الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

من حج في الناس في عام الحصار؟ وهل طلبَ عثمان نصرته؟

الحلقة الخامسة والخمسون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م

1ـ من حجَّ بالناس ذلك العام ( 35 هـ ) ؟ :
استدعى عثمان عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهم ، وكلَّفه أن يحجَّ بالنَّاس هذا الموسم ، فقال له ابن عبَّاس : دعني أكن معك ؛ وبجانبك يا أمير المؤمنين ! في مواجهة هؤلاء ، فوالله إن جهاد هؤلاء الخوارج أحبُّ إليَّ من الحج ! قال له : عزمت عليك أن تحجَّ بالمسلمين ! فلم يجد ابن عبَّاسٍ أمامه إلا أن يطيع أمير المؤمنين ، وكتب عثمان كتاباً مع ابن عبَّاس ، ليقرأ على المسلمين في الحجِّ ، بيَّن فيه قصَّته مع الخوارج عليه ، وموقفه منهم ، وطلباتهم منه، وهذا نصُّ خطاب عثمان رضي الله عنه للمسلمين في موسم الحج عام 35 هـ :
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم . من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى المؤمنين والمسلمين ، سلامٌ عليكم ، فإنِّي أحمد الله إليكم الّذي لا إله إلا هو ، أمَّا بعد : فإنِّي أذكِّركم بالله ـ جلَّ وعز ـ الّذي أنعم عليكم ، وعلَّمكم الإسلام ، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر ، وأراكم البينات ، وأوسع عليكم من الرِّزق ، ونصركم على العدوِّ ، وأسبغ عليكم نعمته ، فإنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ يقول ، وقوله الحق : {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ *} [إبراهيم: 34 ] .
وقال عزَّ وجل : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *} [آل عمران : 102 ـ 105 ] .
وقال ، وقوله الحقُّ : {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ *} [المائدة : 7 ] .
وقال ، وقوله الحقُّ : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ *وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ *فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *} [الحجرات : 6 ـ 8 ] .
وقوله ـ عزَّ ، وجلَّ ـ : {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *} [آل عمران : 77 ] .
وقال ، وقوله الحقُّ : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأِنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [التغابن : 16 ] .
وقال وقوله الحقُّ : {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ *وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُّمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [النحل : 91 ـ 96 ] .
وقال ، وقوله الحقُّ : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً *} [النساء : 59 ] .
وقال ، وقوله الحقُّ : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *} [ النور: 55].
وقال ، وقوله الحقُّ : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا*} [الفتح: 10] .
أمَّا بعد : فإنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ رضي لكم السَّمع ، والطَّاعة ، والجماعة ، وحذَّركم المعصية ، والفرقة ، والاختلاف ، ونبَّأكم ما قد فعله الّذين من قبلكم ، وتقدَّم إليكم فيه ليكون له الحجَّة عليكم؛ إن عصيتموه، فاقبلوا نصيحة الله ـ عزَّ وجلَّ ـ واحذروا عذابه، فإنَّكم لن تجدوا أمَّة هلكت إلا بعد أن تختلف ، إلا أن يكون لها رأسٌ يجمعها ، ومتى ما تفعلوا ذلك لا تقيموا الصَّلاة جميعاً ، وسُلِّط عليكم عدوُّكم ، ويستحلُّ بعضكم حرمة بعضٍ ، ومتى يفعل ذلك ؛ لا يقم لله سبحانه دينٌ ، وتكونوا شيعاً ، وقد قال الله ـ جلَّ وعزَّ ـ لرسوله (ص) :{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ *} [الأنعام: 159].
وإنِّي أوصيكم بما أوصاكم الله ، وأحذركم عذابه ، فإن شعيباً ـ عليه السلام ـ قال لقومه : {وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ * وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ *} [هود : 89 ـ 90] .
أمَّا بعد : إنَّ أقواماً ممَّن كان يقول في هذا الحديث ، أظهروا للنَّاس أنَّما يدعون إلى كتاب الله ـ عزَّ وجلَّ ـ والحقِّ ، ولا يريدون الدُّنيا ، ولا منازعة فيها ، فلمَّا عُرض عليهم الحقُّ ، إذا النَّاس في ذلك شتَّى ، منهم اخذٌ للحقِّ ، ونازعٌ عنه حين يُعطاه ، ومنهم تاركٌ للحقِّ ، ونازلٌ عنه في الأمر ، يريد أن يبتزَّه بغير الحقِّ ، طال عليهم عمري وراثَ عليهم، أملهم الإمرة ، فاستعجلوا القدر ، وقد كتبوا إليكم : أنَّهم قد رجعوا بالّذي أعطيتهم ، ولا أعلم أنِّي تركت من الّذي عاهدتهم عليه شيئاً ، كانوا زعموا أنَّهم يطلبون الحدود ، فقلت : أقيموها على مَنْ علمتم تعدَّاها في أحدٍ ، أقيموها على من ظلمكم من قريبٍ ، أو بعيد ، قالوا : كتاب الله يُتلى ، فقلت : فليتله من تلاه غير غالٍ فيه بغير ما أنزل الله في الكتاب .
وقالوا : المحروم يرزق ، والمال يوفَّى ؛ ليُستنَّ فيه السُّنَّة الحسنة ، ولا يُعتدى في الخمس ، ولا في الصَّدقة ، ويؤمَّر ذو القوَّة ، والأمانة ، وتردُّ مظالم الناس إلى أهلها ، فرضيت بذلك ، واصطبرت له ، كتبت إليكم وأصحابي الّذين زعموا في الأمر ، استعجلوا القدر ومنعوا منِّي الصلاة ، وحالوا بيني وبين المسجد ، وابتزُّوا ما قدروا عليه بالمدينة ، كتبت إليكم كتابي هذا ، وهم يخبرونني إحدى ثلاث : إمَّا يقيدونني بكلِّ رجل أصبته خطأً ، أو صواباً ، غير متروكٍ منه شيءٌ ، وإمَّا أعتزل الأمر ، فيؤمِّرون اخر غيري ، وإمَّا يرسلون إلى من أطاعهم من الأجناد ، وأهل المدينة فيتبَّرؤون من الّذي جعل الله سبحانه عليهم من السَّمع ، والطَّاعة . فقلت لهم: أمَّا إقادتي من نفسي ، فقد كان من قبلي خلفاء تخطأي ، وتصيب ، فلم يُستقد من أحدٍ منهم ، وقد علمت أنَّما يريدون نفسي ، وأمَّا أن أتبرأ من الإمارة ، فإن يكلِّبوني أحبُّ إليَّ من أن أتبرأ من عمل الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وخلافته ، وأمَّا قولكم : يرسلون إلى الأجناد ، وأهل المدينة فيتبرَّؤون من طاعتي ، فلست عليكم بوكيل ، ولم أكن استكرهتهم من قبل على السَّمع والطَّاعة ، ولكن أتوها طائعين ، يبتغون مرضاة الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وإصلاح ذات البين ، ومن يكن منكم يبتغي الدُّنيا ؛ فليس بنائلٍ منها إلا ما كتب الله عزَّ وجلَّ له، ومن يكن إنَّما يريد وجه الله ، والدَّار الاخرة، وصلاح الأمَّة ، وابتغاء مرضاة الله عزَّ وجلَّ، والسُّنَّة الحسنة الّتي استنَّ بها رسول الله (ص) ، والخليفتان من بعده ، رضي الله عنهما ، فإنَّما يجزي بذلكم الله ، وليس بيدي جزاؤكم ، ولو أعطيتكم الدُّنيا كلَّها ؛ لم يكن في ذلك ثمنٌ لدينكم ، ولم يُغْن عنكم شيئاً ، فاتَّقوا الله ، واحتسبوا ما عنده ، فمن يرضى بالنَّكث منكم فإنِّي لا أرضاه له ، ولا يرضى الله سبحانه ، أن تنكثوا عهده ، وأمَّا الذي تخيرونني فإنَّما كلُّه النَّزع ، والتأمير ، فملكت نفسي ، ومن معي ، ونظرت حكم الله وتغيير النِّعمة من الله سبحانه ، وكرهت سنَّة السُّوء ، وشقاق الأمَّة ، وسفك الدِّماء ، فإنِّي أنشدكم بالله ، وبالإسلام ألا تأخذوا إلا الحقَّ ، وتعطوه منِّي ، وترك البغي على أهله ، وخذوا بيننا بالعدل كما أمركم الله عزَّ وجلَّ ، فإنِّي أنشدكم الله سبحانه الّذي جعل عليكم العهد ، والمؤازرة في أمر الله ، فإنَّ الله سبحانه قال ، وقوله الحقُّ : {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً *} [الإسراء : 34 ] .
فإنَّ هذه معذرةٌ إلى الله ، ولعلكم تذكَّرون . أمَّا بعد : فإني لا أُبرِّأى نفسي ، {وَمَا أُبَرِّيءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [يوسف: 53].
وإن عاقبت أقواماً ؛ فما أبتغي بذلك إلا الخير ، وإنِّي أتوب إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ من كل عملٍ عملته ، وأستغفره ، إنَّه لا يغفر الذُّنوب إلا هو ، إنَّ رحمة ربي وسعت كلَّ شيء ، إنه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم الضَّالون ، وإنَّه يقبل التَّوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون . وأنا أسأل الله ـ عزَّ وجلَّ ـ أن يغفر لي ، ولكم، وأن يؤلِّف قلوب هذه الأمَّة على الخير ، ويُكرِّه إليها الفسق . والسَّلام عليكم ، ورحمة الله وبركاته أيها المؤمنون ، والمسلمون ! قال ابن عبَّاس : فقرأت هذا الكتاب عليهم قبل التَّروية بمكَّة بيوم .
2ـ هل طلب عثمان رضي الله عنه من الولاة نصرته ؟:
يزعم سيف بن عمر في روايته عند الطَّبري : أنَّ عثمان لمَّا حصر كتب إلى عماله على الأمصار يستمدُّهم ، فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري على رأس جيشٍ ، وكذا فعل عبد الله بن سعد في مصر ، فأرسل معاوية بن حديج ، وخرج من أهل الكوفة القعقاع بن عمرو على رأس قوَّاته. وهذا الزَّعم لا يتَّفق مع منهج عثمان في مواجهة الفتنة من إيثار العافية ، والكفِّ ، ولا يتَّفق مع تيقُّنه بالقتل ، ولا يتَّفق مع ما لجأ إليه من صرف المدافعين عنه من كبار الصَّحابة ، وأبنائهم ، بل عبيدة، ومواليه الّذين نهاهم أشدَّ النَّهي عن القتال ، بل جعل العتق نصيب من يكفُّ يده منهم ، ولا يقاتل كما سوف نرى .
ولكنَّ الّذي يمكن تصوُّره هو : أنَّه كما بادر جماعةٌ من الصحابة إلى الدِّفاع عن عثمان دون أن يطلب منهم ذلك ، ورغم محاولاته العديدة لصرفهم ، فإنَّه قد بادرت جماعاتٌ كثيفةٌ من أجناد المسلمين في الأمصار للدِّفاع عن الخليفة المظلوم من تلقاء أنفسهم ، وتوجيهٍ من أمرائهم ، ولا يصحُّ أن نظنَّ : أنَّ رجلاً مثل معاوية في قرابته من عثمان كان سيسعه ـ لو أراد ـ أن يتقاعس عن السَّير إليه ، أو تسيير الجنود إليه، ولا يمكن أن نفترض أنَّ رجالاً مثل أنصار عثمان بمصر ـ وعلى رأسهم معاوية بن حديج ، ومسلمة بن مخلد ، وغيرهما من أبطال المسلمين ـ كانوا سينتظرون قابعين حتَّى يقتل الخليفة ، ثمَّ يتحركون للثَّأر له ، ويعرضون نحورهم للقتل في سبيله ، بل الّذي يمكن تصوُّره ، وافتراضه ، أنَّ جنوداً من الأمصار قد تحرَّكت بالفعل نحو المدينة لنجدة الخليفة دون أن يطلب منها نجدته.
3ـ آخر خطبةٍ خطبها عثمان رضي الله عنه :
كان آخر لقاء عام لعثمان مع المسلمين ، بعد أسابيع من الحصار ، حيث دعا النَّاس ، فاجتمعوا له جميعاً ، المحارب الطَّارأى من السَّبئيِّين ، والمسالم المقيم من أهل المدينة ، وكان في مقدِّمة القادمين : عليٌّ ، وطلحة ، والزُّبير ، فلمَّا جلسوا أمامه ؛ قال لهم : إن الله ـ عزَّ وجلَّ ـ إنَّما أعطاكم الدُّنيا لتطلبوا بها الاخرة ، ولم يعطكم الدُّنيا لتركنوا إليها ، وإنَّ الدُّنيا تفنى ، والاخرة تبقى ، فلا تبطرنَّكم الفانية ، ولا تشغلنَّكم عن الباقية ، واثروا ما يبقى على ما يفنى ، فإن الدُّنيا منقطعةٌ ، وإنَّ المصير إلى الله ، واتَّقوا الله ـ عزَّ وجلَّ ـ فإنَّ تقواه جُنَّةٌ ، ووقايةٌ من بأسه ، وانتقامه ، والزموا جماعتكم، ولا تصيروا أحزاباً . قال تعالى : {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *} [آل عمران : 103 ].
ثمَّ قال للمسلمين : يا أهل المدينة ! إنِّي أستودعكم الله ، وأسأله أن يُحسن عليكم الخلافة من بعدي . وإنِّي والله لا أدخل على أحدٍ بعد يومي هذا ، حتَّى يقضي الله فيَّ قضاءه ، ولأدعنَّ هؤلاء الخوارج وراء بابي ، ولا أُعطيهم شيئاً ، يتَّخذونه عليكم دخلاً في دينٍ ، أو دنيا ، حتَّى يكون الله هو الصَّانع في ذلك ما أحبَّ . وأمر أهل المدينة بالرُّجوع ، وأقسم عليهم ، فرجعوا إلا الحسن ، ومحمَّد بن طلحة ، وابن الزُّبير ، وأشباهاً لهم ، فجلسوا على باب عثمان عن أمر ابائهم ، وثاب إليهم ناسٌ كثير ، ولزم عثمان الدَّار، حتَّى أتاه أجله .

يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022