موقف الصَّحابة رضي الله عنهم من مقتل عثمان رضي الله عنه
الحلقة السابعة والخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م
براءة محمَّد بن أبي بكر الصديق من دم عثمان رضي الله عنه :
إنَّ قاتل عثمان رضي الله عنه رجلٌ مصريٌّ ، لم تفصح الرِّوايات عن اسمه ، وبيَّنت : أنَّه سدوسيُّ الأصل، أسود البشرة، لقب بـ(جبلة) لسواد بشرته، كما لقِّب أيضاً بـ(الموت الأسود) وذهب محبُّ الدِّين الخطيب إلى أنَّ القاتل : هو عبد الله بن سبأ حيث قال : ومن الثَّابت أنَّ ابن سبأ كان مع ثوَّار مصر عند مجيئهم من الفسطاط إلى المدينة، وهو في كلِّ الأدوار الّتي مثَّلها كان شديد الحرص على أن يعمل من وراء ستار ، فلعلَّ بـ( الموت الأسود ) اسمٌ مستعارٌ له أراد أن يُرمز به إليه ، ليتمكَّن من مواصلة دسائسه لهدم الإسلام، وقد يشهد له : أنَّ ابن سبأ أسود البشرة ، فقد صحَّ عن عليٍّ رضي الله عنه أنَّه وصفه بالخبث ، وسواد البشرة ، وذلك في قوله : الخبيث الأسود.
وأمَّا ما يتعلَّق بتهمة محمد بن أبي بكر ، بقتل عثمان بمشاقصه ، فهذا باطلٌ ، وقد جاءت رواياتٌ ضعيفةٌ في ذلك ، كما أنَّ متونها شاذَّةٌ ، لمخالفتها للرِّواية الصَّحيحة الّتي تبيِّن : أنَّ القاتل هو رجلٌ مصريٌّ، وقد ذكر الدُّكتور يحيى اليحيى عدَّة أسباب ترجِّح براءة محمَّد بن أبي بكرٍ من دم عثمان ، منها :
أ ـ أنَّ عائشة رضي الله عنها خرجت إلى البصرة للمطالبة بقتلة عثمان ، ولو كان أخوها منهم ما حزنت عليه ، لمَّا قتل فيما بعد ، وسيأتي تفصيله عند حديثنا عن عليِّ ابن أبي طالب رضي الله عنه بإذن الله تعالى .
ب ـ لَعْنُ عليٍّ رضي الله عنه لقتلة عثمان رضي الله عنه وتبرُّؤه منهم يقتضيعدم تقريبهم ، وتوليتهم ، وقد ولَّى محمَّد بن أبي بكر مصر ، فلو كان منهم ؛ ما فعل ذلك.
ج ـ ما أخرجه ابن عساكر بسنده عن محمَّد بن طلحة بن مصرف ، قال : سمعت كنانة مولى صفيَّة بنت حييٍّ ، قال : شهدت مقتل عثمان وأنا ابن أربع عشرة سنةً . قالت : هل أندى محمَّد بن أبي بكر بشيءٍ من دمه ؟ فقال : معاذ الله ! دخل عليه ، فقال عثمان : يابن أخي ! لست بصاحبي ، فخرج ، ولم يُنْدِ من دمه بشيءٍ.
ويشهد لهذا ما أخرجه خليفة بن خيَّاط ، والطَّبري بإسنادٍ رجاله ثقاتٌ عن الحسن البصريِّ ـ وكان ممَّن حضر يوم الدَّار ؛ أنَّ ابن أبي بكرٍ أخذ بلحيته ، فقال عثمان : لقد أخذت منِّي مأخذاً ، أو قعدت منِّي مقعداً ما كان أبوك ليقعده ! فخرج ، وتركه.
وبهذا يتبيَّن لنا براءة محمَّد بن أبي بكر الصِّدِّيق من دم عثمان ، براءة الذِّئب من دم يوسف ، كما تبيَّن : أنَّ سبب تهمته هو دخوله عليه قبل القتل، وقد ذكر ابن كثيرٍ ـ رحمه الله ـ أنَّه لمَّا كلمه عثمان رضي الله عنه استحى ، ورجع ، وتندَّم ، وغطَّى وجهه، وحاجز دونه ، فلم تفد محاجزته.
موقف الصَّحابة رضي الله عنهم من مقتل عثمان رضي الله عنه
شوَّهت بعض كتب التَّاريخ مواقف الصَّحابة من فتنة مقتل عثمان ؛ وذلك بسبب الرِّوايات الإماميَّة الّتي ذكرها كثيرٌ من المؤرِّخين ، فالمتتبِّع لأحداث الفتنة في تاريخ الإمام الطَّبريِّ ، وكتب التَّاريخ الأخرى من خلال روايات أبي مخنف ، والواقدي وابن أعثم ، وغيرهم من الإخباريين يشعر : أنَّ الصَّحابة هم الّذين كانوا يحركون المؤامرة، ويثيرون الفتنة ، فأبو مخنف ذو الميول الشِّيعيَّة لا يتورَّع في اتِّهام عثمان بأنَّه الخليفة الّذي كثرت سقطاته ، فاستحقَّ ما استحقَّه ، ويُظهِرُ طلحةَ في مرويَّاته كواحدٍ من الثائرين على عثمان ، والمؤلِّبين ضدَّه ، ولا تختلف روايات الواقدي عن روايات أبي مخنفٍ ، فعمرو بن العاص يقدم المدينة ، ويأخذ في الطَّعن على عثمان ، وقد كثرت الرِّوايات الإمامية الّتي تتَّهم الصَّحابة بالتامر ضدَّ عثمان رضي الله عنه وأنَّهم هم الّذين حرَّكوا الفتنة ، وأثاروا النَّاس ، وهذا كلُّه كذبٌ ، وزورٌ.
وخلافاً للرِّوايات الإماميَّة والموضوعة والضَّعيفة فقد حفظت لنا كتب المحدِّثين ـ بحمد الله ـ الرِّوايات الصَّحيحة الّتي يظهر فيها الصَّحابة من المؤازرين لعثمان ، والمنافحين عنه ، المتبرِّئين من قتله ، والمطالبين بدمه بعد مقتله ، وبذلك يُستبعد أيُّ اشتراكٍ لهم في تحريك الفتنة ، أو إثارتها.
إنَّ الصَّحابة جميعاً رضي الله عنهم أبرياء من دم عثمان رضي الله عنه ومن قال خلاف ذلك ؛ فكلامه باطلٌ لا يستطيع أن يقيم عليه أيَّ دليل ينهض إلى مرتبة الصِّحَّة، ولذلك أخرج خليفة في تاريخه عن عبد الأعلى بن الهيثم ، عن أبيه ، قال : قلت للحسن: أكان فيمن قتل عثمان أحدٌ من المهاجرين ، والأنصار ؟ قال : لا ، كانوا أعلاجاً ، من أهل مصر . وقال الإمام النَّوويُّ : ولم يشارك في قتله أحدٌ من الصَّحابة، وإنَّما قتله همجٌ ، ورعاعٌ من غوغاء القبائل سفلة الأطراف والأراذل ، تحزَّبوا ، وقصدوه من مصر ، فعجزت الصَّحابة الحاضرون عن دفعهم ، فحصروه حتَّى قتلوه، رضي الله عنه.
وقد وصفهم الزُّبير رضي الله عنه بأنَّهم غوغاء من الأمصار ، ووصفتهم السَّيدة عائشة بأنَّهم نزَّاع القبائل. ووصفهم ابن سعد بأنَّهم حثالة النَّاس متَّفقون على الشَّرِّ. ووصفهم ابن تيميَّة بأنَّهم خوارج مفسدون ، وضالُّون ، باغون معتدون، ووصفهم الذَّهبيُّ بأنَّهم رؤوس شرٍّ ، وجفاء ، ووصفهم ابن العماد الحنبليُّ في الشَّذرات بأنَّهم أراذل من أوباش القبائل.
ويشهد على هذا الوصف تصرُّف هؤلاء الرُّعاع منذ الحصار إلى قتل الخليفة رضي الله عنه ظلماً ، وعدواناً ، فكيف يمنع الماء عنه ، والطَّعام ، وهو الّذي طالما دفع من ماله الخاص ما يروي ظمأ المسلمين بالمجَّان، وهو الّذي ساهم بأموالٍ كثيرةٍ عندما يلمُّ بالنَّاس مجاعةٌ ، أو مكروهٌ ، وهو الدَّائم العطاء عندما يصيب النَّاس ضائقةٌ ، أو شدَّةٌ من الشَّدا ، حتَّى إنَّ عليّاً رضي الله عنه يصف هذا الحال ، وهو يؤنب المحاصرين بقوله : يا أيُّها النَّاس ! إنَّ الّذي تفعلونه لا يشبه أمر المؤمنين ، ولا أمر الكافرين ، فلا تمنعوا عن هذا الرَّجل الماء ، ولا المادَّة ـ الطَّعام ـ فإن الرُّوم، وفارس لتأسر ، وتطعم ، وتسقي.
لقد صحَّت الأخبار ، وأكَّدت حوادث التَّاريخ على براءة الصَّحابة من التَّحريض على عثمان أو المشاركة في الفتنة ضدَّه.
وإليك أقوال الصحابة في البراءة من دم عثمان :
أولاً : ثناء أهل البيت على عثمان رضي الله عنه وبراءتهم من دمه :
1ـ موقف السَّيدة عائشة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها :
أ ـ عن فاطمة بنت عبد الرَّحمن اليشكريَّة عن أمِّها ؛ أنَّها سألت عائشة ، وأرسلها عمُّها، فقالت : إنَّ أحد بنيك يقرئك السَّلام ، ويسألك عن عثمان بن عفَّان ، فإنَّ النَّاس قد أكثروا فيه ! قالت : لعن الله من لعنه ، فوالله لقد كان قاعداً عند نبيِّ الله (ص) وإنَّ رسوله (ص) مسندٌ ظهره إليَّ ، وأنَّ جبريل عليه السَّلام ليوحي إليه القران ، وإنَّه ليقول : اكتب عثمان ، فما كان الله لينزل تلك المنزلة إلا كريماً على الله ، ورسوله.
ب ـ وعن مسروق عن عائشة ، قالت حين قتل عثمان : تركتموه كالثَّوب النَّقيِّ من الدَّنس ، ثمَّ قرَّبتموه تذبحونه ، كما يذبح الكبش ! فقال لها مسروقٌ : هذا عملك، أنت كتبت إلى النَّاس تأمرينهم بالخروج إليه ! قالت عائشة : لا والّذي امن به المؤمنون ، وكفر به الكافرون ما كتبت إليهم بسوداء في بيضاء حتَّى جلست مجلسي هذا! وقد مرَّ معنا كذب السَّبئيِّين ، وأنَّهم كتبوا رسائل لأهل الأمصار ، ونسبوها كذباً وزوراً للسَّيدة عائشة رضي الله عنها .
ج ـ ولما سمعت بموت عثمان في طريق عودتها من مكَّة إلى المدينة رجعت إلى مكَّة ودخلت المسجد الحرام، وقصدت الحجر، فتستَّرت فيه، واجتمع النَّاس إليها، فقالت: أيُّها النَّاس ! إن الغوغاء من أهل الأمصار ، وأهل المياه ، وعبيد أهل المدينة اجتمعوا أن عاب الغوغاء على هذا المقتول بالأمس الإرب، واستعمال من حدثت سنُّه ، وقد استعمل أسنانهم قبله ، ومواضع من الحمى حماها لهم ، وهي أمورٌ قد سُبق بها ، لا يصلح غيرها ، فتابعهم ، ونزع لهم عنها استصلاحاً لهم ، فما لم يجدوا حجَّةً ، ولا غدراً خلجوا، وبادروا بالعدوان ، ونبا فعلهم عن قولهم ، فسفكوا الدَّم الحرام ، واستحلُّوا البلد الحرام ، وأخذوا المال الحرام ، واستحلُّوا الشَّهر الحرام . والله لإصبع عثمان خيرٌ من طباق الأرض أمثالهم ، فنجاةً من اجتماعكم عليهم حتَّى يُنكِّل بهم غيرهم ، ويشرَّد مَنْ بعدهم ، ووالله لو أنَّ الّذي اعتدوا به عليه كان ذنباً ، لخلُص منه كما يخلص الذَّهب من خبثه ، أو الثَّوب من درنه ؛ إذ ماصُّوه كما يماصُّ الثَّوب بالماء.
وعلى العكس من الصُّورة الطَّيبة الّتي نفهمها من الرِّوايات السَّابقة الموثوقة للعلاقة بين أمِّ المؤمنين عائشة ، وعثمان ، فإنَّه تبقى عند الطَّبريِّ وغيره رواياتٌ أخرى صوَّرت العلاقة بين عائشة، وعثمان على صورةٍ متناقضةٍ تماماً لما انتهينا إليه، وشوَّهت الدَّور الرَّائع النَّاصع ، الواعي ، الّذي قامت به رضي الله عنها ، دفاعاً عن حرمات الله عزَّ وجل ، ودفعاً عن عثمان رضي الله عنه، وفهماً لألاعيب السَّبئيَّة.
إنَّ الرِّوايات الّتي جاءت في العقد الفريد ، وفي الأغاني ، وتاريخ اليعقوبي ، وتاريخ المسعودي ، وأنساب الأشراف ، وما انتهت إليه من استدلالات في شأن الدَّور السِّياسيِّ للسَّيدة عائشة رضي الله عنها في حياة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه ، إنَّ جميع ما تؤدِّي إليه من استدلالات تدين الموقف السِّياسيِّ للسَّيدة عائشة رضي الله عنها، لا يعتدُّ بها لمخالفتها للرِّوايات الصَّحيحة ، وقيامها على رواياتٍ واهيةٍ، فأغلبها رواياتٌ غير مسندةٍ ، والمسند مجروحُ الإسناد ، لا يحتجُّ بروايته، هذا إلى فساد متونها إذا ما قورنت بالرِّوايات الأخرى الأكثر صحَّة ، وقرباً بالحقيقة.
وقد قامت السَّيدة أسماء محمَّد أحمد زيادة بدراسة الأسانيد، والمتون للرِّوايات الّتي تحدَّثت عن الدَّور السِّياسيِّ للسيِّدة عائشة في أحداث الفتنة ، ونقدت الرِّوايات القائلة بالخلاف السِّياسيِّ بين عائشة، وعثمان عند الطَّبريِّ، وغيره، وبيَّنت زيفها ، وكذبها ، ثمَّ قالت : وكان الأحرى بنا أن نُعرض عن ذكرها جميعاً ـ كما ذكرت انفاً ـ لعدم وصولها إلينا عن طريقٍ معتمدٍ ، بل الطُّرق الّتي وصلت منها رُمي أصحابها بالتَّشيُّع ، والكذب ، والرَّفض ، لكننا عرضنا لها ؛ لشيوعها في أغلب الدِّراسات الحديثة ، وللتَّدليل على سقوطها ، فهي رواياتٌ ـ كما اتَّضح لنا ـ حاولت خلق تاريخ لا وجود له أصلاً من الخلاف ، والتنكُّر بين عثمان ، وعائشة ، وبين عثمان والصَّحابة جميعاً، ولو صحَّ : أنَّ عائشة اتَّفقت مع المتمرِّدين على التَّحريض على عثمان رضي الله عنه لكان من المتوقَّع أن يكون عندها نوعٌ من التماس العذر لهؤلاء المتمرِّدين ، لكن لم يصحَّ عنها رضي الله عنها شيءٌ من هذا ، وإنَّه لو صحَّ شيءٌ من هذه الرِّوايات في وصف موقف السَّيدة عائشة رضي الله عنها من مقتل عثمان، فهي رواياتٌ كفيلةٌ بإسقاط العدالة عن عائشة رضي الله عنها وعن الصَّحابة الّذين اشتركوا معها، وهو ما لا نقبل به للخبر الصَّادق عن الله، ورسوله في تقرير عدالتهم ؛ الّتي كانت كافيةً لدحض هذه الرِّوايات ، لكنَّنا توقَّفنا أمام الرِّوايات ، تأكيداً منَّا على سقوط هذه الرِّوايات ، وَمِنْ بعدها الاستدلالاتُ القائمة عليها ، حتَّى تجتمع الأدلَّة الدِّينيَّة ، والعلميَّة ، والتَّاريخيَّة ، في صعيدٍ واحدٍ تؤكِّد بعضها بعضاً.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf