الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

خلاصات في سيرة الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه

الحلقة الستون والأخيرة

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م

1 ـ كان رضي الله عنه في أيَّام الجاهلية من أفضل النَّاس في قومه ؛ فهو عريضُ الجاه ، ثريٌّ ، شديد الحياء ، عذب الكلمات ، فكان قومه يحبُّونه أشدَّ الحبِّ، ويوقِّرونه، لم يسجد في الجاهلية لصنم قطُّ ، ولم يقترف فاحشةً قطُّ ، فلم يشرب الخمر في الجاهليَّة .
2 ـ كان عثمان قد ناهز الرَّابعة والثلاثين من عمره حين دعاه أبو بكر الصِّدِّيق إلى الإسلام ، ولم يعرف عنه تلكُّؤٌ ، أو تلعثمٌ ، بل كان سباقاً أجاب على الفور دعوة الصِّدِّيق ، فكان بذلك من السَّابقين الأولين .
3 ـ فرح المسلمون بإسلام عثمان فرحاً شديداً ، وتوثَّقت بينه وبينهم عُرا المحبَّة وأخوَّة الإيمان ، وأكرمه الله تعالى بالزَّواج من بنت رسول الله (ص) رقيَّة .
4 ـ إنَّ سنَّة الابتلاء ماضيةٌ في الأفراد ، والجماعات ، والشُّعوب ، والأمم ، والدُّول ، وقد مضت هذه السُّنَّة في الصَّحابة الكرام ، وتحمَّلوا من البلاء ما تنوء به الرَّواسي الشَّامخات ، وبذلوا أموالهم ، ودماءهم في سبيل الله ، وبلغ بهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ ، ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء ، فقد أوذي عثمان ، وعذِّب في سبيل الله تعالى على يدي عمِّه الحكم بن أبي العاص .
5 ـ منذ اليوم الّذي أسلم فيه عثمان لزم النَّبيّ (ص) حيث كان ، ولم يفارقه إلا للهجرة بإذنه ، أو في مهمَّةٍ من المهامِّ الّتي يندب لها ، ولا يغني فيها أحدٌ غَناءه ، شأنه في هذه الملازمة شأن الخلفاء الرَّاشدين جميعاً ، كأنَّما هي خاصَّةٌ من خواصِّهم ، رشَّحهم لها ما رشحهم بعد ذلك للخلافة متعاقبين .
6 ـ كان ذو النُّورين على صلةٍ وثيقةٍ بالدَّعوة الكبرى من سنتها الأولى ، فلم يَفُتْهُ من أخبار النُّبوَّة الخاصَّة ، والعامَّة في حياة النَّبيّ (ص) ، ولم يَفُتْهُ شيءٌ بعدها من أخبار الخلافة في حياة الشَّيخين ، ولم يَفُتْهُ بعبارةٍ أخرى شيءٌ ممَّا نسمِّيه اليوم بأعمال التأسيس في الدَّولة الإسلاميَّة .
7 ـ كان المنهج التَّربويُّ الّذي تربَّى عليه عثمان بن عفَّان ، وكلُّ الصَّحابة الكرام هو القرآن الكريم ، المنزَّل من عند ربِّ العالمين .
8 ـ إنَّ الرَّافد القويَّ الّذي أثَّر في شخصية عثمان بن عفَّان ، وصقل مواهبه ، وفجَّر طاقته ، وهذَّب نفسه هو مصاحبته لرسول الله (ص) ، وتتلمذه على يديه في مدرسة النُّبوة ، ذلك : أنَّ عثمان رضي الله عنه لازم الرَّسول (ص) في مكَّة بعد إسلامه كما لازمه في المدينة بعد هجرته ، فقد نظَّم عثمان نفسه ، وحرص على التلمذة في حلقات مدرسة النُّبوَّة في فروع شتَّى من المعارف والعلوم على يدي معلم البشريَّة، وهاديها ، والّذي أدَّبه ربُّه ، فأحسن تأديبه .
9 ـ لم يكن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه ممَّن تخلَّفوا عن بدرٍ لتقاعسٍ منه ، أو هروبٍ ينشده ، كما يزعم أصحاب الأهواء ممَّن طعن عليه بتغيُّبه عن بدرٍ ، فهو لم يقصد مخالفة الرَّسول (ص) ، لأنَّ الفضل الّذي حازه أهل بدر في شهود بدر طاعةُ الرَّسول ، ومتابعتُه ، وعثمان رضي الله عنه خرج فيمن خرج مع رسول الله (ص) فردَّه (ص) للقيام على ابنته ، فكان في أجَلِّ فرضٍ لطاعته لرسول الله ، وتخلُّفه ، وقد ضرب له بسهمه ، وأجره ، فشاركهم في الغنيمة ، والفضل ، والأجر لطاعته الله ورسوله ، وانقياده لهما .
10 ـ في الحديبية ذكر المحبُّ الطَّبريُّ اختصاص عثمان بعدَّة أمورٍ ، منها : اختصاصه بإقامة يد النَّبيِّ الكريمة مقام يد عثمان لمَّا بايع الصَّحابةَ ؛ وعثمان غائبٌ، واختصاصه بتبليغ رسالة رسول الله (ص) إلى مَنْ بمكَّة أسيراً من المسلمين، وذكر شهادة النَّبيِّ لعثمان بموافقته في ترك الطَّواف لمَّا أرسله في تلك الرسالة .
11 ـ قبل رسول الله (ص) شفاعة عثمان بن عفَّان في عبد الله بن أبي السَّرح في فتح مكَّة .
12 ـ من حياة عثمان رضي الله عنه الاجتماعية في المدينة : زواجه من أمِّ كلثوم بنت رسول الله (ص) بعد وفاة رقيَّة بنت رسول الله ، ووفاة عبد الله بن عثمان، ثم وفاة أمِّ كلثوم رضي الله عنهما .
13 ـ من مساهمته الاقتصادية في بناء الدَّولة : شراء بئر رُومة بعشرين ألف درهم ، وجعلها عثمان رضي الله عنه للغني والفقير وابن السبيل ، وتوسعة المسجد النَّبويِّ ، وإنفاقه الكبير على جيش العسرة .
14 ـ وردت أحاديث كثيرة في فضل عثمان رضي الله عنه ؛ منها ما ورد في فضله مع غيره ، ومنها ما ورد في فضله وحده ، وقد أخبر رسول الله (ص) عن الفتنة الّتي يُقتل فيها عثمان .
15 ـ كان عثمان رضي الله عنه من الصَّحابة وأهل الشُّورى الّذين يؤخذ رأيهم في أمَّهات المسائل في عهد الصِّدِّيق ؛ فهو ثاني اثنين في الحظوة عند الصِّدِّيق ، فعمر ابن الخطاب للحزم والشَّدائد ، وعثمان للرِّفق والأناة ، وكان عمر وزير الخلافة الصِّدِّيقيَّة، وكان عثمان أمينها العام ، وناموسها الأعظم ، وكاتبها الأكبر .
16 ـ كان عثمان ذا مكانة عند عمر ، فكانوا إذا أرادوا أن يسألوا عمر عن شيء رَمَوه بعثمان ، وبعبد الرحمن بن عوف ، وكان عثمان يسمَّى الرَّديف ـ والرَّديف بلسان العرب هو الّذي يكون بعد الرَّجل ـ والعرب تقول ذلك للرَّجل الّذي يرجونه بَعْدَ رئيسٍ ، وكانوا إذا لم يقدر هذان على عمل شيء ؛ ثلَّثوا بالعبَّاس .
17 ـ من أفضل أعمال عبد الرحمن بن عوف عزله نفسه من الأمر وقت الشُّورى، واختياره للأمَّة من أشـار به أهل الحلِّ ، والعقد ، فنهض في ذلك أتمَّ نهوضٍ على جمع الأمَّة على عثمان .
18 ـ هناك أباطيل ضالَّة ، وأكاذيب كثيرة دُسَّت في التَّاريخ الإسلاميِّ في قصَّة الشُّورى ، وتولية عثمان الخلافة ، وقد تلقَّفها المستشرقون ، وقاموا بتوسيع نشرها، وتأثَّر بها الكثير من المؤرِّخين ، والمفكرين المُحْدَثين ، ولم يمحِّصوا الرِّوايات ، ويحقِّقوا في سندها ، ومتنها ، فانتشرت بين المسلمين .
19 ـ جاءت الأدلَّة الكثيرة الّتي تشير وتنبِّه إلى أحقِّيَّة عثمان رضي الله عنه بالخلافة ، ولا نزاع عند المتمسِّكين بالكتاب والسُّنَّة في ذلك ، وقد أجمع أصحاب رسول الله ، وكذا من جاء بعدهم ممَّن سلك سبيلهم من أهل السُّنَّة والجماعة على أنَّ عثمان بن عفان رضي الله عنه أحقُّ النَّاس بخلافة النُّبوَّة بعد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما.
20 ـ عندما بويع عثمان رضي الله عنه بالخلافة قام في النَّاس خطيباً ، وأعلن عن نهجه السِّياسيِّ ، مبيناً : أنَّه سيتقيَّد بالكتاب والسُّنَّة ، وسيرة الشَّيخين ، كما أنَّه أشار في خطبته إلى أنَّه سيسوس النَّاس بالحلم ، والحكمة إلا فيما استوجبوه من الحدود ، ثمَّ حذَّرهم من الرُّكون إلى الدُّنيا ، والافتتان بحطامها خوفاً من التَّنافس والتَّباغض ، والتَّحاسد بينهم ، ممَّا يفضي بالأمَّة إلى الفرقة والخلاف .
21 ـ إنَّ شخصية ذي النُّورين تعتبر شخصية قياديَّةً ، وقد اتَّصف رضي الله عنه بصفات القائد الرَّبَّانيِّ ؛ من العلم ، والقدرة على التَّوجيه ، والتَّعليم ، والحلم ، والسَّماحة ، واللِّين ، والعفو ، والتَّواضع ، والحياء ، والعفَّة ، والكرم ، والشَّجاعة ، والحزم ، والصَّبر ، والعدل ، والعبادة ، والخوف ، والبكاء ، والمحاسبة ، والزُّهد ، والشكر ، وتفقُّد أحوال النَّاس ، وتحديد الاختصاصات ، والاستفادة من أهل الكفاءات .
22 ـ إنَّ معرفة صفات الخلفاء الرَّاشدين ، ومحاولة الاقتداء بهم خطوةٌ صحيحةٌ لمعرفة صفات القادة الرَّبَّانيِّين الّذين يسـتطيعون أن يقودوا الأمَّة نحـو أهدافها المرسومة بخطواتٍ ثابتةٍ .
23 ـ قامت سياسة عثمان الماليَّة على الأسس العامَّة التَّالية : تطبيق سياسةٍ ماليَّةٍ عامَّةٍ إسلاميَّةٍ ، عدم إخلال الجباية بالرِّعاية ، أخذ ما على المسلمين بالحقِّ لبيت مال المسلمين ، وأخذ ما على أهل الذِّمَّة لبيت مال المسلمين بالحقِّ ، وإعطاؤهم ما لهم ، وعدم ظلمهم ، وتخلُّق عمَّال الخراج بالأمانة ، والوفاء ، وتفادي أيَّة انحرافاتٍ ماليَّةٍ يسفر عنها تكامل النِّعم لدى العامَّة .
24 ـ كانت النَّفقات في عهد عثمان تصرف على : صرف مرتَّبات الولاة ، ومرتَّبات الجند ، وعلى الحجِّ ، وإعادة بناء المسجد النَّبويِّ ، وتمويل توسعة المسجد الحرام ، وإنشاء أوَّل أسطولٍ بحريٍّ ، وتحويل السَّاحل من الشعيبة إلى جدَّة ، وحفر الآبار ، والإنفاق على المؤذِّنين ، وغيرها من الأمور .
25 ـ اتُّهم عثمان رضي الله عنه من قبل الغوغاء والخوارج بإسرافه في بيت المال ، وإعطائه أكثره لأقاربه ، وقد ساند هذا الاتِّهام حملةٌ دعائيَّةٌ باطلةٌ قادها السَّبئيُّون ، وتلقَّفها أعداء الإسلام ضدَّه إلى يومنا هذا ، وتسرَّبت في كتب التاريخ ، وتعامل معها المفكِّرون والمؤرِّخون على كونها حقائق ، وهي باطلةٌ لم تثبت لأنَّها مختلَقةٌ .
26 ـ يعتبر عهد ذي النُّورين امتداداً للعهد الرَّاشدي الّذي تتجلَّى أهمِّيَّته بصلته بالعهد النَّبويِّ ، وقربه منه ، فكان العهد الرَّاشدي عامَّةً ، والجانب القضائيُّ فيه خاصَّةً، امتداداً للقضاء في العهد النَّبويِّ ، مع المحافظة الكاملة ، والتَّامَّة على جميع ما ثبت في العهد النَّبويِّ ، وتطبيقه بحذافيره ، وتنفيذه بنصِّه ، ومعناه .
27 ـ كانت خطَّة عثمان في الفتوحات تتَّسم بالحسم، والعزم،وتمثَّلت في الآتي: إخضاع المتمرِّدين من الفرس ، والرُّوم ، وإعادة سلطان الإسلام إلى هذه البلاد ، واستمرار الجهاد والفتوحات فيما وراء هذه البلاد لقطع المدد عنهم ، وإقامة قواعد ثابتةٍ يرابط فيها المسلمون لحماية البلاد الإسلاميَّة ، وإنشاء قوَّةٍ بحريَّةٍ عسكريَّةٍ لافتقار الجيش الإسلامي إلى ذلك .
28 ـ كانت معسكرات الإسلام ومسالحه ( ثغوره ) في عهد عثمان هي عواصم أقطاره الكبرى ، فمعسكر العراق : الكوفة ، والبصرة ، ومعسكر الشَّام في دمشق بعد أن خلص الشَّام كلُّه لمعاوية بن أبي سفيان ، ومعسكر مصر ، وكان مركزه الفسطاط ، وكانت هذه المعسكرات تقوم بحماية دولة الإسلام ، ومواصلة الفتوحات، ونشر الإسلام .
29 ـ من أشهر قادة الفتوحات في عهد عثمان رضي الله عنه : الأحنف بن قيس، وسليمان ابن ربيعة ، وعبد الرحمن بن ربيعة ، وحبيب بن مسلمة .
30 ـ كانت معركة ذات الصواري من مظاهر تفوق العقيدة الصَّحيحة الصُّلبة على الخبرة العسكريَّة ، والتفوُّق في العدد والعُدد ، فلقد كان الرُّوم هم أهل البحر منذ القدم ، وقد مرُّوا بتجارب طويلةٍ في الحروب البحريَّة ، بينما كان المسلمون حديثي عهدٍ بركوب البحر ، والقتال البحريِّ .
31 ـ من أهم الدُّروس ، والعبر ، والفوائد في فتوحات عثمان بن عفَّان رضي الله عنه : تحقُّق وعد الله للمؤمنين بالنَّصر ، والتمكين ، التطوُّر في فنون الحرب والسِّياسة، ركوب المسلمين البحر ، جمع المعلومات عن الأعداء ، الحرص على وحدة الكلمة في مواجهة العدوِّ .
32 ـ يظهر من قصَّة جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه مدى فهم الصَّحابة رضي الله عنهم لايات النَّهي عن الاختلاف ، حيث إنَّ الله نهى عن الاختلاف، وحذَّر منه ، فلعمق فهمهم لهذه الايات ارتعد حذيفة رضي الله عنه عندما سمع بوادر الاختلاف في قراءة القران ، فرحل فوراً إلى المدينة النبويَّة ، وأخبر عثمان رضي الله عنه بما رأى ، وبما سمع ، وفي مدَّة قصيرةٍ حسم عثمان الأمر ، وأغلق باب الخلاف.
33 ـ إنَّ الأخذ بالأسباب نحو تأليف قلوب المسلمين ، وتوحيد صفِّهم من أعظم الجهاد ، وهذه الخطوة مهمَّةٌ في إعزاز المسلمين ، وإقامة دولتهم ، وتحكيم شرع ربِّهم، وهذا من فقه الخلفاء الرَّاشدين ، ويتجلَّى في أبهى صورةٍ في جمع عثمان رضي الله عنه للأمة على مصحفٍ واحدٍ .
34 ـ كانت أقاليم الدَّولة الإسلاميَّة في عهد عثمان رضي الله عنه كلاًّ من : مكَّة، والمدينة ، والبحرين ، واليمامة ، واليمن ، وحضرموت ، والشَّام ، وأرمينية، ومصر، والبصرة ، والكوفة .
35 ـ اتَّخذ عثمان رضي الله عنه أساليب متنوِّعةً لمراقبة عمَّاله ، والاطِّلاع على أخبارهم ، منها : حضوره لموسم الحجِّ ، سؤال القادمين من الأمصار ، والولايات ، إرسال المفتِّشين إلى الولايات ، استقدام الولاة وسؤالهم ، وغير ذلك من الأساليب .
36 ـ من حقوق الولاة في العهد الرَّاشدي : الطَّاعة في غير معصية الله ، بذل النَّصيحة للولاة ، إيصال الأخبار الصَّحيحة إليهم ، احترامهم بعد عزلهم ، وإعطاؤهم مرتَّباتهم.
37 ـ من واجبات الولاة في العهد الرَّاشدي : إقامة أمور الدِّين ، تأمين النَّاس في بلادهم ، الجهاد في سبيل الله ، بذل الجهد في تأمين الأرزاق للنَّاس ، تعيين العمال ، والموظَّفين ، رعاية أهل الذِّمَّة ، مشاورة أهل الرَّأي في ولايتهم ، النَّظر في حاجة الولاية العمرانيَّة ، مراعاة الأحوال الاجتماعيَّة لسكان الولاية .
38 ـ إنَّ عثمان خليفةٌ راشدٌ يُقتدى به ، وأفعاله تشكِّل سوابق دستورية في هذه الأمَّة فكما أنَّ عمر سنَّ لمن بعده التَّحرُّج عن تقريب الأقربين ، فإنَّ عثمان سنَّ لمن بعده تقريب الأقربين إذا كانوا في كفاءتهم الإدارية ، وكلُّ ما أنكر على عثمان لا يخرج عن دائرة المباح .
39 ـ إنَّ الولاة الّذين ولاهم عثمان رضي الله عنه من أقاربه قد أثبتوا الكفاية ، والمقدرة في إدارة شؤون ولاياتهم ، وفتح الله على أيديهم الكثير من البلدان ، وساروا في الرَّعية سيرة العدل والإحسان ، ومنهم من تقلَّد مهام الولاية في عهد الصِّدِّيق ، والفاروق ، رضي الله عنهما .
40 ـ إنَّ الّذي يرجع إلى الصَّحيح المحض من وقائع التَّاريخ ، ويتتبَّع سيرة الرِّجال الّذين استعان بهم أمير المؤمنين عثمان ، وما كان لجهادهم من جميل الأثر في تاريخ الدَّعوة الإسلاميَّة ، بل ما كان لحسن إدارتهم من عظيم النَّتائج في هناء الأمَّة ، وسعادتها ؛ فإنَّه لا يستطيع أن يمنع نفسه من الجهر بالإعجاب ، والفخر كلَّما أمعن في دراسة ذلك الدَّور من أدوار التَّاريخ الإسلاميِّ .
41 ـ إنَّ عثمان رضي الله عنه لم يسلم من كثيرٍ من الباحثين في كتاباتهم غير المنصفة ، وغير المحقَّقة عن عهد عثمان ، فقد تورَّط الكثير منهم في الرِّوايات الضَّعيفة والإماميَّة ، وبنوا أحكاماً باطلةً ، وجائرةً في حقِّ عثمان ، مثل طه حسين في كتابه : الفتنة الكبرى ، وراضي عبد الرَّحيم في كتابه : النُّظم الإسلاميَّة ، ومحمَّد الرَّيِّس في كتابه : النَّظريات السِّياسيَّة ، وعلي حسين الخربوطلي في كتابه: الإسلام والخلافة ، وأبي الأعلى المودودي في كتابه : الملك والخلافة ، وسيِّد قطب في كتابه : العدالة الاجتماعيَّة ، وغيرهم ، لقد كان عثمان رضي الله عنه بحق الخليفة المظلوم الّذي افترى عليه خصومه الأوَّلون ، ولم ينصفه المتأخِّرون .
42 ـ إنَّ الحقيقة التَّاريخيَّة تقول : إنَّ عثمان رضي الله عنه لم ينف أبا ذرٍّ رضي الله عنه ، إنَّما استأذنه ، فأذن له ، ولكنَّ أعداء عثمان رضي الله عنه كانوا يشيعون عنه بأنَّه نفاه .
43 ـ إنَّ أبا ذرٍّ رضي الله عنه لم يتأثَّر لا من قريبٍ ولا من بعيد باراء عبد الله بن سبأ اليهوديِّ ، وقد أقام بالرَّبذة حتَّى توفي ، ولم يحضر شيئاً ممَّا وقع من الفتن .
44 ـ من أسباب فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه أمورٌ عدَّةٌ ، منها : الرَّخاء ، وأثره في المجتمع ، طبيعة التحوُّل الاجتماعيِّ في عهد عثمان رضي الله عنه مجيء عثمان بعد عمر ، رضي الله عنهما خروج كبار الصَّحابة من المدينة : العصبيَّة الجاهليَّة ، توقُّف الفتوحات ، المفهوم الخاطىء للورع ، طموح الطَّامحين، تامر الحاقدين ، التَّدبير المحكم لإثارة المآخذ ضدَّ عثمان ، استخدام الأسـاليب ، والوسـائل المهيِّجة للنـاس ، دور عبد الله بن سبأ في الفتنة .
45 ـ كانت بداية اشتعال الفتنة بالكوفة ، وقد تمَّ نفي رجالها إلى الشَّام ، ثمَّ استقرَّ أمرهم عند عبد الرَّحمن بن خالد بن الوليد بالجزيرة ، ثمَّ رجعوا إلى الكوفة بعد مكاتبة يزيد بن قيس لهم بالمجيء للكوفة .
46 ـ كانت سياسة عثمان رضي الله عنه في التَّعامل مع الفتنة قائمةً على الحلم، والتَّأنِّي ، والعدل ، وقد اتَّخذ عدَّة أساليب لمواجهتها منها : إرسال لجان تفتيشٍ ، وتحقيقٍ ، كتب إلى أهل الأمصار كتاباً شاملاً بمثابة إعلانٍ عامٍّ لكلِّ المسلمين ، مشورة عثمان لولاة الأمصار ، إقامة الحجَّة على المتمرِّدين ، الاستجابة لبعض مطالبهم .
47 ـ إنَّ المتأمِّل في هدي عثمان رضي الله عنه في تعامله مع الفتنة الّتي وقعت في عهده ، يمكنه أن يستنبط بعض الضَّوابط الّتي تعين المسلم لمواجهته للفتن ، ومن هذه الضَّوابط : التَّثبُّت ، لزوم العدل ، والإنصاف ، والحلم ، والأناة ، الحرص على ما ينفع ، ونبذ ما يفرِّق بين المسلمين ، لزوم الصَّمت والحذر من كثرة الكلام، استشارة العلماء الربَّانيين ، الاسترشاد بأحاديث رسول الله (ص) في الفتن .
48 ـ يظهر للباحثين أنَّ هناك أسباباً دعت عثمان إلى منع الصَّحابة من القتال ، وهي : العمل بوصيَّة الرَّسول (ص) الّتي سارَّه بها ، وبيَّنها عثمان رضي الله عنه يوم الدَّار ، وأنَّها عهدٌ عُهِد به إليه ، وأنَّه صابرٌ نفسه عليه ، كره أن يكون أوَّل من خلف رسول الله (ص) في أمَّته بسفك دماء المسلمين ، عِلْمُه بأنَّ البغاة لا يريدون غيره ، فكره أن يتوقَّى بالمؤمنين ، وأحبَّ أن يقيهم بنفسه ، عِلْمُهُ بأنَّ هذه الفتنة فيها قتلُه ، وذلك فيما أخبره بها رسول الله (ص) عند تبشيره إيَّاه بالجنة على بلوى تصيبه ، وأنَّه سيقتل مصطبراً بالحقِّ ، معطيه في فتنة ، العمل بمشورة ابن سلام رضي الله عنه له ، إذ قال له : الكفَّ ! الكفَّ ! فإنَّه أبلغ لك في الحجَّة .
49 ـ إنَّ قاتل عثمان رضي الله عنه رجلٌ مصريٌّ ، لم تفصح الرِّوايات عن اسمه، وأمَّا ما يتعلَّق بتهمة محمَّد بن أبي بكرٍ بقتل عثمان بمشاقصه ، فهذا باطلٌ ، والرِّوايات بذلك رواياتٌ ضعيفةٌ ، كما أنَّ متونها شاذَّةٌ لمخالفتها للرِّواية الصَّحيحة الّتي تبيِّن : أنَّ القاتل هو رجلٌ مصريٌّ .
50 ـ إنَّ الصَّحابة جميعاً رضي الله عنهم أبرياء من دم عثمان رضي الله عنه ، وقد صحَّت الأخبار ، وأكَّدت الحوادث ، والتَّاريخ على براءة الصَّحابة من التَّحريض على عثمان ، أو المشاركة في الفتنة ضدَّه ، كما أوردنا ذلك بالرِّوايات الصَّحيحة .
51 ـ إن عثمان رضي الله عنه كان متيقِّظاً ، ولم تنطل عليه المؤامرة ، ولا أهدافها ، بل استطاع أن يخترق صفوف المتمرِّدين ، ويكشف مخطَّطهم كاملاً ، وواجه بشجاعةٍ فائقةٍ ، وكره أن يكون أوَّل من يسلَّ السيف في المسلمين ، وآثر أن يفدي الأمَّة بنفسه ، وهذه قمَّة التَّضحية ، والإيثار .
52 ـ كانت فتنة مقتل عثمان سبباً في حدوث كثيرٍ من الفتن الأخرى ، وألقت بظلالها على أحداث الفتن الّتي تليها ، فتغيَّرت قلوب الناس ، وظهر الكذب ، وبدأ الخطُّ البياني للانحراف عن الإسلام في عقيدته ، وشريعته .
53 ـ إنَّ الظُّلم ، والاعتداء على الآخرين بغير حقٍّ من أسباب الهلاك في الدُّنيا والاخرة ، كما قال تعالى : {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا*} [الكهف : 59 ] وإنَّ المتتبِّع لأحوال أولئك الخارجين على عثمان رضي الله عنه المعتدين عليه يجد : أنَّ الله تعالى لم يهملهم ، بل أذلَّهم ، وأخزاهم ؛ وانتقم منهم ، فلم ينج منهم أحدٌ .
54 ـ كان وقع المصيبة على نفوس المسلمين عظيماً ، فذهلت عقولهم ، وجلَّلهم الحزن ، وفاضت ماقيهم بالدموع ، ولهجت ألسنتهم بالثَّناء على عثمان ، والترحُّم عليه، وقام حسَّان بن ثابت رضي الله عنه يرثي أمير المؤمنين ، ويكثر التفجُّع لمقتله ، ويهجو قاتليه بقصائد مبكيةٍ حزينةٍ ، حفظها لنا التَّاريخ ، ولم تهملها اللَّيالي، ولم تفصلها عنَّا حواجز الزَّمن ، ولا أسوار القرون .
55 ـ وبعد فهذا ما يسَّره الله لي من جمعٍ ، وترتيبٍ ، وتحليلٍ ، تضمَّنتها فصول هذا الكتاب ( عثمان بن عفَّان رضي الله عنه ، شخصيَّته ، وعصره ) فما كان فيه من صوابٍ ، فهو محض فضل الله عليَّ ، فله الحمد والمنَّة ، وما كان فيه من خطأ، فأستغفر الله تعالى ، وأتوب إليه ، والله ، ورسولُه بريءٌ منه ، وحسبي أنِّي كنت حريصاً على بيان الحقائق ، والبراهين والأدلَّة الّتي تبيِّن حقيقة الخليفة الرَّاشد عثمان بن عفَّان رضي الله عنه ، وأدعو الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب إخواني المسلمين ، وأن يذكرني من يقرؤه في دعائه ، فإنَّ دعوة الأخ لأخيه في ظهر الغيب مستجابةٌ ، إن شاء الله تعالى .
وأختم هذا الكتاب بقول الله تعالى :
{وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *} [الحشر : 10 ] .
* وبقول الشَّاعر:
إِنْ تَجِدْ عَيْبَاً فَسُدَّ الخَلَلا جَلَّ مَنْ لا عَيْبَ فِيْهِ وَعَلا
* وبقول الشَّاعر :
اطْلُبِ العِلْمَ وَلا تَكْسَلْ ، فَمَا أَبْعَدَ الْخَيْرَ عَلَى أَهْلِ الْكَسَل
اْحْتَفِلْ لِلْفِقْهِ فِي الدِّين وَلا تَشْتَغِلْ عَنْهُ بِمَالٍ وَحَوَلْ
وَاهْجُرِ النَّومَ وَحَصِّلْهُ فَمَنْ يَعْرِفِ المَطْلُوبَ يَحْقِرْ مَا بَذَلْ
لا تَقُلْ قَدْ ذَهَبَتْ أَرْبَابُهُ كُلُّ مَنْ سَارَ عَلَى الدَّرْبِ وَصَلْ

يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022