الأحد

1446-06-28

|

2024-12-29

الجزاء من جنس العمل بين العباد

الحلقة: الثانية و الثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رمضان 1441 ه/ مايو 2020م

إن سنة الله في خلقه أن يكون جزاؤهم بجنس ما عملوه، وهذا أمر تكويني أقام الله عليه الدنيا والآخرة ليكون قانوناً حاكماً في المجازاة والمحاسبة وليس هذا فحسب، وإنما أراد الله عز وجل أن يكون هذا القانون وتلك السنة أمراً شرعياً تكليفياً، وقد أمر الله الناس بالتعامل به فيما بينهم، ليتحقق العدل والأمان في المجتمع بين الأفراد والجماعات والأمم، فأنزل الآيات التي توجب العمل بهذه القاعدة، وجعلها مستمرة في أبواب الشرع عامة في مسائله، وبين النبي صلى الله عليه وسلم تلك السنة بأحسن بيان وأدق تطبيق، وبهذا يتبين أن الشرع والقدر قد تظاهرا على تقرير هذه السنة، وتلك القاعدة والتي هي من حكمة الله البالغة في خلقه . قال تعالى: "وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا" (الشورى : 40) ، وقال تعالى: "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ" (النحل : 126) . وقال تعالى: "فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ" (البقرة : 194) .
ومن الأمثلة في القرآن الكريم في هذا الباب ما يلي:
1 ـ الآيات التي وردت في القصاص:
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة : 178 ـ 179) .
وفي هذا المعنى أيضاً يأتي قوله تعالى عن حكم القصاص في الكتب السماوية السابقة: "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ" (المائدة : 45) .
وقد بينت السنة المطهرة تطبيق حد القصاص على الوجه الأكمل، وبما يحقق القاعدة التي تتحدث عنها، وبهذا يتبين لنا المصالح الجمة التي بنيت على مشروعية القصاص، وإقامته في المجتمع، ومن تلك المصالح زجر المعتدي ومن يحاول الاعتداء ليرتدع قبل اقترافه عمله، ومنها جبر خاطر المعتدي عليه، ومنها التفادي من ترصد المعتدى عليهم للانتقام من المعتدين أو من أقوامهم، فإبطال الحكم بالقصاص يعطل هذه المصالح ويقوض بنيان المجتمع، ويشيع الفوضى في الدولة، وينخر في قواها المتمثلة في أفرادها وطوئفها .
2 ـ حد الحرابة والإفساد:
وبهذا المعنى أيضاً جاء حد الحرابة والإفساد في قوله تعالى: "إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا" (المائدة : 33"، وهي شاهد لما نحن فيه على تفسير ابن عباس في رواية عطاء، وهو مذهب جمهور العلماء لأن كلمة "أَوْ" هنا ليست للتخيير، بل هي للتقسيم أو بمعنى آخر: لبيان أن الأحكام تختلف باختلاف الجنايات، فمن اقتصر على القتل قُتل، ومن قتل وأخذ المال، قُتل وصُلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطع يديه ورجله من خلاف، ومن أخاف السبل ولم يأخذ المال نُفي من الأرض .
3 ـ من تطبيقات ذلك العصر النبوي:
ما علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كيفية مجازاة الناس بجنس أعمالهم والشاهد الصريح في ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يداً يكافيه الله بها يوم القيامة ، فأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بذل كل ما يملك ـ من مال ونفس وأهل وولد ـ لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عطاؤه بلا حدود، يستحق الجزاء من صاحب النعمة المطلقة، وولي كل منحة وجود، فرد النبي صلى الله عليه وسلم مكافأته لله عز وجل، ليتفضل على أبي بكر بالإنعام والإكرام، وليكون الأصل في الجزاء أن يكون من جنس العمل .
والمثال الثاني في عصر النبوة: أنه لما أُسرت ابنة حاتم الطائي في أيدي المسلمين ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له: كان أبي يفك العاني، يحمي الذمار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة. فقال صلى الله عليه وسلم: "خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق" . وفي رواية: فخلى سبيلها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فكساني رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملني، وأعطاني نفقة حتى خرجت إلى أخي عدي بالشام .
لقد عاملها الرسول صلى الله عليه بجنس ما كان أبوها يعامل الناس رغم كفر أبيها، ليدلنا ذلك، على أن هذه القاعدة عامة ما لم تحرم أصلاً شرعياً، أو تعارض دليلاً قطعياً .

تحميل سلسلة كتب الإيمان كتاب :
الإيمان بالقدر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book96.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022