أثناء احتضار الفاروق رضي الله عنه استمرَّ اهتمامه بوحدة الأمَّة، ومستقبلها حتَّى اللَّحظات الأخيرة من حياته، رغم ما كان يعانيه من آلام جراحاته البالغة، وهي بلا شكٍّ لحظاتٌ خالدةٌ، تجلَّى فيها إيمان الفاروق العميق، وإخلاصه، وإيثاره، وقد استطاع الفاروق في تلك اللَّحظات الحرجة أن يبتكر طريقةً جديدةً لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد، وكانت دليلاً ملموساً، ومَعْلَماً واضحاً على فقهه في سياسة الدَّولة الإسلاميَّة، لقد مضى قبله الرَّسول (ﷺ)، ولم يستخلف بعده أحداً بنصٍّ صريح، ولقد مضى أبو بكرٍ الصِّدِّيق، واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصَّحابة، ولمَّا طُلب من الفاروق أن يستخلف وهو على فراش الموت ؛ فكَّر في الأمر مليّاً، وقرَّر أن يسلك مسلكاً آخر يتناسب مع المقام؛ فرسول الله (ﷺ) ترك النَّاس، وكلُّهم مقرٌّ بأفضلية أبي بكرٍ، وأسبقيته عليهم، فاحتمال الخلاف كان نادراً، وخصوصاً : أنَّ النبي (ﷺ) وجه الأمَّة قولاً وفعلاً إلى أنَّ أبا بكر أولى بالأمر من بعده . والصِّدِّيق لما استخلف عمر ؛ كان يعلم : أنَّ عند الصحابة أجمعين قناعة بأنَّ عمر أقوى، وأفضل من يحمل المسؤوليَّة بعده، فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصَّحابة، ولم يخالف رأيه أحدٌ منهم، وحصل الإجماع على بيعة عمر.
وأمَّا طريقة انتخاب الخليفة الجديد، فتعتمد على جعل الشورى في عددٍ محصورٍ، وقد حصر ستَّةً من صحابة رسول الله (ﷺ) كلُّهم يصلحون لتولِّي الأمر، ولو أنهم يتفاوتون، وحدَّد لهم طريقة الانتخاب، ومدَّته، وعدد الأصوات الكافية لانتخاب الخليفة، وحدَّد الحكم في المجلس، والمرجِّح إن تعادلت الأصوات، وأمر مجموعةً من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس، وعقاب من يخالف أمر الجماعة، ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحدٍ يدخل، أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحلِّ، والعقد.
أمَّا العدد، فهو ستَّةٌ، وهم : عليُّ بن أبي طالبٍ، وعثمان بن عفَّان، وعبد الرَّحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، والزُّبير بن العوَّام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعاً . وترك سعيد بن زيدٍ، وهو من العشرة المبشَّرين بالجنَّة، ولعلَّه تركه لأنَّه من قبيلته بني عديٍّ، وكان عمر رضي الله عنه حريصاً على إبعاد الإمارة عن أقاربه، مع أنَّ فيهم من هو أهلٌ لها، فهو يُبعد قريبه سعيد بن زيد عن قائمة المرشَّحين للخلافة.
مدة المشورة حدَّدها الفاروق رضي الله عنه بثلاثة أيَّام، وهي فترةٌ كافيةٌ، وإن زادوا عليها؛ فمعنى ذلك أنَّ شقَّة الخلاف ستتَّسع |
أمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم، ويتشاوروا، وفيهم عبد الله بن عمر يحضر معهم مشيراً فقط، وليس له من الأمر شيءٌ، ويصلِّي بالناس أثناء التَّشاور صهيب الرُّوميُّ، وقال له : أنت أمير الصَّلاة في هذه الأيام الثَّلاثة . حتَّى لا يولِّي إمامة الصلاة أحداً من السِّتَّة، فيصبح هذا ترشيحاً من عمر له بالخلافة، وأمر المقداد بن الأسود، وأبا طلحة الأنصاريَّ أن يرقبا سير الانتخابات.
حدَّدها الفاروق رضي الله عنه بثلاثة أيَّام، وهي فترةٌ كافيةٌ، وإن زادوا عليها؛ فمعنى ذلك أنَّ شقَّة الخلاف ستتَّسع، ولذلك قال لهم : لا يأتي اليوم الرَّابع إلا وعليكم أمير.
أخرج ابن سعدٍ بإسنادٍ رجاله ثقاتٌ : أنَّ عمر رضي الله عنه قال لصهيبٍ : صلِّ بالنَّاس ثلاثاً، وليخل هؤلاء الرَّهط في بيتٍ، فإذا اجتمعوا على رجلٍ ؛ فمن خالفهم فاضربوا رأسه، فعمر رضي الله عنه أمر بقتل من يريد أن يخالف هؤلاء الرَّهط ويشقَّ عصا المسلمين، ويفرِّق بينهم، عملاً بقوله (ﷺ) : « من أتاكم وأمركم جميعٌ على رجلٍ منكم، يريد أن يشقَّ عصاكم، أو يفرِّق جماعتكم فاقتلوه ».
وما جاء في كتب التَّاريخ من أنَّ عمر رضي الله عنه أمرهم بالاجتماع، والتَّشاور، وحدَّد لهم أنَّه إذا اجتمع خمسةٌ منهم على رجلٍ، وأبى أحدهم، فليضرب رأسه بالسَّيف، وإن اجتمع أربعة، ورضوا رجلاً منهم، وأبى اثنان، فاضرب رؤوسهما، فهذه من الرِّوايات الّتي لا تصح سنداً، فهي من الغرائب ؛ الّتي ساقها أبو مخنف ـ الإمامي الشِّيعي ـ مخالفاً فيها النُّصوص الصَّحيحة، وما عرف من سير الصَّحابة رضي الله عنهم، فما ذكر أبو مخنف من قول عمر لصهيبٍ : وقم على رؤوسهم ـ أي: أهل الشُّورى ـ فإن اجتمع خمسةٌ، ورضوا رجلاً، وأبى واحدٌ، فاشدخ رأسه بالسَّيف، وإن اتَّفق أربعةٌ، فرضوا رجلاً منهم، وأبى اثنان ؛ فاضرب رؤوسهما: فهذا قولٌ منكرٌ، وكيف يقول عمر رضي الله عنه هذا، وهو يعلم : أنَّهم هم الصَّفوة من أصحاب رسول الله (ﷺ)، وهو الّذي اختارهم لهذا الأمر لعلمه بفضلهم، وقدرهم، وقد ورد عن ابن سعدٍ : أنَّ عمر قال للأنصار : أدخلوهم بيتاً ثلاثة أيَّامٍ، فإن استقاموا وإلا فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم، وهذه الرِّواية منقطعةٌ، وفي إسنادها ( سماك بن حرب ) وهو ضعيفٌ، وقد تغير بأَخَرةٍ.
لقد أوصى بأن يحضر عبد الله بن عمر معهم في المجلس، وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم : فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم، وثلاثة رجلاً منهم، فحكِّموا عبد الله بن عمر، فأيُّ الفريقين حكم له ؛ فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الّذين فيهم عبد الرَّحمن بن عوف، ووصف عبد الرَّحمن بن عوف بأنَّه مسدَّدٌ رشيدٌ ؛ فقال عنه : ونعم ذو الرأي عبد الرَّحمن بن عوف مسدَّدٌ رشيدٌ، له من الله حافظ، فاسمعوا منه.
طلب عمر أبا طلحة الأنصاريَّ، وقال له : يا أبا طلحة ! إنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ أعزَّ الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار، فاستحثَّ هؤلاء الرَّهط، حتَّى يختاروا رجلاً منهم. وقال للمقداد بن الأسود : إذا وضعتموني في حفرتي، فاجمع هؤلاء الرَّهط في بيتٍ حتَّى يختاروا رجلاً منهم.
ا تمت البيعة لعثمان بن عفان رضي الله عنه، عن شورى من المسلمين صغيرهم وكبيرهم، وبتوافق وتراض منهم، وبالطريقة التي حددها سلفه عمر |
1ـ اجتماع الرَّهط للمشاورة:
لم يكد يفرغ النَّاس من دفن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه حتَّى أسرع رهط الشُّورى وأعضاء مجلس الدَّولة الأعلى إلى الاجتماع في بيت عائشة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها وقيل : إنَّهم اجتمعوا في بيت فاطمة بنت قيس الفهريَّة أختِ الضَّحاك ابن قيس ؛ ليقضوا في أعظم قضيَّةٍ عرضت في حياة المسلمين ـ بعد وفاة عمر ـ وقد تكلَّم القوم، وبسطوا آراءهم، واهتدوا بتوفيق الله إلى كلمةٍ سواء، رضيها الخاصَّة، والكافَّة من المسلمين.
2ـ عبد الرحمن يدعو إلى التنازل:
عندما اجتمع أهل الشُّورى قال لهم عبد الرَّحمن بن عوف : اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم . فقال الزُّبير : جعلت أمري إلى عليٍّ . وقال طلحة : جعلت أمري إلى عثمان . وقال سعد : جعلت أمري إلى عبد الرَّحمن بن عوف . وأصبح المرشَّحون ثلاثةً، عليَّ بن أبي طالب، وعثمانَ بن عفان، وعبدَ الرحمن بن عوف . فقال عبدُ الرحمن : أيكما تبرَّأ من هذا الأمر، فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرنَّ أفضلهم في نفسه، فأسكت الشَّيخان . فقال عبد الرحمن بن عوف : أفتجعلونه إليَّ والله عليَّ أن لا آلو عن أفضلكما ؟ قالا : نعم!
3ـ تفويض ابن عوف بإدارة عمليَّة الشُّورى:
بدأ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه اتصالاته، ومشاوراته فور انتهاء اجتماع المرشَّحين السِّتَّة صباح يوم الأحد، واستمرَّت مشاوراته، واتِّصالاته ثلاثة أيامٍ كاملة، حتَّى فجر يوم الأربعاء الرَّابع من المحرم، وهو موعد انتهاء المهلة الّتي حدَّدها لهم عمر، وبدأ عبد الرَّحمن بعليِّ بن أبي طالبٍ، فقال له : إن لم أبايعك فأشر عليَّ، فمن ترشح للخلافة ؟ قال عليٌّ : عثمان بن عفَّان، وذهب عبد الرَّحمن إلى عثمان، وقال له : إن لم أبايعك، فمن ترشِّح للخلافة ؟ فقال عثمان : عليَّ بن أبي طالب ... وذهب ابن عوف بعد ذلك إلى الصَّحابة الآخرين، واستشارهم، وكان يشاور كلَّ من يلقاه في المدينة من كبار الصَّحابة، وأشرافهم، ومن أمراء الأجناد، ومن يأتي للمدينة، وشملت مشاوراته النِّساء في خدورهنَّ، وقد أبدَيْنَ رأيهن، كما شملت الصِّبيان، والعبيد في المدينة .
وكانت نتيجة مشاورات عبد الرَّحمن بن عوف : أنَّ معظم المسلمين كانوا يشيرون بعثمان بن عفَّان، ومنهم من كان يشير بعليِّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، وفي منتصف ليلة الأربعاء، ذهب عبد الرحمن بن عوف : إلى بيت ابن أُخته : المسور بن مخرمة، فطرق البيت، فوجد المسور نائماً، فضرب الباب حتَّى استيقظ، فقال : أراك نائماً، فوالله ما اكتحلت هذه اللَّيلة بكبير نوم ! انطلق فادع الزُّبير، وسعداً. فدعوتهما له : فشاورهما ثمَّ دعاني، فقال : ادع لي عليّاً، فدعوته، فناجاه حتَّى ابهارَّ اللَّيل، ثمَّ قام عليٌّ من عنده ... ثم قال : ادع لي عثمان، فدعوته فناجاه حتَّى فرَّق بينهما المؤذِّن بالصُّبح.
4ـ الاتفاق على بيعة عثمان:
وبعد صلاة صبح يوم البيعة (اليوم الأخير من شهر ذي الحجة 23 هـ/6 نوفمبر 644م ) وكان صهيب الرُّومي الإمام، إذ أقبل عبد الرَّحمن بن عوف، وقد اعتمَّ بالعمامة الّتي عمَّمه بها رسول الله (ﷺ) ؛ وكان قد اجتمع رجال الشُّورى عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين، والأنصار، وأمراء الأجناد، منهم : معاوية أمير الشَّام، وعمير بن سعد أمير حمص، وعمرو بن العاص أمير مصر، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، وصاحبوه إلى المدينة.
وجاء في رواية البخاريِّ : ( ... فلمَّا صلَّى للنَّاس الصُّبح، واجتمع أولئك الرَّهط عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين، والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافوا تلك الحجَّة مع عمر، فلمَّا اجتمعوا ؛ تشهَّد عبد الرحمن، ثمَّ قال : أمَّا بعد : يا عليُّ ! إنِّي قد نظرت في أمر النَّاس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعل على نفسك سبيلاً . فقال: أبايعك على سنَّة الله، ورسوله، والخليفتين من بعده . فبايعه النَّاس : المهاجرون، والأنصار، وأمراء الأجناد، والمسلمون. وجاء في رواية صاحب التَّمهيد، والبيان : أنَّ عليَّ بن أبي طالب أوَّل من بايع بعد عبد الرَّحمن بن عوف.
وهكذا تمت البيعة لعثمان بن عفان رضي الله عنه، عن شورى من المسلمين صغيرهم وكبيرهم، وبتوافق وتراض منهم، وبالطريقة التي حددها سلفه عمر، وعليه فإن توليه لأمر المسلمين تم بشكل مشروع لا شبهة فيه، وبانعقاد الإجماع من كبار الصحابة قبل غيرهم على بيعته، ولم تعلو أصوات معارضة أو منتقدة لطريقة انعقاد البيعة إلا بعد مرور أعوام على خلافة ذي النورين، وذلك في سياق الأباطيل التي أثارها أهل الفتنة ضد الخليفة، وفي الروايات السابقة المذكروة ما يدحض إدعاءاتهم وشبهاتهم.
المصادر والمراجع:
- علي محمد محمد الصلابي، تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، ط1، (2002)، صفحة 66:55.
- غالب عبد الكافي القرشي، أوليات الفاروق، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، (1983)، صفحة 124:122.
- عبدالرحمن عبدالكريم العاني، الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، (1989)، صفحة 161.
- سالم البهنساوي، الخلافة والخلفاء الراشدون بين الشورى والديمقراطية، مكتبة المنار الإسلامية، ط2، (1997)، صفحة 213.
- صلاح عبدالفتاح الخالدي، الخلفاء الراشدون بين الاستخلاف والاستشهاد، دار القلم، دمشق، ط1، (1995)، صفحة 98، 106، 107.
- صادق عرجون، عثمان بن عفان رضي الله عنه، الدار السعودية، ط3، (1990)، صفحة 62، 63.
- رفيق العظم، أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة، دار الرائد العربي، بيروت، ط6، (1983)، صفحة 648.