ثمار الإيمان بالقدر (3)
الحلقة: الثامنة و الثلاثون والأخيرة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رمضان 1441 ه/ مايو 2020م
1- الإستعانة بالله:
ومن ثمار الإيمان بالقدر يعلم العبد يقيناً أن الأمر كله بيد الله خلقاً ومشيئة وتقديراً وإيجاداً، فالمستعان على حصول المراد هو الله وحده دون غيره، ولهذا فهو يستعين بالله على حصول مراده، ولأمر ما كانت سورة الفاتحة تقرأ في كل صلاة، بل لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، كما جاء في الحديث الشريف وفي هذه السورة الكريمة، قوله تعالى:"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" (الفاتحة: 5) ، فإذا استعان بالله وباشر السبب وحصل المقصود فهذا من فضل الله وإن لم يحصل المقصود لم ييأس المسلم فقد يكون في تأخير حصول المطلوب خير لا تعرف وجهه، فالله يعلم ونحن لا نعلم، وما نعلمه من حكمته تعالى شيء قليل للغاية بالنسبة لما لا نعرفه من هذه الحكمة وعليه ـ أي على المسلم ـ أن يجدد السعي مستعيناً بالله ولا يعجز عن ذلك ولا يقبل لو إني فعلت كذا كان كذا، فإن هذا الكلام لا يفيد شيئاً وإنما يفتح باباً لعبث الشيطان .
2- الاعتماد على الله وحده:
وصاحب الإيمان الصحيح بالقدر يباشر الاسباب بيده ولكن اعتماده على الله وحده لا على السبب، وهكذا كان حال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
فقد اختفى صلى الله عليه وسلم في الغار وهذا منه صلى الله عليه وسلم مباشرة لسبب الخلاص من المشركين ولكن ما كان اعتماده في الخلاص من المشركين على هذا السبب ـ ولا على غيره من الأسباب ـ ولكن كان اعتماده على الله وحده، قال تعالى:"ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا" (التوبة: 40) . فثقته صلى الله عليه وسلم واطمئنانه وسكينته وأمله في الخلاص، إنما كان ذلك بسبب تلك المعية الخاصة المتأنية من اعتماده على الله لا بسبب الاختفاء بالغار.
وفي معركة بدر بعد أن نظم صلى الله عليه وسلم الجيش وباشر الاسباب المادية للمعركة رجع إلى العريش المنصوب له يدعو ربه ويكثر من الدعاء لأنه يعلم صلى الله عليه وسلم أن النصر بيد الله والاعتماد في تحصيله يجب أن يكون على الله لا على الأسباب التي باشرها وإن كان لابد من مباشرتها، وهذا هو التوكل الصحيح الذي هو من ثمرات الإيمان الصحيح بالقدر، ومن ثمرات التوكل كفاية الله "وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" (الطلاق: 3) .
3- الاعتراف بفضل الله:
والإيمان بالقدر يجعل موقف صاحبه عند فعل الحسنات موقفاً صحيحاً سليماً تترتب عليه طهارة قلبه من أرجاس كثيرة وبالتالي يستقيم سلوكه وتزكوا أخلاقه.
وتفصيل ذلك أن صاحب الإيمان بالقدر يشاهد القدر ويستحضره في ذهنه عند فعل الحسنات وعمل الصالحات وهذه المشاهدة تثمر في نفسه الاعتراف بأن ما صدر منه وهو بمحض فضل الله عليه ليس له فيه شيء، وهذا يؤدي بدوره إلى قمع نوازع الكبر والغرور والعجب بنفسه والمن على الناس ونحو ذلك من الأقذار القلبية، لأن هذه الأقذار إنما تكون في الإنسان لاعتقاده أن فيه من معاني الامتياز على غيره ما يدعوه إلى التكبر عليهم والعجب بنفسه والغرور ونحو ذلك، سواء كانت هذه المعاني أعمالاً صالحة أو عبادة أو فعل حسنات أو قوة أو علماً أو سلطاناً أو مالاً أو كثرة اتباع ونحو ذلك، فإذا شاهد القدر عند فعله الحسنات، أو عند حصول شيء مما ذكرنا في يده، وعلم أن ذلك كله من عند الله وحده وما حصل على يديه هو محض فضل الله عليه، زال منه العجب والكبر والغرور والمنة على الله وعلى الناس، وبالتالي تجره هذه المشاهدة وما يترتب عليها إلى حمد الله وشكره وهكذا يفعل المؤمنون. قال تعالى:"وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ" (الأعراف: 43) ، وهداية الله للعبد تتضمن الأعمال الصالحة التي يعلمها، والعلم بالحقائق الدينية والعمل بها ونحو ذلك .
كما أن مشاهدة القدر عند فعل الحسنات تفيد المسلم من ناحية أخرى هي استدامة افتقاره إلى الله وتصرفه بهذه الكيفية وتثبته الدائم برحمة الله وطلب عفوه وعدم الالتفاف إلى عمله، واعتقاده الجازم بأن فوزه في الآخرة إنما يكون بمحض فضل الله ورحمته لا بعمله، لأن عمله الطيب إنما هو محض فضل الله فلا يستحق به الجنة وإنما يستحقها بفضل آخر من الله تعالى وبهذا جاء في الحديث الشريف: لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل .
لكن قد يقول بعض الناس قولكم منقوض بقوله تعالى:"تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الأعراف: 43) ، فدخول الجنة إنما يكون بالعمل فكيف تنفونه؟ أو تقللون من شأنه؟
والجواب أن الآية الكريمة دلت على أن العمل سبب لدخول الجنة، فالباء في قوله تعالى "بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" هي باء السببية ونحن لا ننكر الأسباب، ولا كون العمل الصالح سبباً للجنة، الذي تتكلم فيه وننفيه أن يكون العمل عوضاً وثمناً مكافئاً لدخول الجنة، وهذا ما نفاه الحديث الشريف، فالباء في قوله صلى الله عليه وسلم: لن يدخل أحدكم الجنة بعمله: هي باء المعاوضة والثمنية، كما في قول القائل اشتريت هذا القلم بدرهم، فالعمل ليس عوضاً ولا ثمناً لدخل الجنة، ولا يصلح أبداً أن يكون عوضاً لها.
ولتقريب هذا المعنى إلى الأذهان نقول أن الإنسان لو عبد ربه عمره كله وأتى بالصالحات فأية نسبة بين ما قدم من عمل في عمره المحدود وبين نعيم الجنة الدائم الممدود؟ أية نسبة بين عمل في زمن يتناهى، هو عمر الإنسان، وبين نعيم في زمن لا يتناهى هو نعيم الجنة؟ فلابد إذن من فضل الله ورحمته ليظفر المؤمن بالجنة، وهذا المعنى لا يمكن تحصيله وانصباغ النفس به إلا بالمشاهدة الدائمة للقدر عند فعل الخير والحسنات .
وفائدة أخرى لمشاهدة القدر عند فعل الحسنات هي أن المسلم إذا فعل خيراً لغيره وهذا من الحسنات، قد تتحرك فيه نوازع المنة على الغير وحب الاستعلاء عليه والاستشراف إلى طلب العوض منه، فهذه النوازع تموت إذا شاهد القدر وهو يفعل الخير لغيره لأنه بهذه المشاهدة يعلم أنه واسطة فقط لإيصال ما قدره الله من خير لذلك الغير، فلا داعي إذن لأنه يَمُنّ هو على هذا الغير أن يستعلي عليه أو يتطلع إلى العوض منه.
أرأيت لو أن سيداً أرسل خادمه بهدية إلى شخص أيكون من حق الخادم أن يمن على المهدي إليه أو يستعلي عليه بهذه الهدية وهو محض واسطة لإيصالها إليه؟
وإذا كان صاحب الإيمان بالقدر لا يمن ولا يستعلي على من فعل له خيراً،فمن باب أولى أن لا يكون كذلك إذا لم يفعل له شيئاً، وبهذا المسلك الحميد من صاحب الإيمان بالقدر، أي يفعله الخير للناس دون منة أو استعلاء عليهم أو طلب العوض منهم يكون من الذين قال الله فيهم "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا" (الإنسان: 9) .
4- الاستغناء بالخالق عن الخلق:
ومن ثمرات الإيمان بالقدر الاستغناء بالخالق عن المخلوق والحرص على رضى الله وحده ورجاؤه والخوف منه، والتوكل عليه والاستعانة به وتفويض الأمر إليه والانكسار بين يديه وتبليغ رسالات الله بدون وجل ولا تردد ولا خشية من أحد على وجه الأرض "الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا" (الأحزاب: 39) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أرضى الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس، ومن أسخط الناس برضا الله كفاه الله مؤنة الناس"
فالسعيد الذي لا يعنيه إلا رضا الله، ولا يعنيه الشر إطلاقاً، لا يلتفت إلى الخلق، لأنه على يقين أن رزقه بيد الخالق، لا بيد الخلق وأن قلوب الخلق لا تقبل إليه بالحب والبغض إلا بتقدير الخالق، فهذا لا يعلق قلبه بالمخلوقين لا بثنائهم، لا ببغضهم، ولا بذمتهم، ولا بحمدهم، بل يعلق قلبه بربهم جل جلاله، فلا يعنيه إلا أن يقول: قال الله: قال رسوله بما يرضي الله سبحانه لا بما يُحصّلُ به رضا الناس ، فمن قال لله لا يخشى في الله لومة لائم، بالحكمة البالغة، والموعظة الحسنة، أسعده الله في الدنيا والآخرة .
5-ـ الاعتراف بالذنب والمسارعة للمغفرة والتوبة:
وصاحب الإيمان الصحيح بالقدر يشاهد نفسه عند فعل السيئات وارتكاب المنهيات ولا يحتج بالقدر على عصيانه لأنه لا حجة لأحد فيه، كما بيّنا، وإنما يرجع إلى نفسه ليوبخها من كبوتها حالاً كما ينهض من الوحل ، إذا وقع فيه ويعقد العزم على عدم العودة إلى الذنب ، ويتوجه إلى الله بالاعتراف بالذنب بانكسار قلب، وبهذا كله علّمنا القرآن وضرب لنا الأمثال وقص علينا موقف انبيائه الكرام في مثل هذه الأحوال، قال تعالى عن نبيه آدم عليه السلام :"رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّم تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (الأعراف: 23) ، وقال تعالى عن موسى عليه السلام :"رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي" (القصص: 16) .
وفي الحديث الشريف: سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فأغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
أما من يشاهد القدر عند فعله السيئات محتجاً به دافعاً المسئولية عن نفسه فمثله مثل إبليس حيث قال كما أخبرنا الله عنه :"قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ" (الحجر: 39) . وكان عاقبته - كما هو معروف - الطرد من رحمة الله .
هذه بعض ثمار الإيمان بالقدر وغيرها كثير، منها :
• أنه أداة عبادة لله عز وجل، فالقدر مما تعبدنا الله سبحانه بالإيمان به، وقوة الإيمان، فالذي يؤمن بالقدر يقوى إيمانه، فلا يتخلى عنه لا يتزعزع أو يتضعضع مهما ناله في ذلك السبيل.
• الهداية ، كما قال تعالى:" وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ" (التغابن: 11)
• الكرم ، فالذي يؤمن بالقدر، وأن الفقر والغنى بيد الله وأنه لا يفتقر إلا إذا قدر الله له ذلك، فإنه ينفق ولا يبالي.
• إحسان الظن بالله قوة الرجاء، فالمؤمن بالقدر حسن الظن بالله، قوي الرجاء به في كل أحواله.
• عدم الاعتماد على الكهان والمنجمين المشعـوذين والتمسح بأتربة القبور، ودعاء غير الله، وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، لأنها لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضرّاً.
• السلامة من الاعتراض على أحكام الله الشرعية، وأقداره الكونية والتسليم لله في ذلك كله.
• عدم اليأس من انتصار الحق : فالمؤمن بالقدر يعلم علم اليقين أن العاقبة للمتقين وإن قدرة الله في ذلك نافذ لا محالة، فلا يدب اليأس إلى قلبه، لا يعرف إليه طريقاً مهما احلولكت ظلمة الباطل.
• علو الهمة ، وعدم الرضا بالدون، وعدم الرضا بالواقع الأليم .
تحميل سلسلة كتب الإيمان كتاب :
الإيمان بالقدر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book96.pdf