موقف الصَّحابة رضي الله عنهم من مقتل عثمان رضي الله عنه
الحلقة الثامنة والخمسون
بقلم الدكتور علي محمد محمد الصلابي
جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020م
2ـ عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه :
كان عليٌّ رضي الله عنه وال البيت يجلُّونه ، ويعترفون بحقِّه فكان :
أ ـ أوَّل من بايعه بعد عبد الرَّحمن بن عوف عليُّ بن أبي طالبٍ، وعن قيس بن عبَّاد ، قال : سمعت عليّاً رضي الله عنه ، وذكر عثمان ، فقال : هو رجلٌ قال له رسول الله (ص) : « ألا أستحي ممَّن تستحي منه الملائكة » .
ب ـ وقد شهد رضي الله عنه له بالجنَّة ، فعن النَّزال بن سبرة ، قال : سألت عليّاً عن عثمان ، فقال : ذاك امرؤٌ يُدعى في الملأ الأعلى : ذا النُّورين ، كان ختن رسول الله (ص) على ابنتيه ، ضُمن له بيتٌ في الجنَّة.
ج ـ وكان رضي الله عنه طائعاً ، معترفاً بإمامته ، وخلافته ، لا يعصي له أمراً، فقد روى ابن أبي شيبة بإسناده عن ابن الحنفيَّة عن عليٍّ : قال لو سيَّرني عثمان إلى صرار ؛ لسمعت ، وأطعت، والصِّرار : هو الخيط الّذي يُشدُّ فوق الخِلْفِ ، والتَّودية لئلا يرضعها ولدها. وفيه دليلٌ على مدى اتِّباعه ، وطاعته لعثمان رضي الله عنهما.
د ـ ولما جمع عثمان رضي الله عنه النَّاس على قراءةٍ واحدةٍ ، بعد استشارة الصَّحابة رضوان الله عليهم ، وإجماعهم على ذلك ، قال عليٌّ رضي الله عنه : لو ولِّيت الّذي ولي ، لصنعت مثل الّذي صنع.
هـ ولقد أنكر عليٌّ رضي الله عنه قتل عثمان ، وتبرَّأ من دمه ، وكان يقسم على ذلك في خطبه ، وغيرها : أنه لم يقتله ، ولا أمر بقتله ، ولا مالأ ، ولا رضي، وقد ثبت ذلك عنه بطرقٍ تفيد القطع، خلافاً لما تزعمه الإماميَّة من أنَّه كان راضياً بقتل عثمان ، رضي الله عنهما، وقال الحاكم بعد ذكر بعض الأخبار الواردة في مقتله ، رضي الله عنه : فأمَّا الّذي ادعته المبتدعة من معونة أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه فإنَّه كذبٌ ، وزورٌ ، فقد تواترت الأخبار بخلافه . وقال ابن تيميَّة : وهذا كلُّه كذبٌ على عليٍّ رضي الله عنه ، وافتراءٌ عليه ، فعليٌّ رضي الله عنه لم يشارك في دم عثمان ، رضي الله عنه ولا أمر ، ولا رضي ، وقد روي عنه ذلك، وهو الصَّادق البارُّ، وقد قال عليٌّ رضي الله عنه : الّلهمَّ إنِّي أبرأ إليك من دم عثمان.
وروى الحاكم بإسناده عن قيس بن عبَّاد ، قال : سمعت عليّاً رضي الله عنه يوم الجمل يقول : الّلهمَّ إنِّي أبرأ إليك من دم عثمان ، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان ، وأنكرت نفسي ، وجاؤوني للبيعة ، فقلت : والله إني لأستحي من الله أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال فيه رسول الله (ص) : « ألا أستحي ممَّن تستحي منه الملائكة » ، وإنِّي لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيلٌ على الأرض لم يدفن بعد ، فانصرفوا ، فلمَّا دُفن رجع النَّاس ، فسألوني البيعة ، فقلت : الّلهمَّ إنِّي مشفقٌ ممَّا أقدم عليه ، ثمَّ جاءت عزيمةٌ ، فبايعت ، فلقد قالوا : يا أمير المؤمنين ! فكأنَّما صُدع قلبي ، وقلت: الّلهمَّ خذ منِّي لعثمان ؛ حتَّى ترضى!
وروى الإمام أحمد بسنده عن محمَّد بن الحنفيَّة قال : بلغ عليّاً : أنَّ عائشة تلعن قتلة عثمان في المربد قال : فرفع يديه ، حتَّى بلغ بهما وجهه ، فقال : وأنا ألعن قتلة عثمان ، لعنهم الله في السَّهل ، والجبل . قال مرَّتين ، أو ثلاثاً. وروى ابن سعدٍ بسنده عن ابن عبَّاسٍ ؛ أن عليّاً قال : والله ما قتلت عثمان ، ولا أمرت بقتله ! ولكنِّي نهيت ، والله ما قتلت عثمان ، ولا أمرت ! ولكنِّي غلبت . قالها ثلاثاً. وجاء عنه أيضاً : أنَّه قال رضي الله عنه : من تبرأ من دين عثمان ؛ فقد تبرأ من الإيمان ، والله ما أعنت على قتله ، ولا أمرت ، ولا رضيت!
وقال عليٌّ رضي الله عنه عن عثمان رضي الله عنه : ... كان أوصلنا للرَّحم ، وأتقانا للرَّبِّ تعالى.
ز ـ وعن أبي عونٍ، قال: سمعت محمَّد بن حاطب، قال: سألت عليّاً عن عثمان، فقال: هو من الّذين آمنوا ، ثم اتَّقوا ، ثم آمنوا ، ثم اتَّقوا ، ولم يختم الآية.
ح ـ عن عميرة بن سعدٍ قال : كنَّا مع عليٍّ رضي الله عنه على شاطأى الفرات، فمرَّت سفينةٌ مرفوعٌ شراعها ، فقال عليُّ : يقول الله عز وجل : {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ *} [الرحمن :24 ] والّذي أنشأها في بحر من بحاره ما قتلت عثمان ، ولا مالأت على قتله ! .
ط ـ وروى الإمام أحمد في مسنده عن محمَّد بن حاطبٍ ، قال : سمعت عليّاً يقول: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ *} [الأنبياء: 101 ] منهم عثمان. وقال عليٌّ رضي الله عنه : إنَّما وهنت يوم قتل عثمان.
وقد اعتنى الحافظ ابن عساكر بجمع الطُّرق الواردة عن عليٍّ رضي الله عنه في تبرُّئه من دم عثمان ، وقسمه على ذلك في الخطب وغيرها ، وكذا قسمه : أنَّه لم يرض بذلك ، وثبت ذلك عنه من طرقٍ تفيد القطع عند كثيرٍ من أئمَّة الحديث.
3ـ ابن عباسٍ رضي الله عنه :
روى الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباسٍ : أنَّه قال : لو اجتمع النَّاس على قتل عثمان ؛ لرموا بالحجارة كما رمي قوم لوطٍ، وقال رضي الله عنه في مدح عثمان ، وذمِّ من ينتقصه : رحم الله أبا عمرو ! كان والله أكرم الحفدة ، وأفضل البررة ، هجَّاداً بالأسحار ، كثير الدُّموع عند ذكر النَّار ، نهَّاضاً عند كلِّ مكرمةٍ ، سبَّاقاً إلى كلِّ منحةٍ، حبيباً أبيّاً وفيّاً ، صاحب جيش العسرة ، ختن رسول الله (ص) ، فأعقب الله على من يلعنه لعنة اللاعنين إلى يوم الدِّين!
4ـ زيد بن عليٍّ ، رحمه الله :
روى ابن عساكر بإسناده إلى السُّدِّيِّ ، قال : أتيته ـ أي : زيد ـ وهو في بارق ـ حيٍّ من أحياء الكوفة ـ فقلت له : أنتم سادتنا ، وأنتم ولاة أمورنا ، فما تقول في أبي بكرٍ، وعمر؟ فقال: تولَّهما، وكان يقول: البراءةُ من أبي بكرٍ ، وعمر ، وعثمان البراءةُ من عليٍّ ، والبراءةُ من عليٍّ البراءةُ من أبي بكرٍ ، وعمر ، وعثمان.
5ـ عليُّ بن الحسين ، رحمه الله :
وقد ثبت عن عليِّ بن الحسين البراءة من قول الإماميَّة في أبي بكرٍ ، وعمر ، وعثمان ، رضي الله عنهم ، فقد روى أبو نعيم بسنده عن محمَّد بن عليٍّ ، عن أبيه عليِّ بن الحسين : أنَّه قال : جلس قومٌ من أهل العراق ، فذكروا أبا بكرٍ ، وعمر ، فنالوا منهما ، ثمَّ ابتدؤوا في عثمان ، فقال لهم : أخبروني أأنتم من المهاجرين الأوَّلين: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ *} [ الحشر : 8 ] قالوا: لا ! قال : فأنتم من الّذين {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*} [الحشر: 9 ] قالوا : لا ! فقال لهم : أمَّا أنتم فقد أقررتم ، وشهدتم على أنفسكم أنَّكم لستم من هؤلاء ، ولا من هؤلاء، وأنا أشهد أنَّكم لستم من الفرقة الثَّالثة الّذين قال الله ـ عزَّ وجلَّ ـ فيهم : {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *} [ الحشر : 10 ] . فقوموا عنِّي ، لا بارك الله فيكم ! ولا قرَّب دوركم ، أنتم مستهزؤون بالإسلام ، ولستم من أهله!
ثانياً : موقف عمَّار بن ياسر رضي الله عنه :
جاء في الرِّوايات التَّاريخيَّة الّتي تحمل في طيَّاتها غثّاً ، وسميناً ، أنَّ هناك خلافاً بين عمَّار ، وعثمان ، رضي الله عنهما ، وقد خُطم بعضها بأسانيد ، وأخرى لا خطام لها ، ولا زمام ، ولم أجد من أغنى فيه بحثاً ، وتحليلاً إلا لماماً ، والتَّعرض لمثل هذا الموضوع الّذي يَمَسُّ كرامة أطهر خلق الله ، وأحبِّهم إليه ، وإلى نبيِّه ، لا يمكن معه الاعتماد على رواياتٍ تسرح في أعراض الصَّحابة كما تشاء ، وتمرح من غير زمامٍ، أو خطام، ومن التُّهم السَّاقطة الّتي ساقتها الرِّوايات الضَّعيفة :
1ـ ضرب عمار بن ياسر :
تعتبر الرِّوايات الّتي تحدَّثت عن ضرب عثمان لعمَّار من أشهر الرِّوايات في هذا الموضوع ، وأكثرها ، ولقد تفنَّن واضعوها في ذكر الأساليب الّتي استخدمها عثمان رضي الله عنه بالضَّرب ، وفي ذكر ما نتج عنه ، وهي مع فساد أسانيدها تحمل نكارةً شديدةً في متونها، يقول القاضي أبو بكر بن العربيِّ في عواصمه ضمن تفنيده لما نسب إلى عثمان رضي الله عنه من افتراءات : وأمَّا ضربه لابن مسعود رضي الله عنه ومنعه عطاءه ؛ فزورٌ ، وضربه لعمَّار رضي الله عنه إفكٌ مثله ، ولو فتق أمعاءه ما عاش أبداً ، وقد اعتذر عن ذلك العلماء بوجوهٍ لا ينبغي أن يُشتغل بها ؛ لأنَّها مبنيَّةٌ على باطلٍ ، ولا يُبنى حقٌّ على باطلٍ ، ولا نذهب الزَّمان في مماشاة الجهَّال ، فإنَّ ذلك لا اخر له.
إنَّ أخلاق عثمان رضي الله عنه في سنِّه ، وإيمانه ، وحيائه ، ولين عريكته ، ورقَّة طبعه وسابقته ، وجليل مكانته في الإسلام أجلُّ من أن تنزل به إلى هذا الدَّرك من التَّصرُّف مع رجلٍ من أجلاء أصحاب النَّبيّ (ص) ، يعرف له عثمان سابقته ، وفضله ، مهما كان بينهما من اختلاف في الرَّأي ، أفيرضى عثمان لنفسه ـ وهو الّذي أبى على النَّاس أن يقاتلوا دونه ، ورضي بالموت صابراً محتسباً حقناً لدماء المسلمين واتِّقاءً للفتنة العامَّة ـ أفيرضى أن يصنع بعمار ـ وهو أعلم بسابقته ، وفضله في الإسلام ـ ما ذكرت الرِّوايات المزعومة بأنَّه أمر غلمانه بأن يضربوه حتَّى أغمي عليه، ثمَّ يقوم عثمان في هذه الحال فيطأه في بطنه ؟ ثمَّ هل ترضى أخلاق عثمان ، وحياؤه بأن يدعو بدعوة الجاهليَّة ، فيعيِّر عماراً بأمِّه سميَّة ، وهي من أهل السَّابقة ، والفضل ، وعثمان يعرف شرف انتساب عمَّار إلى أمِّه سميَّة رضي الله عنهما ، أوَّل شهيدةٍ في الإسلام ؟ ! كلا إنَّ الأخبار الصَّحيحة ، والموثوقة لا يوجد فيها ما يدني عثمان رضي الله عنه من هذا الأسلوب المنحطِّ في الزَّجر ، والتَّأديب ، علاوةً على أنَّ أخلاقه ، وطبيعته ، وسيرته ، تستبعد ذلك تماماً . وممَّا لا شكَّ فيه : أنَّ عرض أمثال تلك الرِّوايات الموضوعة على ما عرف من مواقف ، وأخلاق أولئك الأئمَّة الأعلام ، والأخذ بالاعتبار مقاييس ذلك العصر ، ومعاييره لهو أصدق ميزانٍ في النَّقد ، لكشف دخائل الوضَّاعين ، والمفترين.
2ـ اتِّهام عمار بالمساهمة في الفتنة ، وإثارة الشَّغب ضدَّ عثمان :
اعتمد المؤرِّخون في نسبة هذه الافتراءات إلى عمَّار رضي الله عنه على روايات لم تسلم إحداها من الطَّعن في صحَّة أسانيدها ، أو في استقامة متونها ، وتتنوَّع التُّهم المنسوبة إلى عمَّار رضي الله عنه في تحريكه لأمر الفتنة ، وتحريضه على عثمان ، وسعيه بين العامَّة للتَّمرُّد عليه ، فمنها ما ذكر من إرسال عثمان رضي الله عنه له إلى مصر لاستجلاء ما يحدث فيها ممَّا نقل إليه عن تمرُّد العامَّة هناك ، أنَّ السبئيِّين استطاعوا استقطاب عمَّار ، والتأثير عليه . وهذا الخبر الّذي يرويه الطَّبري فيه شعيب بن إبراهيم التَّميميُّ الكوفيُّ راوية كتب سيف ، فيه جهالةٌ ، وقال عنه الرَّاوي : ليس بالمعروف ، وله أحاديث ، وأخبار ، وفيها بعض النَّكارة ، وفيها ما فيه من تحاملٍ على السَّلف ، ورواه عمر بن شبَّة في تاريخ المدينة ، وفيه شيخ عمر : عليُّ بن عاصم . قال عنه ابن المدينيِّ : كان عليُّ بن عاصمٍ كثير الغلط ، وإذا رُدَّ عليه ، لم يرجع ، وكان معروفاً في الحديث ، ويروي أحاديث منكرةً ، وقال يحيى بن معين : ليس بشيءٍ ، وقال مرَّة : كذَّاب ، ليس بشيءٍ ، وقال النَّسائيُّ : متروك الحديث ، وقال البخاريُّ : ليس بالقويِّ عندهم، يتكلَّمون فيه، وهناك من تلطَّف بالكلام عليه ، وقال عنه ابن حجر : صدوقٌ يخطأ ، ويصرُّ ، ورمي بالتَّشيُّع، وخبرٌ هذا حال إسناده لا يمكن الاطمئنان إليه، لا سيَّما ماعرف عن عمَّار رضي الله عنه من الورع الّذي يربأ به عن الانغماس في مثل تلك الأوحال الّتي ما عهدنا مرتاداً لها إلا سبئيّاً يهوديّاً حاقداً ، ومعاذ الله أن يصل الحال بصحابي من صحابة النَّبيّ (ص) إلى هذا المستوى . يقول خالد الغيث : وهذا الخبر يعارضه ما ثبت من عدالة الصَّحابة ـ رضوان الله عليهم ـ هذا فضلاً عن عدم وروده من طريقٍ صحيحٍ .
ومن الرِّوايات الباطلة في هذا الباب ما نسب إلى سعيد بن المسيِّب ، وفيها : أنَّ الصحابة بمجملهم نقموا على عثمان رضي الله عنه مع من نقم ، وحنقوا عليه ، وخاصَّة أبا ذرٍّ ، وابن مسعودٍ ، وعمَّار بن ياسر ، رضي الله عنهم. وافة هذه الرِّواية : أنَّ فيها تدليساً ليس من النَّوع الممكن إقراره ، والتَّجاوز عنه ، فقد أسقط منها ، راوٍ متَّهم بالوضع ، والكذب ، وهو إسماعيل بن يحيى بن عبيد الله ، ولذلك جاء تضعيف علماء الحديث لهذه الرِّواية وبيان زيفها عند ترجمتهم لمحمَّد بن عيسى ابن سميع راوي الخبر عن ابن أبي ذئبٍ ، يقول الإمام البخاريُّ عن ابن سميع : يقال : إنَّه لم يسمع من ابن أبي ذئب هذا الحديث ، يعني حديثه عن الزُّهري في مقتل عثمان . ويقول ابن حبَّان : إنَّ ابن سميع لم يسمع حديثه من ابن أبي ذئب ، وإنَّما سمعه من إسماعيل بن يحيى ، فدلَّس عنه .
وقال الحاكم : أبو محمد ـ يعني : ابن سميع ـ روى عن ابن أبي ذئب حديثاً منكراً، وهو حديث مقتل عثمان ، ويقال : كان في كتابه عن إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي ذئب ، فأسقطه ، وإسماعيل ذاهب الحديث.
ويقول الدُّكتور يوسف العش : والرِّواية المنسوبة إلى سعيد بن المسيِّب يجب استبعادها، فهي بعد التحرِّي تظهر موضوعةً، فقد نصَّ الحاكم النيسابوريُّ: أنَّ أحد رجال سندها قد أسقط من السَّند رجلاً واهياً ، وأنَّها منكرةٌ ، والواقع : أنَّها لا تنبأ عن الاحترام الّذي يكنُّه سعيد بن المسيِّب للصحابة في أقواله الأخرى الصَّحيحة.
3ـ براءة عمَّار من دم عثمان رضي الله عنهما :
وممَّا يروى في ذلك اتِّهام مسروق ، وأبي موسى رضي الله عنهما لعمار بذلك عند قدومه مع الحسن لاستنفار أهل الكوفة ، وهذه الرواية قد وَهَى إسنادها بشعيبٍ المجهول ، وسيفٍ المعلول ، كما أنَّ الرِّواية الّتي في صحيح البخاريِّ لا تذكر شيئاً من ذلك ، فزيادتها لا تحتمل القبول ، لا سيَّما مع طعنها في صحابيٍّ مثل عمَّار ابن ياسر المجار ـ على لسان النَّبيّ (ص) ـ من الشَّيطان، والمليء إلى المُشاش من الإيمان.
وقد بيَّن العلماء بطلان مثل هذا الاتِّهام الّذي لم يختصَّ بعمَّار فحسب ، بل تعدَّاه إلى مجموعةٍ أخرى من أجلَّة الصَّحابة ، يقول ابن كثير : أمَّا ما يذكره بعض النَّاس من أن بعض الصَّحابة أسلمه ، ورضي بقتله ؛ فهذا لا يصحُّ عن أحدٍ من الصَّحابة بل كلُّهم كرهه ، ومقته ، وسبَّ مَنْ فعله، ويقول القاضي أبو بكر بن العربيِّ : فهذا أشبه ما روي في الباب ، وبه يتبيَّن ـ وأصل المسألة سلوك سبيل أهل الحقِّ ـ أنَّ أحداً من الصَّحابة لم يَسْعَ عليه ، ولا قعد عنه ، ولو استنصر ما غلب ألف أو أربعة آلاف غرباء عشرين ألفاً بلديِّين ، أو أكثر من ذلك ، ولكنَّه ألقى بيده إلى المصيبة، ويقول : وقد انتدبت المردة ، والجهلة إلى أن يقولوا : إنَّ كلَّ فاضل من الصَّحابة كان عليه مشاغباً مؤلِّباً ، وبما جرى عليه راضياً ، واخترعوا كتاباً فيه فصاحةٌ وأمثالٌ ، كتب عثمان به مستصرخاً إلى عليٍّ ، وذلك كلٌّ مصنوعٌ ، ليوغروا قلوب المسلمين على السَّلف الماضين ، والخلفاء الرَّاشدين ، فالذي يُنخَل من ذلك : أنَّ عثمان مظلومٌ محجوجٌ بغير حجَّة ، وأنَّ الصَّحابة بُراء من دمه بأجمعهم ؛ لأنَّهم أتوا إرادته ، وسلَّموا له رأيه في إسلام نفسه .
ثالثاً : براءة عمرو بن العاص من دم عثمان :
لما أحيط بعثمان رضي الله عنه خرج عمرو بن العاص من المدينة متوجِّهاً إلى الشَّام ، وقال : والله يا أهل المدينة ! ما يقيم بها أحدٌ فيدركه قتل هذا الرَّجل إلا ضربه الله ـ عزَّ وجلَّ ـ بذلٍّ ، ومن لم يستطع نصره ؛ فليهرب ، فسار ، وسار معه ابناه عبد الله ، ومحمَّد ، وخرج بعده حسَّان بن ثابت ، وتتابع على ذلك ما شاء الله، وعندما جاءه الخبر عن مقتل عثمان رضي الله عنه وبأنَّ النَّاس بايعوا عليَّ بن أبي طالبٍ ، قال عمرو : أنا أبو عبد الله ، تكون حربٌ مَنْ حكَّ فيه قرحةً ؛ نكأها، رحم الله عثمان، ورضي الله عنه ، وغفر له ! فقال سلامة بن زنباغ الجذاميُّ: يا معشر العرب ! إنَّه قد كان بينكم وبين العرب بابٌ ، فاتَّخذوا باباً ؛ إذ كسر الباب . فقال عمرو: وذاك الّذي نريد ، ولا يصلح الباب إلا أشافٍ، تُخرج الحقَّ من حافرة البأس، ويكون النَّاس في العدل سواءً ، ثم تمثَّل عمرو بن العاص بهذه الأبيات :
فَيَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى مَالِكٍ أَيصْرِفُ مَالِكُ حِفْظَ القَدَرْ
أَنَزْعٌ مِنَ الحَرِّ أَوْدَى بِهِمْ فَأَعْذُرُهُمْ أَمْ بِقَومِي سَكَرْ
ثمَّ ارتحل راجلاً يبكي ، ويقول : يا عثماناه ! أنعي الحياء ، والدِّين .. حتَّى قدم دمشق.
هذه هي الصُّورة الصَّادقة عن عمرو رضي الله عنه والمتتالية مع شخصيته ، وخطِّ حياته ، وقربه من عثمان . أمَّا الصُّورة الّتي تمسخه إلى رجل مصالح ، وصاحب مطامع ، وراغب دنيا ، فهي الرِّواية المتروكة الضَّعيفة رواية الواقديِّ عن موسى بن يعقوب وقد تأثَّر بالرِّوايات الضَّعيفة ، والسَّقيمة مجموعةٌ من الكتَّاب والمؤرِّخين ، فأهووا بعمرو إلى الحضيض ، كالّذي كتبه محمود شيت خطَّاب، وعبد الخالق سيِّد أبو رابية ، وعبَّاس محمود العقَّاد الّذي يتعالى عن النَّظر في الإسناد ، ويستخفُّ بقارئه ، ويظهر له صورة معاوية وعمرو رضي الله عنهما بأنَّهما : انتهازيَّان ، صاحبا مصالح ، ولو أجمع النَّاقدون التَّاريخيُّون على بطلان الرِّوايات الّتي استند إليها في تحليله فهذا لا يعني للعقَّاد شيئاً ، فقد قال بعد أن ذكر رواياتٍ ضعيفةً ، واهيةً ، لا تقوم بها حجَّةٌ : .. وليقل النَّاقدون التَّاريخيُّون ما بدا لهم أن يقولوا في صدق هذا الحوار ، وصحَّة هذه الكلمات ، وما ثبت نقله ، ولم يثبت منه سندُه ، ولا نصُّه فالّذي لا ريب فيه ، ولو أجمعت التَّواريخ قاطبةً على نقضه : أنَّ الاتفاق بين الرَّجلين ، كان اتفاق مساومةٍ ، ومعاونةٍ على الملك ، والولاية ، وأنَّ المساومة بينهما كانت على النَّصيب الّذي ال على كلٍّ منهما ، ولولاه لما كان بينهما اتِّفاقٌ .
إنَّ شخصية عمرو بن العاص رضي الله عنه الحقيقية : أنَّه رجل مبادئ غادر المدينة حين عجز عن نصرة عثمان ، وبكى عليه بكاءً مُرّاً حين قُتل ، فقد كان من أقرب أصحابه ، وخلانه ، ومستشاريه ، وكان يدخل في الشُّورى ـ في عهد عثمان ـ من غير ولاية ، ومضى إلى معاوية رضي الله عنهما ليتعاونا معاً على حرب قتلة عثمان والثَّأر للخليفة الشَّهيد ، لقد كان مقتل عثمان كافياً لأن يحرِّك كلَّ غضبه على أولئك المجرمين السَّفَّاكين ، وكان لا بدَّ من اختيار مكانٍ غير المدينة للثأر من هؤلاء الّذين تجرَّؤوا على حرم رسول الله ، وقتلوا خليفته على أعين النَّاس ، وأيُّ غرابةٍ أن يغضب عمرو لعثمان ؟ وإن كان هناك من يشكُّ في هذا الموضوع ؛ فمداره على الرِّوايات المكذوبة الّتي تصوِّر عمراً : كلُّ همِّه السُّلطة والحكم .
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf