الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

دفاع الصَّحابة عن عثمان رضي الله عنه ورفضه لذلك

الحلقة الرابعة والخمسون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م

أرسل عثمان رضي الله عنه إلى الصَّحابة رضي الله عنهم يشاورهم في أمر المحاصرين ، وتوعُّدهم إيَّاه بالقتل ، فكانت مواقفهم كالاتي :
1ـ عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه :
فقد أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه : أنَّ عليّاً أرسل إلى عثمان فقال : إنَّ معي خمسمئة دارعٍ ، فائْذَنْ لي ، فأمنعك من القوم ، فإنَّك لم تحدث شيئاً يُستحلُّ به دمك، فقال: جزيت خيراً، ما أحبُّ أن يهراق دمٌ في سببي
2ـ الزُّبير بن العوَّام رضي الله عنه :
عن أبي حبيبة، قال : بعثني الزُّبير إلى عثمان ـ وهو محاصرٌ ـ فدخلت عليه في يوم صائفٍ ، وهو على كرسيٍّ ، وعنده الحسن بن عليٍّ ، وأبو هريرة ، وعبد الله ابن عمر ، وعبد الله بن الزُّبير ، فقلت : بعثني إليك الزُّبير بن العوَّام ، وهو يقرئك السَّلام، ويقول لك : إنِّي على طاعتي ، لم أبدِّل ، ولم أنكث ، فإن شئت ؛ دخلت الدَّار معك ، وكنت رجلاً من القوم ، وإن شئت ؛ أقمت ، فإنَّ بني عمرو بن عوف وعدوني أن يصبحوا على بابي ، ثمَّ يمضون على ما امرهم به ، فلمَّا سمع ـ يعني : عثمان ـ الرِّسالة ، قال : الله أكبر ، الحمد لله الّذي عصم أخي ! أقرئه السَّلام، ثم قل له : أحبُّ إليَّ ، وعسى الله أن يدفع بك عنِّي ، فلمَّا قرأ الرِّسالة أبو هريرة ؛ قام ، فقال : ألا أخبركم ما سمعت أذناي من رسول الله (ﷺ) ؟ قالوا : بلى ! قال : أشهد لسمعت رسول الله (ﷺ) يقول : « تكون بعدي فتنٌ ، وأمور » فقلنا : فأين المنجى منها يا رسول الله؟! قال: «إلى الأمين ، وحزبه» وأشار إلى عثمان بن عفَّان، فقام النَّاس ، فقالوا : قد أمكنتنا البصائر ، فائْذنْ لنا في الجهاد ؟ فقال : أعزم على من كانت لي عليه طاعةٌ ألا يقاتل.
3ـ المغيرة بن شعبة رضي الله عنه :
فقد ورد : أنَّ المغيرة بن شعبة رضي الله عنه دخل عليه ـ وهو محاصرٌ ـ فقال: إنَّك إمام العامَّة ، وقد نزل بك ما ترى وإنِّي أعرض عليك خصالاً ثلاثاً ، اختر إحداهنَّ: إما أن تخرج ، فتقاتلهم ، فإنَّ معك عدداً ، وقوَّةً ، وأنت على الحقِّ وهم على الباطل ، وإمَّا أن تخرق باباً سوى الباب الّذي هم عليه ، فتقعد على رواحلك فتلحق بمكَّة ، فإنَّهم لن يستحلُّوك بها ، وإمَّا أن تلحق بالشَّام فإنَّهم أهل الشَّام ، وفيهم معاوية ، فقال عثمان : أما أن أخرج ، فأقاتل ؛ فلن أكون أوَّل من خلف رسول الله في أمته بسفك الدِّماء ، وأمَّا أن أخرج إلى مكَّة فإنَّهم لن يستحلُّوني ، فإنِّي سمعت رسول الله (ﷺ) يقول : « يلحد رجلٌ من قريش بمكَّة يكون عليه نصف عذاب العالم » . ولن أكون أنا، وأمَّا أن ألحق بالشَّام فإنَّهم أهل الشَّام ، وفيهم معاوية ، فلن أفارق دار هجرتي ، ومجاورة الرَّسول (ﷺ) .
4ـ عبد الله بن الزُّبير ، رضي الله عنه :
عزم الصَّحابة رضي الله عنهم على الدِّفاع عن عثمان رضي الله عنه ، ودخل بعضهم الدَّار ، ولكن عثمان رضي الله عنه عزم عليهم بشدَّةٍ ، وشدَّد عليهم في الكفِّ عن القتال دفاعاً عنه ممَّا حال بين رغبتهم الصَّادقة في الدِّفاع عنه وبين تحقيقها ، وكان من ضمن أولئك عبد الله بن الزُّبير رضي الله عنهما ، فقد قال لعثمان رضي الله عنه : قاتلهم ، فوالله لقد أحلَّ الله لك قتالهم ! فقال عثمان : لا والله لا أقاتلهم أبداً!
وفي رواية : يا أمير المؤمنين ! إنَّا معك في الدَّار عصابةٌ مستبصرةٌ ، ينصر الله بأقلَّ منه ، فائذَنْ لنا ! فقال عثمان رضي الله عنه : أنشد الله رجلاً أهراق فيَّ دمه ! ثم أمَّره على الدَّار ، وقال : من كانت لي عليه طاعةٌ فليطع عبد الله بن الزُّبير.
5ـ كعب بن مالك ، وزيد بن ثابت الأنصاريَّان رضي الله عنهما :
حثَّ كعب بن مالك رضي الله عنه الأنصار على نصرة عثمان رضي الله عنه، وقال لهم : يا معشر الأنصار ! كونوا أنصار الله مرَّتين ، فجاءت الأنصار عثمان ، ووقفوا ببابه ودخل زيد بن ثابت رضي الله عنه ، وقال له : هؤلاء الأنصار بالباب، إن شئت كنَّا أنصار الله مرَّتين . فرفض القتال ، وقال : لا حاجة لي في ذلك ، كفُّوا !
6ـ الحسن بن عليٍّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنهما :
وجاء الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما وقال له : أخترط سيفي ؟ قال له : لا ! أبرأ الله إذاً من دمك ، ولكن ثم سيفك ، وارجع إلى أبيك.
7 ـ عبد الله بن عمر بن الخطَّاب ، رضي الله عنهما :
ولما رأى الصَّحابة أنَّ الأمر استفحل ، وأنَّ السيل بلغ الزُّبى ؛ عزم بعضهم على الدِّفاع عنه دون استشارته ، فدخل بعضهم الدَّار مستعدّاً للقتال ، فقد كان ابن عمر معه في الدَّار ، متقلِّداً سيفه ، لابساً درعه ليقاتل دفاعاً عن عثمان ، رضي الله عنه ، ولكنَّ عثمان عزم عليه أن يخرج من الدَّار خشية أن يتقاتل مع القوم عند دخولهم عليه ، فيقتل . كما لبسه مرَّةً أخرى .
8 ـ أبو هريرة رضي الله عنه :
ودخل الدَّار على عثمان رضي الله عنه يقول : يا أمير المؤمنين ! طاب امضرب، فقال له : يا أبا هريرة أَيَسُرُّك أن تقتل النَّاس جميعاً وإيَّاي ؟ قال : لا ! قال: فإنَّك والله إن قتلت رجلاً واحداً فكأنَّما قُتل الناس جميعاً ! فرجع ، ولم يقاتل ، وفي روايةٍ : أنَّ أبا هريرة كان متقلِّداً سيفه ؛ حتَّى نهاه عثمان.
9ـ سليط بن سليط :
قال : نهانا عثمان رضي الله عنه عن قتالهم ، ولو أذن لنا ؛ لضربناهم حتَّى نخرجهم من أقطارها .
ويقول ابن سيرين : كان مع عثمان رضي الله عنه في الدار سبعمئةٍ لو يدعهم ؛ لضربوهم ـ إن شاء الله ـ حتَّى يخرجوهم من أقطارها ، منهم : ابن عمر ، والحسن ابن عليٍّ ، وعبد الله بن الزُّبير ، ويقول أيضاً : لقد قتل عثمان ـ يوم قتل ـ وإنَّ الدَّار لغاصَّةٌ، منهم : ابن عمر ، وفيهم الحسن بن عليٍّ في عنقه السَّيف ، ولكنَّ عثمان عزم عليهم ألا يقاتلوا .
وبذلك يظهر زيف ما اتُّهم به الصَّحابة مهاجرين ، وأنصاراً من تخاذلٍ عن نصرة عثمان رضي الله عنه ، وكلُّ ما روي في ذلك ، فإنَّه لا يسلم من علَّة إن لم تكن عللاً قادحةً في الإسناد ، والمتن جميعاً .
10ـ عرض بعض الصَّحابة على عثمان مساعدته في الخروج إلى مكَّة :
ولمَّا رأى بعض الصَّحابة إصرار عثمان رضي الله عنه على رفض قتال المحاصرين ، وأنَّ المحاصرين مصرُّون على قتله ، لم يجدوا حيلةً لحمايته سوى أن يعرضوا عليه مساعدته في الخروج إلى مكَّة هرباً من المحاصرين ، فقد روي : أن عبد الله بن الزُّبير ، والمغيرة بن شعبة ، وأسامة بن زيد ، عرضوا عليه ذلك ، وكان عرضهم متفرِّقاً ، فقد عرض كلُّ واحدٍ منهم عليه ذلك على حدةٍ ، وعثمان رضي الله عنه يرفض كلَّ هذه العروض .
الأسباب الّتي دعت عثمان إلى منع الصحابة من القتال :
يظهر للباحثين من خلال روايات الفتنة : أنَّ هناك أسباباً خمسةً ، هي :
1ـ العمل بوصيَّة رسول الله (ﷺ) الّتي سارَّه بها ، وبيَّنها عثمان رضي الله عنه يوم الدَّار ، وأنَّها عَهْدٌ به إليه ، وأنَّه صابر نفسه عليه .
2ـ ما جاء في قوله : لن أكون أوَّل من خلف رسول الله (ﷺ) في أمَّته بسفك الدِّماء ، أي : كره أن يكون أوَّل من خلف رسول الله (ﷺ) في أمَّته بسفك دماء المسلمين .
3ـ علمه بأنَّ البغاة لا يريدون غيره ، فكره أن يتوقَّى بالمؤمنين ، وأحبَّ أن يقيهم بنفسه .
4ـ علمه بأنَّ هذه الفتنة فيها قتله ، وذلك فيما أخبره بها رسول الله (ﷺ) عند تبشيره إيَّاه بالجنَّة على بلوى تصيبه ، وأنَّه سيقتل مصطبراً بالحقِّ ، معطيه في فتنةٍ، والدَّلالات تدلُّ على أنَّ أوانها قد حان ، وأكَّد ذلك تلك الرُّؤيا الّتي راها ليلة قتله ، فقد رأى رسول الله (ﷺ) ، وقال له : أفطر عندنا القابلة ، ففهم رضي الله عنه : أنَّ موعد الاستشهاد قد قرب .
5ـ العمل بمشورة ابن سلام رضي الله عنه له ؛ إذ قال له : الكفَّ ، الكفَّ ، فإنَّه أبلغ لك في الحجَّة .
وتحقَّق إخبار النَّبيّ (ﷺ) بأنَّ عثمان رضي الله عنه سوف يقتل ،وذلك فيما رواه عبد الله بن حوالة رضي الله عنه، عن النَّبيّ (ﷺ) قال : « من نجا من ثلاثٍ؛ فقد نجا ـ ثلاث مرَّاتٍ ـ : موتي ، والدَّجال ، وقتل خليفة مصطبرٍ بالحقِّ ، معطيه ».
وممَّا تقدَّم يتبيَّن هدوءه في التَّفكير رضي الله عنه وأنَّ شدَّة البلوى لم تحل بينه وبين ذلك التَّفكير الصَّحيح ، والرَّأي السليم ، فقد تضافرت الأسباب لتحديد هذا الموقف المسالم في قتال الخارجين عليه ، ولا شكَّ : أنَّه رضي الله عنه كان على الحقِّ في مواقفه الّتي اتَّخذها ؛ لما صحَّ عن النَّبيّ (ﷺ) : أنَّه أشار إلى وقوع هذه الفتنة ، وشهد لعثمان ، وأصحابه أنَّهم على الحقِّ فيها .
قال ابن تيميَّة ـ رحمه الله ـ : ومن المعلوم بالتَّواتر : أنَّ عثمان كان من أكفِّ النَّاس عن الدِّماء ، وأصبر النَّاس عن من نال من عرضه ، وعلى من سعى في دمه، فحاصروه ، وسعوا في قتله ، وقد عرف إرادتهم لقتله ، وقد جاء المسلمون ينصرونه، ويشيرون عليه بقتالهم ، وهو يأمر النَّاس بالكفِّ عن القتال ، ويأمر مَنْ يطيعه ألا يقاتلهم ... وقيل له : تذهب إلى مكَّة ؟ فقال : لا أكون ممن ألحد في الحرم، فقيل له : تذهب إلى الشَّام ؟ فقال : لا أفارق دار هجرتي ، فقيل له : فقاتلهم ! فقال : لا أكون أوَّل من خلف محمَّداً في أمَّته بالسَّيف ، فكان صبر عثمان حتَّى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين.
خامساً : موقف أمَّهات المؤمنين ، وبعض الصَّحابيات :
1ـ أمُّ حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما :
كان موقف السَّيدة أمِّ المؤمنين ، أمِّ حبيبة من المواقف البالغة الخطر في هذه الأحداث ، وهو موقفٌ كان من الخطورة بحيث كادت رضي الله عنها أن تقتل فيه ، ذلك أنَّه لما حوصر عثمان رضي الله عنه ومنع عنه الماء ، سرَّح عثمان ابناً لعمرو بن حزم الأنصاريِّ ـ من جيران عثمان ـ إلى عليٍّ بأنَّهم قد منعونا الماء فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا شيئاً من الماء ؛ فافعلوا . وإلى طلحة وإلى الزُّبير ، وإلى عائشة ، وأزواج النَّبيّ (ﷺ) ، فكان أوَّلهم إنجاداً له عليٌّ ، وأمُّ حبيبة ، وكانت أمُّ حبيبة معنيَّة بعثمان ، كما قال ابن عساكر ، وكان هذا طبيعيّاً منها ، حيث النَّسب الأمويُّ الواحد ، جاءت أمُّ حبيبة ، فضربوا وجه بغلتها ، فقالت : إنَّ وصايا بني أميَّة إلى هذا الرَّجل ، فأحببت أن ألقاه ، فأسأله عن ذلك كيلا تهلك أموال أيتامٍ ، وأرامل . قالوا : كاذبةٌ ، وأهووا لها ، وقطعوا حبل البغلة بالسَّيف ، فندَّت بأمِّ حبيبة ، فتلقَّاها النَّاس وقد مالت راحلتها ، فتعلَّقوا بها ، وأخذوها وقد كادت تقتل ، فذهبوا بها إلى بيتها ، ويبدو : أنَّها رضي الله عنها أمرت ابن الجرَّاح ، مولاها أن يلزم عثمان رضي الله عنه، فقد حدثت أحداث الدَّار ، وكان ابن الجرَّاح حاضراً.
2ـ صفية زوجة رسول الله (ﷺ) :
وما فعلته السَّيدة أمُّ حبيبة فعلت مثله السَّيدة صفيَّة رضي الله عنها ، فلقد روي عن كنانة ، قال : كنت أقود بصفيَّة لتردَّ عن عثمان ، فلقيها الأشتر، فضرب وجه بغلتها حتَّى مالت ، فقالت : ذروني ، لا يفضحني هذا ! ثمَّ وضعت خشباً من منزلها إلى منزل عثمان ، تنقل عليه الطَّعام ، والماء .
3ـ عائشة أمُّ المؤمنين رضي الله عنها :
ولمَّا حدث ما حدث للسَّيدة أمِّ حبيبة أعظمه النَّاس جدّاً ، فخرجت عائشة رضي الله عنها من المدينة وهي ممتلئةٌ غيظاً على المتمرِّدين ، وجاءها مروان بن الحكم ، فقال: يا أمَّ المؤمنين ! لو أقمت كان أجدر أن يراقبوا هذا الرَّجل . فقالت : أتريد أن يُصنع بي كما صُنع بأمِّ حبيبة ، ثمَّ لا أجد من يمنعني ! لا والله ! لا أُعيَّر ، ولا أدري إلام يسلم أمر هؤلاء ، ورأت رضي الله عنها : أنَّ خروجها ربما كان معيناً في فضِّ هذه الجموع كما سيتضح من الرِّواية الاتية بعد ، وتجهَّزت أمَّهات المؤمنين إلى الحجِّ هرباً من الفتنة ، على أنَّ خروجهنَّ لم يكن تنزُّهاً عن ملابسات الفتنة ، وحسب ، ولم يكن هرباً محضاً ، وإنَّما كان محاولةً منهنَّ لتخليص عثمان رضي الله عنه من أيدي هؤلاء المفتونين ، الّذين كان منهم محمَّد بن أبي بكر ، أخو السَّيدة عائشة؛ رضي الله عنهما الّذي حاولت أن تَسْتَتْبعه معها إلى الحجِّ ، فأبى . ولقد دلَّل على هذه المحاولة منها أن استتباعها له ، ورفضه كانا لافتين للنَّظر ، حتَّى إنَّ حنظلة الكاتب ، قد هاله رفض محمَّد لأن يتبع أمَّ المؤمنين ، وقارن بين هذا الرَّفض وبين متابعته لأهل الأمصار ، قائلاً : يا محمد ! تدعوك أمُّ المؤمنين ، فلا تتبعها ، وتدعوك ذؤبان العرب إلى ما لا يحلُّ فتتبعهم ! فأبى ، فقالت السَّيِّدة عائشة : أما والله لو استطعت أن يحرمهم الله ما يجولون ؛ لأفعلنَّ !
وهذا القول منها بعد ما حاولته مع أخيها دليل على أنَّها قد بدأت محاولتها لفض الثَّائرين عن عثمان ، ولإثارة الرَّأي العامِّ عليهم منذ بدأ تفكيرها في الذَّهاب إلى مكَّة ، وهذا هو ما أكَّد عليه الإمام ابن العربيِّ ، قال : إنَّه يروى أن تغيبهم ـ تغيُّب أمَّهات المؤمنين مع عددٍ من الصَّحابة ـ كان قطعاً للشَّغب بين النَّاس ، وجاء أن يرجع النَّاس إلى أمَّهاتهم ، وأمهات المؤمنين ، فيرعوا حرمة نبيِّهم ، ويستمعوا إلى كلمتهنَّ ، الّتي طالما كانوا يقصدونها من كلِّ الآفاق .
أي : أنَّ خروجهم كان نوعاً من التَّفريق لهذه الجموع ، حيث كان معروفاً عند النَّاس التماس رأيهنَّ ، وفتاواهنَّ ، وكنَّ ـ رضوان الله عليهن ـ لا يتصوَّرن أن يصل الأمر بهؤلاء النَّاس إلى قتل الخليفة رضي الله عنه.
4ـ مواقف للصَّحابيَّات :
أ ـ وقد حاولت أسماء بنت عُميس نفس المحاولة الّتي حاولتها أمُّ المؤمنين عائشة، فبعثت إلى ابنيها ، محمَّد بن أبي بكر ، ومحمَّد بن جعفر، فقالت : إنَّ المصباح يأكل نفسه ، ويضيء للنَّاس ، فلا تأثما في أمر تسوقانه إلى من لا يأثم فيكما ، فإنَّ هذا الأمر الّذي تحاولون اليوم لغيركم غداً ، فاتَّقوا أن يكون عملكم اليوم حسرةً عليكم ، فلجَّا ، وخرجا مُغضَبين ، يقولان : لا ننسى ما صنع بنا عثمان ، وتقول : ما صنع بكما ! إلا ألزمكما الله؟ ! وقيل : الحديث كان بين ليلى بنت أسماء ، وأخويها.
وهي في ذلك تشير إلى أنَّه لما جاء أهل الأمصار وكرُّوا راجعين إلى المدينة ، بعدما كانوا ناظروا عثمان رضي الله عنه فناظرهم ، وأقام عليهم الحجَّة ، فأظهروا: أنَّهم راجعون إلى بلادهم ، ثمَّ ما لبثوا أن عادوا بدعوى : أنَّ عثمان رضي الله عنه بعث رسلاً في قتل أناسٍ كان منهم حسب دعواهم : محمَّد بن أبي بكر، ولعلَّ هذا هو ما يشير إليه محمَّد بن أبي بكر في قوله : لا ننسى ما صنع بنا عثمان . وقد نفى عثمان رضي الله عنه نسبة هذا الكتاب إليه ، وقال :
إما أن تقيموا شاهدين عليَّ بذلك ، وإلا فيميني : أنِّي ما كتبتُ ، ولا أمرتُ ، وقد يكتب على لسان الرَّجل ، ويُضرب على خطِّه ، ويُنقش على خاتمه .
لقد كانت السيدة أسماء رضي الله عنها واعية بما يجري من تدبير خفي لزعزعة أحوال المسلمين ، وتنحية عثمان رضي الله عنه عن الخلافة ، وهكذا فإن موقفها رضي الله عنها، من ابنيها، ووضوح الأمر عندها على هذا النحو الّذي جعلها لا تتأثر في مقام الأمومة ، ولا تبدو إلا مُحِقة للحق في هذا الموقف الواضح، هذا الموقف لا يستهان به ولا شك، وهو يعد صورة جلية لعدالة هؤلاء الصحابة الكرام.
ب ـ الصعبة بنت الحضرمي :
ولمَّا اشتدَّ حصار عثمان رضي الله عنه طلبت الصَّعبة بنتُ الحضرميِّ من ابنها طلحة بن عبيد الله أن يكلِّم عثمان ؛ كي يردعه عن إصراره على إسلامه نفسه دون مدافعةٍ من الصَّحابة ، واستنصارٍ بأهل الأمصار ، فقد خرجت الصَّعبة بنت الحضرميِّ، وقالت لابنها طلحة بن عبيد الله : إنَّ عثمان اشتدَّ حصره ، فلو كلَّمته ؛ حتَّى تردعه. والرِّواية يبدو منها إشفاق الصَّعبة على عثمان رضي الله عنه ، كما يبدو منها كذلك عناية أمِّ عبد الله بن رافع بالأمر ، ومتابعتها لما يجري من أحداث الفتنة ، وهي الّتي روت عن الصَّعبة بنت الحضرميِّ الحادثة .
هذا هو الموقف العامُّ لنساء المسلمين ، فقد كان موقفاً معتدلاً ، وقادراً على النَّظر السليم في المسألة رغم الغيوم ؛ الّتي كانت ملتبسةً بها ، وهو على كلِّ حال كان هذا موقف الصَّحابة جميعاً رضي الله عنهم ، وأرضاهم .

يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022