلوق مثله من أجل حاجة عنده، فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه ـ عبد الله بن عباس ـ هذه الكلمات العظيمة: "احفظ الله يحفظك/ احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشئ، لم يضروك إلا بشئ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف .
تحميل سلسلة كتب الإيمان كتاب :
الإيمان بالقدر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book96.pdf