الحكمة في أفعال الله وشرعه
الحلقة: الثالثة و الثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رمضان 1441 ه/ مايو 2020م
1 ـ الله الحكيم الحكم الحاكم:
من أسماء ربنا جل وتعالى التي عرَّف بها نفسه إلى عباده، وذكرها في كتابه، وعلى ألسنة رسله وأنبيائه "الحكيم"، وقد ورد هذا الاسم "الحكيم" أربعاً وتسعين مرة في القرآن الكريم، كما في قوله عز وجل: "الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" (البقرة : 32) ، "العَزِيزُ الحَكِيمُ" (البقرة : 129) ، "الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ" (الأنعام : 18) ، "وَاسِعًا حَكِيمًا" (النساء : 130) .
وقال تعالى: "أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً" (الأنعام : 114) . فهذا دليل على أن اسمه أيضاً "الحكم"، وقد جاء في خمسة مواضع بصيغة الجميع منها: "وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ" (الأعراف : 87) ، و"أَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ" (هود : 45) ، و"أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ" (التين : 8) .
و"الحكيم": هو الذي يُحكم الأشياء ويتقنها ويضعها في موضعها، كما قال سبحانه "صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ" (النمل : 88)
و"الحكيم" هو الذي يضع الشئ في موضعه بقدره، فلا يتقدم ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص، مع ما له في ذلك من الحكم البالغة العظيمة التي لا يأتي عليها الوصف، ولا يدركها الوهم .
فالحكيم الذي لا يدخل تدبيره ولا شرعه خلل ولا زلل، وأفعاله وأقواله تقع في مواضعها بحكمة وعدل وسداد، فلا يفعل إلا الصواب ولا يقول إلا الحق .
وأما "الحكم" فهو من له الحكم والسلطان والقدر، فلا يقع شئ إلا بإذنه وهو المدبر والمتصرِّف "كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ" (الرحمن : 29)
و"الحكم" أيضاً من له التشريع والتحليل والتحريم، فالحكم ما شرع الله، والدين ما أمر ونهى، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، فاجتمع في الاسم "القدر" و"الشرع" "أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ" (الأعراف : 54) .
وحين يقول: "أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ" و"خَيْرُ الْحَاكِمِينَ"، فإن ذلك تأكيد على عدله ورحمته ووضعه الأشياء في موضعها، فليس في قدره ظلم ولا تعسُّف، وليس في شرعه محاباة ولا تحيز، بل هو حفظ للحقوق، حقوق الحاكم والمحكوم، والرجل والمرأة، والبرِّ والفاجر، والمسلم والكافر، والقوي والضعيف، وفي كل الأحوال حرباً وسِلماً، وعلى كل أحد دون استثناء، ولذا وجب على كل مسلم تحكيم كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في دقيق أموره وجلِّها على الصعيد الفردي والجماعي، والأسري، الخاص والعام، والسياسة والاقتصاد والاجتماع والإعلام، وكل شئ من حكمه وحكمته: أنه عدل لا يظلم أحداً، ولا يحمل هذا وزر ذاك، ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه، ولا يدع محسناً إلا أثابه على إحسانه "إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا" (الكهف : 30) .
2 ـ المراد بالحكمة:
الغايات المحمودة المقصودة بفعل الله وشرعه، وهي مقدمة في العلم والإدارة، متأخرة في الوجود والحصول، أي أنها تترتب على الأحوال والأفعال وتحصل بعدها .والحكمة تتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إلى الله يحبها ويرضاها، فهي صفة له تقوم به، لأن الله لا يوصف إلا بما قام به، وهي ليست مطلق الإرادة، وإلا لكان كل مريد حكيماً ولا قائل به.
ثانيهما: حكمة تعود إلى عباده، هي نعمة يفرحون ويلتذون بها في المأمورات والمخلوقات والحكمة لا يحيط بها علماً إلا الله تعالى، وبعضها معلوم للخلق وبعضها مما يخفى عليهم.
والحكمة في أفعال الله تعالى نوعان :
ــ الأول: حكمة مطلوبة لذاتها، كما في قوله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات : 56) . وقال: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا" (الطلاق : 12) .
فبين الله أن الحكمة من خلقه الجن والإنس ليعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئاً، وهذا أمر محبوب لله تعالى ومطلوب له، وكذلك بين أن من حكمة خلقه السماوات والأرض وتدبيره لهما علم العباد بقدرة الله وعلمه سبحانه.
ــ الثاني: حكمة مطلوبة لغيرها، وتكون وسيلة إلى مطلوب لنفسه ويوضحها قول الله تعالى: "وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ" (الأنعام : 53) ، فاللام في قوله: "لِّيَقُولواْ" دالة على الحكمة من قوله المذكور وهو امتحان بعض خلقه ببعض فكبراؤا القوم يأنفوم ويستكبرون عن قبول الحق عند الله رؤيتهم ضعفاء قد أسلموا فيقولون عند ذلك: "أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا"، فهذا القول بعض الحكمة المطلوبة بهذا الامتحان، وهي وسيلة إلى مطلوب لنفسه، فامتحان الله لهؤلاء يترتب عليه شكر هؤلاء وكفر هؤلاء، وذلك يوجب آثار مطلوبة للفاعل من إظهار عدله ، وحكمته وعزته ، وقهره وسلطانه ، وعطائه من يستحق عطاءه ويحسن وضعه عنده ومنعه من يستحق المنع، ولا يليق به غيره، ولهذا قال الله تعالى: "أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ" (الأنعام : 53) .
3 ـ الحكمة الحاصلة من الشرائع:
وأما الحكمة الحاصلة من الشرائع فثلاثة أنواع:
ــ النوع الأول: حكمة حاصلة من الأمر بفعل مشتمل على مصلحة معلومة بأصل الفطرة والعقل، كالعدل والإحسان، والصدق، أو حاصلة من النهي عن فعل مشتمل على مفسدة معلومة بأصل الفطرة والعقل، كالظلم والكذب، فالعدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل عل فسادهم، والشرع في أمره بالعدل ونهيه عن الظلم ولم يثبت للفعل صفة لم تكن ولكن لا يلزم من حصول القبح في الفعل بالعقل أن يكون فاعله معاقباً في الآخرة إذا لم يرد الشرع بذلك.
ـ النوع الثاني:حكمة حاصلة من الأمر بفعل، أو النهي عن فعل بحسب اشتماله على المصلحة والمفسدة التي لا تعرف بخطاب الشرع، فيكون الفعل قد اكتسب صفة الحسن والقبح بخطاب الشرع، كالتجرد في الإحرام والتطهر بالتراب، والسعي بين الصفاء والمروة، ورمي الجمار، ونحو ذلك.
ــ النوع الثالث: حكمة يكون منشؤها من الأمر لا من المأمور به، فيكون المراد من الأمر الإبتلاء والامتحان ولا يكون المراد فعل المأمور به ومثاله: أمر الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ بذبح ابنه إسماعيل ـ عليه السلام ـ فأراد الله إبتلاء خليله إبراهيم بعد أن رزقه الولد حتى يكون قلبه كله لله، ولم يكن تحقق ذبح ولده مراداً لله، وفي ذلك يقول الله تعالى: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ" (الصافات : 102 ـ 106) فلما تحقق ما أراده الله نسخ الأمر وهو لم يكن مريداً وقوع ذبح ابنه .
وزاد ابن القيم نوعاً رابعاً، وهو ما نشأت المصلحة فيه من الفعل المأمور به والأمر معاً، ومثاله: الصوم، والصلاة، والحج، وإقامة الحدود، وأكثر الأحكام الشرعية ، فإن مصلحتها ناشئة من الفعل والأمر معاً، فالفعل يتضمن مصلحة والأمر به يتضمن مصلحة أخرى، فالمصلحة فيها من وجهين .
4 ـ الأدلة الدالة على الحكمة:
والأدلة الدالة على الحكمة كثيرة جداً ذكرها العلماء والفقهاء في كتبهم، وقد حاول ابن القيم حصرها بأنواعها ـ بعد أن ذكر أن آحاد الأدلة كثيرة يصعب سردها كلهاـ وقد أوصلها إلى إلى اثنين وعشرين نوعاً ومن هذه الأدلة:
النوع الأول: وهو أعلاها، ما ورد فيه التصريح بلفظ الحكمة ، قال تعالى: "حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ" (القمر : 5) ، أي أن الله أرى الكافرين في آياته ـ وهي هنا إنشقاق القمر ـ وأتاهم بأنباء زاجرة لهم عن غيهم وضلالهم، كل ذلك حكمة منه سبحانه لتقوم حجته على العاملين، ولا يبقى لأحد على الله حجة بعد الرسل.
النوع الثاني: ذكر ما هو من صرائح التعليل، وهو من أجل أو لأجل، قال الله تعالى: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ" (المائدة : 32) ، فقول "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ" متعلق بـ"كَتَبْنَا" بمعنى: السبب في الحكم بشرعية القصاص على ابن آدم لأجل قتل ابن آدم أخاه، وكان ذلك حراسة الدنيا.
النوع الثالث: الإتيان بكي الصريحة في التعليل، كما قال تعالى: "مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ" (الحشر : 7) . فعلل سبحانه قسمته الفئ بين الأصناف التي ذكرها كي لا يتناوله الأغنياء دون الفقراء.
وقال تعالى: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ" (الحديد : 22 ـ 23) .
أنا قدر المصائب والبلاء قبل أن يبرأ الأنفس والمصائب والأرض، ومصدر ذلك قدرته وحكمته البالغة التي منها أن لا يحزن عباده ولا يفرحهم بما آتاهم إذا علموا أن المصيبة مقدرة كائنة ولا بد، وقد كتبت قبل خلقهم وذلك يهون عليهم ما أصابهم .
النوع الرابع: ذكر المفعول له، وهو علة للفعل المعلل به، قال الله تعالى: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل : 89) ، فقوله: "تِبْيَانًا" ـ وما بعدها ـ الأحسن أن ينصب على أنه مفعول لأجله لدلالة قول الله تعالى: "وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (النحل : 64) ، وقال تعالى: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ" (النحل : 44) ، وفي الآيتين بيان لتلك، وقال تعالى: "وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا" (الإسراء : 59) أي لأجل التخويف .
النوع الخامس: التعليل بـ"لعل" فهي في كلام الله تأتي للتعليل المجرد لا للترجي لاستحالته عليه، فإنه إنما يكون فيما تجهل عاقبته "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة : 21) ، وقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة : 183) ، وقوله "لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" (طه : 44) .
فلعلّ في المواضع المتقدمة قد أخلصت للتعليل للسبب الذي تقدم أولاً، والرجاء الذي فيها متعلق المخاطبين.
النوع السادس: تعليله سبحانه وتعالى عدم الحكم القدري والشرعي بوجود المانع منه .
فمن الأول قول الله تعالى: "وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ" (الشورى : 27) . بيَّن سبحانه أنه لا يوسع الدنيا ـ لبعض ـ الناس سعة تضرهم في دينهم، وهو سبحانه ينزل من رزقه بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته، فالمانع من بسط الرزق حصول البغي من الناس .
ومن الثاني قول الله تعالى: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ" (الأعراف : 32) ، فوصف بعض الرزق بكونه طيباً مانع من الحكم بتحريمه.
النوع السابع: إنكار الله سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لغاية ولا لحكمة بقوله تعالى: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ" (المؤمنون : 115) ، وقوله: "أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى" (القيامة : 36) .
والأنواع كثيرة والأصل أن يأتي التعليل بالحروف، وقد تدل عليه الأسماء والأفعال، والحق يقال أن السياق له أثر في الدلالة على العلية إن لم تكن الأدلة نصاً في العلية، فينظر فيما يحتمل التعليل وعدمه يحسب السياق .
5 ـ الحكمة من خلق إبليس ووجود هذه الآثام والشرور في الكون:
في ذلك من الحكم ما لا يحيط بتفصيله إلا الله، نذكر منها:
• أن يكمل الله عز وجل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة الشيطان وحزبه ومخالفته ومراغمته وإغاظته وإغاظة أوليائه، والاستعاذة به سبحانه من الشيطان، والإلجاء إليه سبحانه أن يعيذهم من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لا يمكن أن يحصل لهم بدون خلق الله.
• خوف المقربين من المؤمنين من ذنوبهم، بعد ما شاهدوا من حال إبليس، وكيف طرد من رحمة الله تعالى لذنبه؟ فكيف يأمن المقربون بعد ذلك؟ وكيف يأمن المؤمنون الصادقون بعد ذلك؟ إن كان قد طرد إبليس بذنب كيف يعجب بعد ذلك عالم بعلمه؟
فستظل هذه العبودية ملازمة للملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين والمؤمنين الصادقين لخوفهم من رب العالمين، لأنه طرد إبليس من رحمته بذنب وقع فيه، فالملائكة المقربون إذا ما أمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك مع أنهم لم يخالفوا الله في أمر، كما قال الله عز وجل في شأنهم: "لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" (التحريم : 6) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أطَّت السماء وحق لها أن تَئط ما فيها من موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله ، فهذا جبريل راه النبيُّ صلى الله عليه وسلم كالحلس البالي من شدة خوفه من الكبير المتعال، وهو أمين وحي السماء، وهكذا.
فالملائكة المقربون لما رأوا وشاهدوا ما كان من إبليس ازدادوا خوفاً ووجلاً، فكيف تستخرج العبودية إلا بمثل هذا الإبتلاء والتمحيص؟
والأنبياء والمرسلون وهم أعرف الناس بالله إزدادوا خوفاً ووجلاً من رب العالمين.
والمؤمنون الصادقون لا يغتر واحد منه بعلمه ولا بعمله، بل يظل دائماً على خوف ووجل، لأنه لا يأمن من مكر الله . قال تعالى: "فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ" (الأعراف : 99) .
• أن الله تبارك وتعالى جعله عبرة لمن خالف أمره وتكبر على طاعته وأصر على معصيته، كما جعل ذنب أبي البشر آدم ـ عليه السلام ـ عبرة لمن ارتكب نهيه أو عصي أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه، فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب، وجعل إبليس عبرة لمن أصر، وأقام على الذنب، وجعل آدم عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه فلله في هذا من الحكم الباهرة والآيات الظاهر؟!.
• أن الله تبارك وتعالى قد جعل إبليس محكَّاً يمتحن به خلقه ، ليتبين به خبيثهم وطيبهم، والله سبحانه وتعالى لا يبتلي خلقه وعباده ليعلم الخبيث من الطيب، فالله علم الخبيث والطيب أزلاً قبل أن يخلق الخبثاء والطيبين، ولكنه أراد أن يميز الخبيث من الطيب من الناس في الدنيا ويمحص الصف، ويجازي العباد وفق أعمالهم لا بمقتضى علمه فيهم. قال تعالى: "مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ" (آل عمران : 179) .
وقال تعالى: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" (آل عمران : 142) .وقال تبارك وتعالى: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ" (البقرة : 214) .وقال تعالى: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" (العنكبوت :2 ـ 3) .
• أن يُظهر الله عز وجل كمال قدرته لخلقه، فالله عز وجل خلق جبريل وجعله رسولاً للأنبياء، فهو أمين وحي السماء الذي به حياة الأرواح، وخلق ميكائيل، وجعله على الأرزاق والأمطار التي بها حياة الأبدان، وخلق إسرافيل ووكله بالصور الذي ينفخ فيه بأمر الله، لتحيا الأبدان مرة أخرى، ففيه حياة الأبدان بعد أماتة الله لها يوم القيامة، وخلق سائر الملائكة، وخلق إبليس والشياطين، وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه، فإنه خالق الأضداد كالسماء والأرض، والضياء والظلام، والجنة والنار، والماء والنار، والحر والبرد، والطيب والخبيث، والضد إنما يظهر جنسه بضده، فلولا القبيح لم نعرف فضيلة الجميل، ولولا الفقر لم نعرف قدرالغنى، وخلق الله آدم من غير أب ومن غير أم، وخلق حواء من أب دون أم، وخلق عيسى من أم دون أب، وخلق سائر البشر من أب وأم، لنعلم أن الله على كل شئ قدير، إن شاء أن يخلق بغير أب وبغير أم خلق، وإن شاء أن يخلق من أب وأم خلق، فالله سبحانه وتعالى يخلق الأضداد ليظهر كمال قدرته ومشيئته تبارك وتعالى.
• أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يشكر بحقيقة الشكر وأنواعه، ولا ريب أن أولياءه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده وامتحانهم به من أنواع شكره ما لم يكن يحصل لهم بدونه، فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قبل أن يخرج منها، وبين شكره بعد أن ابتلي بعدوه ثم اجتباه ربه وتاب عليه وقبله.
سبحانه من خلق الخلق بحكمته وعدله، فما من شئ في الكون صغر أو كبر علمناه أو جهلناه، رأيناه أم غاب عنا إلا وهو مخلوق لله بعدله وحكمه .
أن المحبة، والإنابة، والتوكل، والصبر، والرضا إلى غير ذلك من هذه المعاني هي أحب العبودية إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه العبودية لا تتحقق إلا بالجهاد بكل ما تحمله الكلمة من معنى هو ذروة سنام العبودية، وأحبها إلى الرب سبحانه، فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي لا يحصى حكمها وفوائدها وما فيها من المصالح إلا الله، لو لم يخلق الله عز وجل إبليس، فكيف تحقق مرتبة العبودية بجهادك لنفسك ولهواك وللشيطان؟.
• أن من أسماء الله: الحكيم، والحكمة من صفاته سبحانه وحكمته تستلزم وضع كل شيء موضعه الذي يليق به، فاقتضت حكمته خلق المتضادات، وتخصيص كل واحد منها بما لا يليق به غيره من الأحكام والصفات والخصائص .
• أن حمده سبحانه تام كامل من جميع الوجوه، فهو محمود على عدله ومنعه وخفضه وانتقامه وإهانته، كما هو محمود على فضله وعطائه ورفعه وإكرامه، فلله الحمد التام الكامل على هذا وهذا، وهو يحمد نفسه على ذلك كله، ويحمده عليه وملائكته ورسله وأولياؤه، ويحمده عليه أهل الموقف جميعهم، وما كان من لوازم كمال حمده وتمامه فله في خلقه وإيجاده الحكمة التامة كماله عليه الحمد التام ، فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين، ذو الحكمة البالغة والنعمة السابغة، الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته وما ذكرنا من هذه الحكم قطرة من بحر، وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من تحيط بكمال الله وحكمته في خلقه لكل شيء ، فإن كان الله تبارك وتعالى قد خلق إبليس لهذه الحكم التي وقفنا على بعضها، فلا شك أن خلق الله لغير إبليس ـ وهو رأس الشر ـ لحكم كثيرة من باب أولى، فالله تبارك وتعالى لم يُطلع خلقه إلا على بعض الحكم .
ويكفي العاقل: أن يعلم أن الله عز وجل عليم وحكيم، بهرت الألباب حكمته، ووسعت كل شيء رحمته، وأحاط بكل شيء علمه، وأحصاه لوحه وقلمه، وأن الله في قدره سراً مصوناً وعلماً، مخزوناً احترز به دون جميع خلقه، واستأثر به على جميع بريته وإنما يصل أهل العلم به وأرباب ولايته إلى جمل من ذلك، وقد لا يؤذن لهم في ذكرها، وربما كلموا الناس في ذلك على قدر عقولهم وقد سأل موسى وعيسى وعزير ربنا تبارك وتعالى عن شيء من سر القدر، وأنه لو شاء أن يطاع لأطيع، وأنه مع ذلك يعصى فأخبرهم سبحانه أن هذا سره، وفي هذا المقام تاهت عقول كثير من الخلائق .
وعن عمران بن ميمون عن ابن عباس قال: لما بعث الله موسى وكلمه قال: اللهم أنت رب عظيم ولو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت ألا تعصى لما عصيت وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذلك تعصى، فكيف هذا يا رب؟ فأوحى الله إليه: إني لا أُسأل عما أفعل وهم يسألون، فانتهى موسى .
6ـ ما الحكمة من إيجاد الكرام الكاتبين مع أن الله يعلم كل شيء:
نقول في مثل هذه الإمور إننا قد تدرك حكمتها وقد لا تدرك فإن كثيراً من الأشياء لا نعلم حكمتها كما قال تعالى:"وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً" (الإسراء: 85) ، فإن هذه المخلوقات لو سألنا سائل ما الحكمة أن الله جعل الإبل على هذا الوجه، وجعل الخيل على هذا الوجه، وجعل الحمير على هذا الوجه، وجعل الآدمي على هذا الوجه، وما أشبه ذلك، ولو سألنا عن الحكمة في هذه الأمور ما علمناها ولو سئلنا ما الحكمة في أن الله عز وجل جعل الظهر أربعاً وصلاة العصر أربعاً والمغرب ثلاثاً وصلاة العشاء أربعاً وما أشبه ذلك ما استطعنا أن نعلم الحكمة في ذلك وبهذا علمنا أن كثيراً من الأمور الكونية وكثيراً من الأمور الشرعية تخفي علينا حكمتها وإذا كان كذلك فإنا نقول إن التماسنا للحكمة في بعض الأشياء المخلوقة أو المشروعة إن منّ الله علينا بالوصول إليها فذاك زيادة فضل وخير وعلم، وإن لم تصل إليها فإن ذلك لا ينقصنا شيئاً. ثم نعود إلى جواب السؤال وهو ما الحكمة في أن الله عز وجل وكل بنا كراماً كاتبين يعلمون ما نفعل؟
فالحكمة من ذلك بيان أن الله سبحانه وتعالى نظم الاشياء وقدّرها وأحكمها إحكاماً متقناً حتى إنه سبحانه وتعالى جعل على أفعال بني آدم وأقوالهم كراماً كاتبين موكلين بهم يكتبون ما يفعلون مع أن سبحانه وتعالى عالم بما يفعلون قبل أن يفعلوه ولكن كل هذا من أجل بيان كمال عناية الله عز وجل بالإنسان، وكمال حفظه تبارك وتعالى وأن هذا الكون منظم أحسن نظام ومحكم أحسن إحكام والله عليم حكيم .
7 ـ الشر لا ينسب إلى الله تعالى:
الشر لا ينسب إلى الله، قال صلى الله عليه وسلم: والشر ليس إليك ، فلا ينسب الشر لا فعلاً ولا تقديراً ولا حكماً، بل الشر في مفعولات الله لا في فعله، ففعله كله خير وحكمة، ويظهر الفرق بين الفعل والمفعول في المثال التالي:
حينما يشتكي ولدك ويحتاج إلى جراحة، فالمفعول شر، ولكن الفعل خير، لأنك تريد مصلحته، ثم إن ما يقدره الله لا يكون شراً محصناً، بل في محله وزمانه فقط، فإذا أخذ الله الظالم أخذ عزيز مقتدر صار ذلك شراً بالنسبة له، أما لغيره ممن يتعظ بما صنع الله، فيكون خيراً، قال تعالى في القرية التي اعتدت في السبت"َفجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ" (البقرة: 66) .
وكذا إذا استمرت النعم على الإنسان حمله ذلك على الأشر والبطر، بل إذا استمرت الحسنات ولم تحصل منه سيئة تكسر من حدة نفسه، فقد يغفل عن التوبة وينساها ويغتر بنفسه ويعجب بعمله وكم من إنسان أذنب ذنباً ثم تذكر واستغفر وصار بعد التوبة خيراً منه قبلها، لأنه كلما تذكر معصيته هانت عليه نفسه وحد من عليائها، فهذا آدم عليه ـ الصلاة والسلام ـ لم يحصل له الإجتباء والتوبة والهداية إلا
بعد أن أكل من الشجرة وحصل منه الندم قال تعالى:"رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (الأعراف: 23) فقال تعالى:"ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى" (الشورى: 122).
والثلاثة الذين خلفوا بعد المعصية وبعد المصيبة التي أصابتهم حتى ضاقت عليه أنفسهم وضاقت عليهم الارض بما رحبت وصار ينكرهم الناس حتى أقاربهم، صار قريبه يشاهده وكأنه أجنبي منه ـ ومن شدة ما في نفسه تنكرت نفسه عليه، فبعد هذا الضيق العظيم صار لهم بعد التوبة فرح ليس له نظير أبداً، وصارت حالهم أيضاً، بعد أن تاب الله عليهم أكمل من قبل وصار ذكرهم بعد التوبة أكبر من قبل، فقد ذُكروا بأعينهم قال:"وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (التوبة: 118) . فهذه آيات عظيمة تتلى في محاريب المسلمين ومنابرهم إلى يوم القيامة وهذا شيء عظيم، وسواء كان ذلك في الإمور الشرعية أو في الأمور الكونية.
ولكن هاهنا أمر يجب معرفته وهو أن الخيرية والشرية ليست باعتبار قضاء الله سبحانه وتعالى، فقضاء الله تعالى كله خير، حتى ما يقضيه الله من شر هو في الواقع خير، وإنما الشر في المقضي، أما قضاء الله نفسه فهو خير والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم : الخير بيديك والشر ليس إليك . ولم يقل والشر بيدك، فلا ينسب الشر إلى الله أبداً، فضلاً عن أن يكون بيديه فلا ينسب الشر إلى الله لا إرادة ولا قضاء فالله لا يريد بقضاء الشر شراً، لكن الشر يكون في المقضي، وقد يلائم الإنسان وقد لا يلائمه، وقد يكون طاعة وقد يكون معصية، فهذا في المقضي، ومع ذلك فهو وإن كان شراً في محله فهو خير في محل آخر، ولا يمكن أن يكون شراً محضاً، حتى المقضي على كونه شراً ليس شراً محضاً، بل هو شر من وجه خير من وجه، أو شر في محل خير في محل آخر .
ولنضرب لذلك مثلاً: الجدب والفقر هذا شر، لكنه خير باعتبار ما ينتج عنه، قال تعالى:"ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الروم: 41) والرجوع إلى الله ـ عز وجل ـ من معصيته إلى طاعته لا شك أنه خير وينتج خيراً كثيراً، فألم الفقر وألم الجدب وألم المرض وألم فقد الأنفس كله ينقلب إلى لذة إذا كان يعقبه الصلاح ولهذا قال:"لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" .
وكم من أناس طغوا بكثرة المال وزادوا ونسوا الله ـ عز وجل ـ واشتغلوا بالمال فإذا أُصيبوا بفقر رجعوا إلى الله وعرفوا أنهم ضالون، فهذا الشر صار خيراً باعتبار آخر، كذلك قطع يد السارق لا شك أنه شر عليه لكنه خير بالنسبة لغيره، أما بالنسبة له فلأن قطعها يسقط عنه العقوبة في الآخرة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وهو أيضاً خير في غير السارق فإن فيه ردعاً لمن أراد أن يسرق وفيه أيضاً حفظ للأموال، لأن السارق إذا عرف أنه إذا سرق ستقطع يده امتنع من السرقة فصار في ذلك حفظ لأموال الناس .
فالله سبحانه وتعالى لا يخلق الشر المحض الذي لا خير فيه، ولا منفعة فيه لأحد، وليس له فيه حكمة ولا رحمة، ولا يعذب الناس بلا ذنب، وقد بين العلماء ما في خلقه لإبليس والحشرات والكواسر من الحكمة والرحمة، فالشيء الواحد يكون خلقه باعتبار خيراً وباعتبار آخر شراً، فالله خلق إبليس يبتلي به عباده فمنهم من يمقته ويحارب منهجه، ويعاديه ويعادي أولياءه، ويوالي الرحمن ويخضع له، ومنهم من يواليه ويتبع خطواته
الحلقة: الثالثة و الثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رمضان 1441 ه/ مايو 2020م
1 ـ الله الحكيم الحكم الحاكم:
من أسماء ربنا جل وتعالى التي عرَّف بها نفسه إلى عباده، وذكرها في كتابه، وعلى ألسنة رسله وأنبيائه "الحكيم"، وقد ورد هذا الاسم "الحكيم" أربعاً وتسعين مرة في القرآن الكريم، كما في قوله عز وجل: "الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" (البقرة : 32) ، "العَزِيزُ الحَكِيمُ" (البقرة : 129) ، "الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ" (الأنعام : 18) ، "وَاسِعًا حَكِيمًا" (النساء : 130) .
وقال تعالى: "أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً" (الأنعام : 114) . فهذا دليل على أن اسمه أيضاً "الحكم"، وقد جاء في خمسة مواضع بصيغة الجميع منها: "وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ" (الأعراف : 87) ، و"أَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ" (هود : 45) ، و"أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ" (التين : 8) .
و"الحكيم": هو الذي يُحكم الأشياء ويتقنها ويضعها في موضعها، كما قال سبحانه "صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ" (النمل : 88)
و"الحكيم" هو الذي يضع الشئ في موضعه بقدره، فلا يتقدم ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص، مع ما له في ذلك من الحكم البالغة العظيمة التي لا يأتي عليها الوصف، ولا يدركها الوهم .
فالحكيم الذي لا يدخل تدبيره ولا شرعه خلل ولا زلل، وأفعاله وأقواله تقع في مواضعها بحكمة وعدل وسداد، فلا يفعل إلا الصواب ولا يقول إلا الحق .
وأما "الحكم" فهو من له الحكم والسلطان والقدر، فلا يقع شئ إلا بإذنه وهو المدبر والمتصرِّف "كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ" (الرحمن : 29)
و"الحكم" أيضاً من له التشريع والتحليل والتحريم، فالحكم ما شرع الله، والدين ما أمر ونهى، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، فاجتمع في الاسم "القدر" و"الشرع" "أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ" (الأعراف : 54) .
وحين يقول: "أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ" و"خَيْرُ الْحَاكِمِينَ"، فإن ذلك تأكيد على عدله ورحمته ووضعه الأشياء في موضعها، فليس في قدره ظلم ولا تعسُّف، وليس في شرعه محاباة ولا تحيز، بل هو حفظ للحقوق، حقوق الحاكم والمحكوم، والرجل والمرأة، والبرِّ والفاجر، والمسلم والكافر، والقوي والضعيف، وفي كل الأحوال حرباً وسِلماً، وعلى كل أحد دون استثناء، ولذا وجب على كل مسلم تحكيم كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في دقيق أموره وجلِّها على الصعيد الفردي والجماعي، والأسري، الخاص والعام، والسياسة والاقتصاد والاجتماع والإعلام، وكل شئ من حكمه وحكمته: أنه عدل لا يظلم أحداً، ولا يحمل هذا وزر ذاك، ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه، ولا يدع محسناً إلا أثابه على إحسانه "إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا" (الكهف : 30) .
2 ـ المراد بالحكمة:
الغايات المحمودة المقصودة بفعل الله وشرعه، وهي مقدمة في العلم والإدارة، متأخرة في الوجود والحصول، أي أنها تترتب على الأحوال والأفعال وتحصل بعدها .والحكمة تتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إلى الله يحبها ويرضاها، فهي صفة له تقوم به، لأن الله لا يوصف إلا بما قام به، وهي ليست مطلق الإرادة، وإلا لكان كل مريد حكيماً ولا قائل به.
ثانيهما: حكمة تعود إلى عباده، هي نعمة يفرحون ويلتذون بها في المأمورات والمخلوقات والحكمة لا يحيط بها علماً إلا الله تعالى، وبعضها معلوم للخلق وبعضها مما يخفى عليهم.
والحكمة في أفعال الله تعالى نوعان :
ــ الأول: حكمة مطلوبة لذاتها، كما في قوله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات : 56) . وقال: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا" (الطلاق : 12) .
فبين الله أن الحكمة من خلقه الجن والإنس ليعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئاً، وهذا أمر محبوب لله تعالى ومطلوب له، وكذلك بين أن من حكمة خلقه السماوات والأرض وتدبيره لهما علم العباد بقدرة الله وعلمه سبحانه.
ــ الثاني: حكمة مطلوبة لغيرها، وتكون وسيلة إلى مطلوب لنفسه ويوضحها قول الله تعالى: "وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ" (الأنعام : 53) ، فاللام في قوله: "لِّيَقُولواْ" دالة على الحكمة من قوله المذكور وهو امتحان بعض خلقه ببعض فكبراؤا القوم يأنفوم ويستكبرون عن قبول الحق عند الله رؤيتهم ضعفاء قد أسلموا فيقولون عند ذلك: "أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا"، فهذا القول بعض الحكمة المطلوبة بهذا الامتحان، وهي وسيلة إلى مطلوب لنفسه، فامتحان الله لهؤلاء يترتب عليه شكر هؤلاء وكفر هؤلاء، وذلك يوجب آثار مطلوبة للفاعل من إظهار عدله ، وحكمته وعزته ، وقهره وسلطانه ، وعطائه من يستحق عطاءه ويحسن وضعه عنده ومنعه من يستحق المنع، ولا يليق به غيره، ولهذا قال الله تعالى: "أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ" (الأنعام : 53) .
3 ـ الحكمة الحاصلة من الشرائع:
وأما الحكمة الحاصلة من الشرائع فثلاثة أنواع:
ــ النوع الأول: حكمة حاصلة من الأمر بفعل مشتمل على مصلحة معلومة بأصل الفطرة والعقل، كالعدل والإحسان، والصدق، أو حاصلة من النهي عن فعل مشتمل على مفسدة معلومة بأصل الفطرة والعقل، كالظلم والكذب، فالعدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل عل فسادهم، والشرع في أمره بالعدل ونهيه عن الظلم ولم يثبت للفعل صفة لم تكن ولكن لا يلزم من حصول القبح في الفعل بالعقل أن يكون فاعله معاقباً في الآخرة إذا لم يرد الشرع بذلك.
ـ النوع الثاني:حكمة حاصلة من الأمر بفعل، أو النهي عن فعل بحسب اشتماله على المصلحة والمفسدة التي لا تعرف بخطاب الشرع، فيكون الفعل قد اكتسب صفة الحسن والقبح بخطاب الشرع، كالتجرد في الإحرام والتطهر بالتراب، والسعي بين الصفاء والمروة، ورمي الجمار، ونحو ذلك.
ــ النوع الثالث: حكمة يكون منشؤها من الأمر لا من المأمور به، فيكون المراد من الأمر الإبتلاء والامتحان ولا يكون المراد فعل المأمور به ومثاله: أمر الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ بذبح ابنه إسماعيل ـ عليه السلام ـ فأراد الله إبتلاء خليله إبراهيم بعد أن رزقه الولد حتى يكون قلبه كله لله، ولم يكن تحقق ذبح ولده مراداً لله، وفي ذلك يقول الله تعالى: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ" (الصافات : 102 ـ 106) فلما تحقق ما أراده الله نسخ الأمر وهو لم يكن مريداً وقوع ذبح ابنه .
وزاد ابن القيم نوعاً رابعاً، وهو ما نشأت المصلحة فيه من الفعل المأمور به والأمر معاً، ومثاله: الصوم، والصلاة، والحج، وإقامة الحدود، وأكثر الأحكام الشرعية ، فإن مصلحتها ناشئة من الفعل والأمر معاً، فالفعل يتضمن مصلحة والأمر به يتضمن مصلحة أخرى، فالمصلحة فيها من وجهين .
4 ـ الأدلة الدالة على الحكمة:
والأدلة الدالة على الحكمة كثيرة جداً ذكرها العلماء والفقهاء في كتبهم، وقد حاول ابن القيم حصرها بأنواعها ـ بعد أن ذكر أن آحاد الأدلة كثيرة يصعب سردها كلهاـ وقد أوصلها إلى إلى اثنين وعشرين نوعاً ومن هذه الأدلة:
النوع الأول: وهو أعلاها، ما ورد فيه التصريح بلفظ الحكمة ، قال تعالى: "حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ" (القمر : 5) ، أي أن الله أرى الكافرين في آياته ـ وهي هنا إنشقاق القمر ـ وأتاهم بأنباء زاجرة لهم عن غيهم وضلالهم، كل ذلك حكمة منه سبحانه لتقوم حجته على العاملين، ولا يبقى لأحد على الله حجة بعد الرسل.
النوع الثاني: ذكر ما هو من صرائح التعليل، وهو من أجل أو لأجل، قال الله تعالى: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ" (المائدة : 32) ، فقول "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ" متعلق بـ"كَتَبْنَا" بمعنى: السبب في الحكم بشرعية القصاص على ابن آدم لأجل قتل ابن آدم أخاه، وكان ذلك حراسة الدنيا.
النوع الثالث: الإتيان بكي الصريحة في التعليل، كما قال تعالى: "مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ" (الحشر : 7) . فعلل سبحانه قسمته الفئ بين الأصناف التي ذكرها كي لا يتناوله الأغنياء دون الفقراء.
وقال تعالى: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ" (الحديد : 22 ـ 23) .
أنا قدر المصائب والبلاء قبل أن يبرأ الأنفس والمصائب والأرض، ومصدر ذلك قدرته وحكمته البالغة التي منها أن لا يحزن عباده ولا يفرحهم بما آتاهم إذا علموا أن المصيبة مقدرة كائنة ولا بد، وقد كتبت قبل خلقهم وذلك يهون عليهم ما أصابهم .
النوع الرابع: ذكر المفعول له، وهو علة للفعل المعلل به، قال الله تعالى: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل : 89) ، فقوله: "تِبْيَانًا" ـ وما بعدها ـ الأحسن أن ينصب على أنه مفعول لأجله لدلالة قول الله تعالى: "وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (النحل : 64) ، وقال تعالى: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ" (النحل : 44) ، وفي الآيتين بيان لتلك، وقال تعالى: "وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا" (الإسراء : 59) أي لأجل التخويف .
النوع الخامس: التعليل بـ"لعل" فهي في كلام الله تأتي للتعليل المجرد لا للترجي لاستحالته عليه، فإنه إنما يكون فيما تجهل عاقبته "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة : 21) ، وقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة : 183) ، وقوله "لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" (طه : 44) .
فلعلّ في المواضع المتقدمة قد أخلصت للتعليل للسبب الذي تقدم أولاً، والرجاء الذي فيها متعلق المخاطبين.
النوع السادس: تعليله سبحانه وتعالى عدم الحكم القدري والشرعي بوجود المانع منه .
فمن الأول قول الله تعالى: "وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ" (الشورى : 27) . بيَّن سبحانه أنه لا يوسع الدنيا ـ لبعض ـ الناس سعة تضرهم في دينهم، وهو سبحانه ينزل من رزقه بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته، فالمانع من بسط الرزق حصول البغي من الناس .
ومن الثاني قول الله تعالى: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ" (الأعراف : 32) ، فوصف بعض الرزق بكونه طيباً مانع من الحكم بتحريمه.
النوع السابع: إنكار الله سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لغاية ولا لحكمة بقوله تعالى: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ" (المؤمنون : 115) ، وقوله: "أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى" (القيامة : 36) .
والأنواع كثيرة والأصل أن يأتي التعليل بالحروف، وقد تدل عليه الأسماء والأفعال، والحق يقال أن السياق له أثر في الدلالة على العلية إن لم تكن الأدلة نصاً في العلية، فينظر فيما يحتمل التعليل وعدمه يحسب السياق .
5 ـ الحكمة من خلق إبليس ووجود هذه الآثام والشرور في الكون:
في ذلك من الحكم ما لا يحيط بتفصيله إلا الله، نذكر منها:
• أن يكمل الله عز وجل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة الشيطان وحزبه ومخالفته ومراغمته وإغاظته وإغاظة أوليائه، والاستعاذة به سبحانه من الشيطان، والإلجاء إليه سبحانه أن يعيذهم من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لا يمكن أن يحصل لهم بدون خلق الله.
• خوف المقربين من المؤمنين من ذنوبهم، بعد ما شاهدوا من حال إبليس، وكيف طرد من رحمة الله تعالى لذنبه؟ فكيف يأمن المقربون بعد ذلك؟ وكيف يأمن المؤمنون الصادقون بعد ذلك؟ إن كان قد طرد إبليس بذنب كيف يعجب بعد ذلك عالم بعلمه؟
فستظل هذه العبودية ملازمة للملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين والمؤمنين الصادقين لخوفهم من رب العالمين، لأنه طرد إبليس من رحمته بذنب وقع فيه، فالملائكة المقربون إذا ما أمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك مع أنهم لم يخالفوا الله في أمر، كما قال الله عز وجل في شأنهم: "لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" (التحريم : 6) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أطَّت السماء وحق لها أن تَئط ما فيها من موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله ، فهذا جبريل راه النبيُّ صلى الله عليه وسلم كالحلس البالي من شدة خوفه من الكبير المتعال، وهو أمين وحي السماء، وهكذا.
فالملائكة المقربون لما رأوا وشاهدوا ما كان من إبليس ازدادوا خوفاً ووجلاً، فكيف تستخرج العبودية إلا بمثل هذا الإبتلاء والتمحيص؟
والأنبياء والمرسلون وهم أعرف الناس بالله إزدادوا خوفاً ووجلاً من رب العالمين.
والمؤمنون الصادقون لا يغتر واحد منه بعلمه ولا بعمله، بل يظل دائماً على خوف ووجل، لأنه لا يأمن من مكر الله . قال تعالى: "فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ" (الأعراف : 99) .
• أن الله تبارك وتعالى جعله عبرة لمن خالف أمره وتكبر على طاعته وأصر على معصيته، كما جعل ذنب أبي البشر آدم ـ عليه السلام ـ عبرة لمن ارتكب نهيه أو عصي أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه، فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب، وجعل إبليس عبرة لمن أصر، وأقام على الذنب، وجعل آدم عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه فلله في هذا من الحكم الباهرة والآيات الظاهر؟!.
• أن الله تبارك وتعالى قد جعل إبليس محكَّاً يمتحن به خلقه ، ليتبين به خبيثهم وطيبهم، والله سبحانه وتعالى لا يبتلي خلقه وعباده ليعلم الخبيث من الطيب، فالله علم الخبيث والطيب أزلاً قبل أن يخلق الخبثاء والطيبين، ولكنه أراد أن يميز الخبيث من الطيب من الناس في الدنيا ويمحص الصف، ويجازي العباد وفق أعمالهم لا بمقتضى علمه فيهم. قال تعالى: "مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ" (آل عمران : 179) .
وقال تعالى: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" (آل عمران : 142) .وقال تبارك وتعالى: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ" (البقرة : 214) .وقال تعالى: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" (العنكبوت :2 ـ 3) .
• أن يُظهر الله عز وجل كمال قدرته لخلقه، فالله عز وجل خلق جبريل وجعله رسولاً للأنبياء، فهو أمين وحي السماء الذي به حياة الأرواح، وخلق ميكائيل، وجعله على الأرزاق والأمطار التي بها حياة الأبدان، وخلق إسرافيل ووكله بالصور الذي ينفخ فيه بأمر الله، لتحيا الأبدان مرة أخرى، ففيه حياة الأبدان بعد أماتة الله لها يوم القيامة، وخلق سائر الملائكة، وخلق إبليس والشياطين، وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه، فإنه خالق الأضداد كالسماء والأرض، والضياء والظلام، والجنة والنار، والماء والنار، والحر والبرد، والطيب والخبيث، والضد إنما يظهر جنسه بضده، فلولا القبيح لم نعرف فضيلة الجميل، ولولا الفقر لم نعرف قدرالغنى، وخلق الله آدم من غير أب ومن غير أم، وخلق حواء من أب دون أم، وخلق عيسى من أم دون أب، وخلق سائر البشر من أب وأم، لنعلم أن الله على كل شئ قدير، إن شاء أن يخلق بغير أب وبغير أم خلق، وإن شاء أن يخلق من أب وأم خلق، فالله سبحانه وتعالى يخلق الأضداد ليظهر كمال قدرته ومشيئته تبارك وتعالى.
• أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يشكر بحقيقة الشكر وأنواعه، ولا ريب أن أولياءه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده وامتحانهم به من أنواع شكره ما لم يكن يحصل لهم بدونه، فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قبل أن يخرج منها، وبين شكره بعد أن ابتلي بعدوه ثم اجتباه ربه وتاب عليه وقبله.
سبحانه من خلق الخلق بحكمته وعدله، فما من شئ في الكون صغر أو كبر علمناه أو جهلناه، رأيناه أم غاب عنا إلا وهو مخلوق لله بعدله وحكمه .
أن المحبة، والإنابة، والتوكل، والصبر، والرضا إلى غير ذلك من هذه المعاني هي أحب العبودية إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه العبودية لا تتحقق إلا بالجهاد بكل ما تحمله الكلمة من معنى هو ذروة سنام العبودية، وأحبها إلى الرب سبحانه، فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي لا يحصى حكمها وفوائدها وما فيها من المصالح إلا الله، لو لم يخلق الله عز وجل إبليس، فكيف تحقق مرتبة العبودية بجهادك لنفسك ولهواك وللشيطان؟.
• أن من أسماء الله: الحكيم، والحكمة من صفاته سبحانه وحكمته تستلزم وضع كل شيء موضعه الذي يليق به، فاقتضت حكمته خلق المتضادات، وتخصيص كل واحد منها بما لا يليق به غيره من الأحكام والصفات والخصائص .
• أن حمده سبحانه تام كامل من جميع الوجوه، فهو محمود على عدله ومنعه وخفضه وانتقامه وإهانته، كما هو محمود على فضله وعطائه ورفعه وإكرامه، فلله الحمد التام الكامل على هذا وهذا، وهو يحمد نفسه على ذلك كله، ويحمده عليه وملائكته ورسله وأولياؤه، ويحمده عليه أهل الموقف جميعهم، وما كان من لوازم كمال حمده وتمامه فله في خلقه وإيجاده الحكمة التامة كماله عليه الحمد التام ، فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين، ذو الحكمة البالغة والنعمة السابغة، الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته وما ذكرنا من هذه الحكم قطرة من بحر، وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من تحيط بكمال الله وحكمته في خلقه لكل شيء ، فإن كان الله تبارك وتعالى قد خلق إبليس لهذه الحكم التي وقفنا على بعضها، فلا شك أن خلق الله لغير إبليس ـ وهو رأس الشر ـ لحكم كثيرة من باب أولى، فالله تبارك وتعالى لم يُطلع خلقه إلا على بعض الحكم .
ويكفي العاقل: أن يعلم أن الله عز وجل عليم وحكيم، بهرت الألباب حكمته، ووسعت كل شيء رحمته، وأحاط بكل شيء علمه، وأحصاه لوحه وقلمه، وأن الله في قدره سراً مصوناً وعلماً، مخزوناً احترز به دون جميع خلقه، واستأثر به على جميع بريته وإنما يصل أهل العلم به وأرباب ولايته إلى جمل من ذلك، وقد لا يؤذن لهم في ذكرها، وربما كلموا الناس في ذلك على قدر عقولهم وقد سأل موسى وعيسى وعزير ربنا تبارك وتعالى عن شيء من سر القدر، وأنه لو شاء أن يطاع لأطيع، وأنه مع ذلك يعصى فأخبرهم سبحانه أن هذا سره، وفي هذا المقام تاهت عقول كثير من الخلائق .
وعن عمران بن ميمون عن ابن عباس قال: لما بعث الله موسى وكلمه قال: اللهم أنت رب عظيم ولو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت ألا تعصى لما عصيت وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذلك تعصى، فكيف هذا يا رب؟ فأوحى الله إليه: إني لا أُسأل عما أفعل وهم يسألون، فانتهى موسى .
6ـ ما الحكمة من إيجاد الكرام الكاتبين مع أن الله يعلم كل شيء:
نقول في مثل هذه الإمور إننا قد تدرك حكمتها وقد لا تدرك فإن كثيراً من الأشياء لا نعلم حكمتها كما قال تعالى:"وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً" (الإسراء: 85) ، فإن هذه المخلوقات لو سألنا سائل ما الحكمة أن الله جعل الإبل على هذا الوجه، وجعل الخيل على هذا الوجه، وجعل الحمير على هذا الوجه، وجعل الآدمي على هذا الوجه، وما أشبه ذلك، ولو سألنا عن الحكمة في هذه الأمور ما علمناها ولو سئلنا ما الحكمة في أن الله عز وجل جعل الظهر أربعاً وصلاة العصر أربعاً والمغرب ثلاثاً وصلاة العشاء أربعاً وما أشبه ذلك ما استطعنا أن نعلم الحكمة في ذلك وبهذا علمنا أن كثيراً من الأمور الكونية وكثيراً من الأمور الشرعية تخفي علينا حكمتها وإذا كان كذلك فإنا نقول إن التماسنا للحكمة في بعض الأشياء المخلوقة أو المشروعة إن منّ الله علينا بالوصول إليها فذاك زيادة فضل وخير وعلم، وإن لم تصل إليها فإن ذلك لا ينقصنا شيئاً. ثم نعود إلى جواب السؤال وهو ما الحكمة في أن الله عز وجل وكل بنا كراماً كاتبين يعلمون ما نفعل؟
فالحكمة من ذلك بيان أن الله سبحانه وتعالى نظم الاشياء وقدّرها وأحكمها إحكاماً متقناً حتى إنه سبحانه وتعالى جعل على أفعال بني آدم وأقوالهم كراماً كاتبين موكلين بهم يكتبون ما يفعلون مع أن سبحانه وتعالى عالم بما يفعلون قبل أن يفعلوه ولكن كل هذا من أجل بيان كمال عناية الله عز وجل بالإنسان، وكمال حفظه تبارك وتعالى وأن هذا الكون منظم أحسن نظام ومحكم أحسن إحكام والله عليم حكيم .
7 ـ الشر لا ينسب إلى الله تعالى:
الشر لا ينسب إلى الله، قال صلى الله عليه وسلم: والشر ليس إليك ، فلا ينسب الشر لا فعلاً ولا تقديراً ولا حكماً، بل الشر في مفعولات الله لا في فعله، ففعله كله خير وحكمة، ويظهر الفرق بين الفعل والمفعول في المثال التالي:
حينما يشتكي ولدك ويحتاج إلى جراحة، فالمفعول شر، ولكن الفعل خير، لأنك تريد مصلحته، ثم إن ما يقدره الله لا يكون شراً محصناً، بل في محله وزمانه فقط، فإذا أخذ الله الظالم أخذ عزيز مقتدر صار ذلك شراً بالنسبة له، أما لغيره ممن يتعظ بما صنع الله، فيكون خيراً، قال تعالى في القرية التي اعتدت في السبت"َفجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ" (البقرة: 66) .
وكذا إذا استمرت النعم على الإنسان حمله ذلك على الأشر والبطر، بل إذا استمرت الحسنات ولم تحصل منه سيئة تكسر من حدة نفسه، فقد يغفل عن التوبة وينساها ويغتر بنفسه ويعجب بعمله وكم من إنسان أذنب ذنباً ثم تذكر واستغفر وصار بعد التوبة خيراً منه قبلها، لأنه كلما تذكر معصيته هانت عليه نفسه وحد من عليائها، فهذا آدم عليه ـ الصلاة والسلام ـ لم يحصل له الإجتباء والتوبة والهداية إلا
بعد أن أكل من الشجرة وحصل منه الندم قال تعالى:"رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (الأعراف: 23) فقال تعالى:"ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى" (الشورى: 122).
والثلاثة الذين خلفوا بعد المعصية وبعد المصيبة التي أصابتهم حتى ضاقت عليه أنفسهم وضاقت عليهم الارض بما رحبت وصار ينكرهم الناس حتى أقاربهم، صار قريبه يشاهده وكأنه أجنبي منه ـ ومن شدة ما في نفسه تنكرت نفسه عليه، فبعد هذا الضيق العظيم صار لهم بعد التوبة فرح ليس له نظير أبداً، وصارت حالهم أيضاً، بعد أن تاب الله عليهم أكمل من قبل وصار ذكرهم بعد التوبة أكبر من قبل، فقد ذُكروا بأعينهم قال:"وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (التوبة: 118) . فهذه آيات عظيمة تتلى في محاريب المسلمين ومنابرهم إلى يوم القيامة وهذا شيء عظيم، وسواء كان ذلك في الإمور الشرعية أو في الأمور الكونية.
ولكن هاهنا أمر يجب معرفته وهو أن الخيرية والشرية ليست باعتبار قضاء الله سبحانه وتعالى، فقضاء الله تعالى كله خير، حتى ما يقضيه الله من شر هو في الواقع خير، وإنما الشر في المقضي، أما قضاء الله نفسه فهو خير والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم : الخير بيديك والشر ليس إليك . ولم يقل والشر بيدك، فلا ينسب الشر إلى الله أبداً، فضلاً عن أن يكون بيديه فلا ينسب الشر إلى الله لا إرادة ولا قضاء فالله لا يريد بقضاء الشر شراً، لكن الشر يكون في المقضي، وقد يلائم الإنسان وقد لا يلائمه، وقد يكون طاعة وقد يكون معصية، فهذا في المقضي، ومع ذلك فهو وإن كان شراً في محله فهو خير في محل آخر، ولا يمكن أن يكون شراً محضاً، حتى المقضي على كونه شراً ليس شراً محضاً، بل هو شر من وجه خير من وجه، أو شر في محل خير في محل آخر .
ولنضرب لذلك مثلاً: الجدب والفقر هذا شر، لكنه خير باعتبار ما ينتج عنه، قال تعالى:"ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الروم: 41) والرجوع إلى الله ـ عز وجل ـ من معصيته إلى طاعته لا شك أنه خير وينتج خيراً كثيراً، فألم الفقر وألم الجدب وألم المرض وألم فقد الأنفس كله ينقلب إلى لذة إذا كان يعقبه الصلاح ولهذا قال:"لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" .
وكم من أناس طغوا بكثرة المال وزادوا ونسوا الله ـ عز وجل ـ واشتغلوا بالمال فإذا أُصيبوا بفقر رجعوا إلى الله وعرفوا أنهم ضالون، فهذا الشر صار خيراً باعتبار آخر، كذلك قطع يد السارق لا شك أنه شر عليه لكنه خير بالنسبة لغيره، أما بالنسبة له فلأن قطعها يسقط عنه العقوبة في الآخرة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وهو أيضاً خير في غير السارق فإن فيه ردعاً لمن أراد أن يسرق وفيه أيضاً حفظ للأموال، لأن السارق إذا عرف أنه إذا سرق ستقطع يده امتنع من السرقة فصار في ذلك حفظ لأموال الناس .
فالله سبحانه وتعالى لا يخلق الشر المحض الذي لا خير فيه، ولا منفعة فيه لأحد، وليس له فيه حكمة ولا رحمة، ولا يعذب الناس بلا ذنب، وقد بين العلماء ما في خلقه لإبليس والحشرات والكواسر من الحكمة والرحمة، فالشيء الواحد يكون خلقه باعتبار خيراً وباعتبار آخر شراً، فالله خلق إبليس يبتلي به عباده فمنهم من يمقته ويحارب منهجه، ويعاديه ويعادي أولياءه، ويوالي الرحمن ويخضع له، ومنهم من يواليه ويتبع خطواته
تحميل سلسلة كتب الإيمان كتاب :
الإيمان بالقدر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book96.pdf