الأحد

1446-06-28

|

2024-12-29

"معنى القضاء والقدر"

من كتاب "الإيمان بالقدر"

لمؤلفه الشيخ الدكتور علي محمد الصلّابي

الحلقة الأولى

هذا الكتاب يستهدف مخاطبة العقول، وإحياء القلوب، وتحريك الفُطر، وربط الناس بالخالق العظيم، وما ورد في القضاء والقدر والحكمة والتعليل فهو من أسمى المقاصد الإسلامية، والإيمان به قطب رحى التوحيد ونظامه، ومبدأ الدين المبين وختامه، وهو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان التي يرجع إليها، ويدور في جميع تصاريفه عليها، فالعدل قوام الملك، والحكمة مظهر الحمد، والتوحيد متضمن لنهاية الحكمة، وكمال النعمة، وبالحكمة الإلهية والقدر الرباني، ظهر خلقه وشرعه المبين تبارك وتعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54].

القضاء والقدر لغة وشرعاً:

1. معنى القضاء لغة:
إحكام أمر واِتقانه وإنفاذه لجهته، وقال ابن الأثير في النهاية: القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه فمعنى القضاء في اللغة هو إحكام الشيء، وإتمام الأمر، وهذا هو معنى القضاء، وإليه ترجع جميع معاني القضاء الواردة في اللغة، وقد يأتي بمعنى القدر.
وقد ورد لفظ القضاء ومشتقاته كثيراً في القرآن الكريم، وكل معانيه التي قد تأتي متداخلة أحياناً. وترجع إلى الأصل السابق فمن المعاني التي ورد بها:
- معنى الأمر: قال تعالى:﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 23] أي: أمر سبحانه وتعالى ـ بعبادته وحده لا شريك له.
- معنى الإنهاء: ومنه قوله تعالى:﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ﴾ [الحجر: 66] أي: تقدمنا إليه وأنهينا.
- معنى الحكم: قال تعالى:﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ﴾ [طه: 72] أي: اصنع واحكم وافعل ما شئت وما وصلت إليه يدك.
- معنى الفراغ: ومنه قوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت: 12] أي : فرغ من تسويتهن سبع سماوات في يومين، ومنه قوله تعالى:﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ﴾ [القصص: 29] أي: فرغ من الأجل الأوفى والأتم.
ومعنى الأداء: ومنه قوله تعالى:﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ [البقرة: 200] أي: أديتموها وفرغتم منها.
ومعنى الإعلام: ومنه قوله تعالى:﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ﴾ [الإسراء: 4] أي: تقدمنا وأخبرنا بني إسرائيل في الكتاب الذي أنزل إليهم أنهم يفسدون في الأرض مرتين.
ومعنى الموت: يقال: ضربه فقضى عليه، أي: قتله، قال تعالى: ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ [القصص: 15] أي: مات.
وهناك اشتقاقات أخرى ذكرتها كتب اللغة، ومن خلال عرض هذه المعاني يتبين ما بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي من رابط قوي، فتقدير الله للأمور وكتابته لذلك، وكونها تجري بحكمة ودقة على حسب ما أرادها سبحانه وقضاها كل هذه المعاني يوحي بها المعنى اللغوي بمختلف معانيه الورادة.

2. معنى القدر لغة:
فالقاف والدال والراء أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته. ويطلق القدر على الحكم والقضاء أيضاً، ومن ذلك حديث الإستخارة "فاقْدُرُه ويسرّه لي".
والقدَر بتحريك الدال أو تسكينها معناه الطاقة قال تعالى:﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ﴾ [البقرة: 236]: طاقته.
ويأتي أيضاً القدر بمعنى التضييق، قال تعالى:﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ﴾ [الفجر: 16]. يعني فضيق عليه، ومنه قوله تعالى في حق نبيه يونس ـ عليه السلام ـ ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: 87] أي: لن نضيق عليه، وليس كما ظن بعض الناس أن يونس ـ عليه السلام ـ شك في قدرة الله كلا. ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ أي: لن نضيق عليه.
وقدرت الشيء أقدره من التقدير، ومنه الحديث: "فإن غم عليكم فأقدروا له". أي قدروا له عدد الشهر حتى تكملوه ثلاثين يوماً، وقيل: قدروا له منازل القمر، فإنه يدلكم على أن الشهر تسع وعشرون أم ثلاثون.
وقدر كل شيء ومقداره: مقياسه، يقال: قدره به قدراً إذا قاسه، والقدر من الرحال والسروج: الوسط.
ويتبين لنا من التعريف اللغوي للقضاء والقدر: أن رابطاً قوياً جداً بينهما وبين التأصيل اللغوي والشرعي كذلك.
3. المعنى الشرعي للقضاء والقدر:
هو تقدير الله تعالى الأشياء في القدم، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة ، وكتابته سبحانه لذلك ومشيئته لها ووقوعها على حسب ما قدرها جلّ وعلا و خلقه لها.

ومراتب القدر أربع، كما هو ظاهر في التعريف: العلم، الكتابة، المشيئة، الخلق والتكوين.

4. الفرق بين القضاء والقدر:
من أهل العلم من قال: لا فرق بين القضاء والقدر، فكل منهما يدخل في معنى الآخر، فإذا أطلق التعريف على أحدهما فيشمل الآخر بمعنى: إذا أطلق التعريف على القضاء، فإنه يشمل القدر، وإذا أطلق التعريف على القدر فإنه يشمل القضاء.
قال آخرون: لا، هناك فرق بين القضاء والقدر، فالقضاء: هو الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل. أما القدر: فهو الحكم في وقوع الجزئيات لهذه الكليات التي قُدّرت في الأزل، فالقضاء أشمل وأعم من القدر.

ومنهم من قال: بأن القدر: هو التقدير، والقضاء، هو التفصيل بمعنى: أن القدر: هو التقدير القديم الأزلي، والقضاء: هو التفصيل لهذا القدر الكلي في أوقات معلومة بمشيئة الله تبارك وتعالى على الكيفية التي أرادها أو خلقها عز وجل.

فالقضاء والقدر لفظان متباينان إن اجتمعا، ومترادفان إن افترقا، يعني: إذا افترقا اجتمعا، وإذا اجتمعا افترقا بمعنى: إذا ذكر القضاء والقدر معاً، فالمعنى لكل مفردة منهما واحد، وإذا افرد اللفظان صار لكل مفردة منهما معنى يختلف عن معنى الآخر. فالتقدير: هو ما قدره الله سبحانه وتعالى في الأزل أن يكون في خلقه التقدير، وعلى هذا يكون التقدير سابقاً على القضاء، وأما القضاء إذا ذكر مع القدر فكلاهما معنى واحد مشترك.
ويرى الخطابي: أن القضاء والقدر أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر، لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه.

والحق أنه لا فرق بين القضاء والقدر، والذين قالوا بالتفريق بين القضاء والقدر لغة واصطلاحاً لا دليل لديهم من السنة الصحيحة، لا سيما وقد اتفقوا جميعاً على أنه إذا أطلق لفظ من هذين اللفظين فإنه يشمل الآخر.

والله أعلم.

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

📙 كتاب الإيمان بالقدر في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:
http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/648

#فلسطين
#القرآن
#القد


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022