السبت

1446-06-13

|

2024-12-14

احتلال أهل الفتنة للمدينة المنورة ومحاصرتهم للخليفة عثمان

الحلقة الثالثة والخمسون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م

أولاً : قدوم أهل الفتنة من الأمصار :
اتَّفق أهل الفتنة فيما بينهم على القيام بخطوتهم العمليَّة النهائيَّة في مهاجمة عثمان في المدينة ، وحمله على التنازل عن الخلافة ، وإلا ؛ يقتل ، وقرَّروا أن يأتوا من مراكزهم الثلاثة : مصر ، والكوفة ، والبصرة في موسم الحجِّ ، وأن يغادروا بلادهم مع الحجَّاج ، وأن يكونوا في صورة الحجَّاج ، وأن يعلنوا للاخرين: أنَّهم خارجون للحجِّ ، فإذا وصلوا المدينة تركوا الحجَّاج يذهبون إلى مكَّة لأداء مناسك الحجِّ ، واستغلُّوا فراغ المدينة من معظم أهلها ـ المشغولين بالحجِّ ـ وقاموا بمحاصرة عثمان ؛ تمهيداً لخلعه ، أو قتله.
وفي شوَّال سنة خمسٍ وثلاثين كان أهل الفتنة على مشارف المدينة، فقد خرج المتمرِّدون من مصر في أربع فرق ، لكلِّ فرقةٍ أمير ، ولهؤلاء الأمراء أميرٌ، ومعهم شيطانهم عبد الله بن سبأ ، وأمراء الفرق الأربعة هم : عبد الرَّحمن بن عديس البلويُّ ، وكنانة بن بشر التَّجيبيُّ ، وسُودانُ بن حمران السَّكونيُّ ، وقتيرة بن فلان السَّكونيُّ ، وأمير هؤلاء الأمراء هو الغافقيُّ بن حرب العكيُّ ، وكان عدد الفرق الأربعة ألف رجل ، وخرج المتمرِّدون من الكوفة ألف رجلٍ في أربع فرقٍ ، وأمراء فرقهم هم : زيد بن صوحان العبديُّ ، والأشتر النَّخعيُّ ، وزياد بن النَّضر الحارثيُّ ، وعبد الله بن الأصمِّ ، وأمير متمردي الكوفة هو عمرو بن الأصمِّ .
وخرج متمردو البصرة ألف رجلٍ في أربع فرقٍ ، وأمراء فرقهم هم : حكيم بن جبلة العبديُّ ، وذريحُ بن عبَّاد العبديُّ ، وبشر بن شريح القيسيُّ ، وابن المحرِّش ابن عبد الحنقيُّ ، وأمير متمردي البصرة هو حُرقوص بن زهير السَّعديُّ ، وكان عبد الله بن سبأ يسير مع هؤلاء مزهوّاً مسروراً ، بنجاح خطَّته اليهوديَّة الشَّيطانيَّة ، وكان أهل الفتنة من مصر يريدون عليَّ بن أبي طالب خليفةً ، وكان أهل الفتنة من الكوفة يريدون الزُّبير بن العوَّام خليفةً ، وكان أهل الفتنة من البصرة يريدون طلحة ابن عبيد الله، وهذا العمل منهم كان بهدف الإيقاع بين الصَّحابة رضوان الله عليهم ، وهو ما ذهب إليه الإمام الاجريُّ ، حيث قال : وقد برأ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه وطلحة ، والزُّبير رضي الله عنهما من هذه الفرق ، وإنَّما أظهروا ؛ ليموِّهوا على النَّاس ، وليوقعوا بين الصَّحابة ، وقد أعاذ الله الكريم الصَّحابة من ذلك.
وبلغ خبر قدوم عثمان رضي الله عنه قبل وصولهم ، وكان في قريةٍ خارج المدينة، فلمَّا سمعوا بوجوده فيها ، اتَّجهوا إليه ، فاستقبلهم فيها ، ولم تصرِّح لنا الرِّوايات باسم هذه القرية ، ويحدِّد المدائنيُّ تاريخ قدومهم بليلة الأربعاء هلال ذي القعدة، وكان أوَّلَ من وصل المصريُّون ، فقالوا لعثمان : ادع بالمصحف ، فدعا به ، فقالوا : افتح السَّابعة ، وكانوا يسمُّون سورة يونس بالسَّابعة ـ فقرأ حتَّى أتى هذه الاية : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ أآلله أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ *} [ يونس : 59 ] .
فقالوا له : قف ، أرأيت ما حميت من الحمى ؟ الله أذن لك أم على الله تفتري ؟ فقال: امضه ، نزلت في كذا ، وكذا ، فأمَّا الحمى فإنَّ عمر حماه قبلي لإبل الصَّدقة، فلمَّا ولِّيت زادت إبل الصَّدقة ، فزدت في الحمى لمَّا زاد من إبل الصَّدقة ، امضه ، قال: فجعلوا يأخذونه بالاية ، فيقول : امضه ، نزلت في كذا ، فما يزيدون ، فأخذوا ميثاقه ، وكتبوا عليه شرطاً ، وأخذ عليهم ألا يشقوا عصا ، ولا يفارقوا جماعةً ما أقام لهم شرطهم ، ثمَّ رجعوا راضين.
علي بن أبي طالب يرسله عثمان للمفاوضة مع أهل الفتنة من الأمصار :
ونزل القوم في ذي المروة ، قبل مقتله بما يقارب شهراً ونصفاً ، فأرسل عثمان إليهم عليّاً رضي الله عنه ورجلاً اخر لم تسمِّه الرِّوايات ، والتقى بهم عليٌّ رضي الله عنه فقال لهم : تعطون كتاب الله ، وتعتبون من كلِّ ما سخطتم ، فوافقوا على ذلك، وفي روايةٍ : أنَّهم شادُّوه ، وشادهم مرَّتين ، أو ثلاثاً ، ثمَّ قالوا : ابن عمِّ رسول الله (ﷺ) ، ورسول أمير المؤمنين يعرض عليكم كتاب الله ! فقبلوا، فاصطلحوا على خمس : على أنَّ المنفي يُقبل ، والمحروم يُعطى ، ويوفر الفيء ، ويعدل في القسم، ويستعمل ذو الأمانة والقوَّة ، وكتبوا ذلك في كتاب ، وأن يردَّ ابن عامر على البصرة ، وأن يبقى أبو موسى على الكوفة. وهكذا اصطلح عثمان رضي الله عنه مع كل وفدٍ على حدةٍ ، ثم انصرفت الوفود إلى ديارها.
الكتاب المزعوم بقتل وفد أهل مصر :
وبعد هذا الصلح وعودة أهل الأمصار جميعاً راضين تبيَّن لمشعلي الفتنة : أنَّ خطَّتهم قد فشلت ، وأنَّ أهدافهم الدَّنيئة لم تتحقَّق ، لذا خطَّطوا تخطيطاً اخر يذكي الفتنة، ويحييها ، ويقتضي تدمير ما جرى من صلحٍ بين أهل الأمصار ، وعثمان ، رضي الله عنه ، وبرز ذلك فيما يأتي : في أثناء طريق عودة أهل مصر ، رأوا راكباً على جملٍ يتعرَّض لهم ، ويفارقهم ـ يظهر أنَّه هارب منهم ـ فكأنَّه يقول : خذوني ، فقبضوا عليه ، وقالوا له : مالك ؟ فقال : أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر ، ففتَّشوه ، فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان رضي الله عنه ، وعليه خاتمه إلى عامله ، فتحوا الكتاب فإذا فيه أمرٌ بصلبهم ، أو قتلهم ، أو تقطيع أيديهم ، وأرجلهم ، فرجعوا إلى المدينة حتَّى وصلوها، ونفى عثمان رضي الله عنه أن يكون كتب هذا الكتاب ، وقال لهم : إنَّهما اثنتان : أن تقيموا رجلين من المسلمين ، أو يمين بالله الّذي لا إله إلا هو ما كتبت ، ولا أمللت ، ولا علمت ، وقد يكتب الكتاب على لسان الرَّجل ،وينقش الخاتم . فلم يصدِّقوه.
وهذا الكتاب الّذي زعم هؤلاء المتمرِّدون البغاة المنحرفون : أنَّه من عثمان ، وعليه خاتمه يحمله غلامه على واحدٍ من إبل الصَّدقة إلى عامله بمصر ابن أبي سرح، يأمر فيه بقتل هؤلاء الخارجين هو كتاب مزوَّر مكذوبٌ على لسان عثمان ، وذلك لعدَّة أمور :
1ـ أنَّ حامل الكتاب المزوَّر قد تعرَّض لهؤلاء المصريِّين ، ثمَّ فارقهم ، وكرَّر ذلك مراراً ، وهو لم يفعل ذلك إلا ليلفت أنظارهم إليه ، ويثير شكوكهم فيه ، وكأنَّه يقول لهم: معي شيءٌ مهمٌّ بشأنكم ! وإلا فلو كان من عثمان ؛ لخافهم حامل الكتاب المزعوم، ولأبعد عنهم ، وأسرع إلى والي مصر ؛ ليضع بين يديه الأمر ، فينفذه .
2ـ كيف علم العراقيُّون بالأمر ، وقد اتَّجهوا إلى بلادهم ، وفصلتهم عن المصريين ـ الّذين أمسكوا بالكتاب المزعوم ـ مسافةٌ شاسعةٌ ، فالعراقيُّون في الشَّرق والمصريون في الغرب ، ومع ذلك عادوا جميعاً في انٍ واحدٍ ، كأنما كانوا على ميعادٍ ؟ لا يعقل هذا إلا إذا كان الّذين زوَّروا الكتاب ، واستأجروا راكباً ليحمله، ويمثِّل الدَّور في ( البُوَيْب) أمام المصريِّين ، قد استأجروا راكباً اخر انطلق إلى العراقيِّين ؛ ليخبرهم بأنَّ المصريين قد اكتشفوا كتاباً بعث به عثمان لقتل المنحرفين المصريِّين ! ! وهذا ما احتجَّ به عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه فقد قال : كيف علمتم يا أهل الكوفة ، ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر ، وقد سرتم مراحل ؛ ثمَّ طويتم نحونا؟ بل إنَّ عليّاً يجزم : هذا والله أمرٌ أبرم بالمدينة.
3ـ كيف يكتب عثمان إلى ابن أبي سرح بقتل هؤلاء ، وابن أبي سرح كان عقب خروج المتمرِّدين من مصر متَّجهين إلى المدينة كتب إلى الخليفة يستأذنه بالقدوم عليه، وقد تغلَّب على مصر محمَّد بن أبي حذيفة ، وفعلاً خرج ابن أبي سرح من مصر إلى العريش ، وفلسطين ، فالعقبة ، فكيف يكتب له عثمان بقتلهم ، وعنده كتابه الّذي يستأذن به منه بالقدوم عليه ؟
4ـ أن عثمان رضي الله عنه قد نهى عن قتل المتمرِّدين عندما حاصروه ، وأبى على الصَّحابة أن يدافعوا عنه ، ولم يأمر بقتال الخارجين دفاعاً عن نفسه ـ كما سيأتي تفصيله إن شاء الله ـ فكيف يكتب مثل هذا الكتاب المزوَّر وقد خرجوا عنه من المدينة مظهرين التَّوبة ، والإنابة .
5ـ تخلُّف حُكيم بن جَبَلة ، والأشتر النَّخعيِّ ـ بعد خروج المتمرِّدين ـ في المدينة، يشير إشارةً واضحة إلى أنَّهما هما اللَّذان افتعلا الكتاب ؛ إذ لم يكن لهما أيُّ عملٍ بالمدينة ليتخلَّفا فيها ، وما مكثا إلا لمثل هذا الغرض ، فهما صاحبا المصلحة في ذلك، وربما كان ذلك بتوجيه من عبد الله بن سبأ ، ولم يكن لعثمان رضي الله عنه في ذلك أيَّة مصلحةٍ ، وكذلك ليس لمروان بن الحكم أيَّة مصلحةٍ ، والّذين يتَّهمون مروان في هذا إنَّما ينسبون إلى الخليفة الغفلة عن مهامِّه ، وأنَّ في ديوان الخلافة من يجري الأمور ، ويقضي بها دون علمه ، وبذلك يبرِّئون ساحة أولئك المجرمين النَّاقمين الغادرين ، ثمَّ لو أنَّ مروان زوَّر الكتاب ، لكان أوصى حامل ذلك الكتاب أن يبتعد عن أولئك المنحرفين ، ولا يتعرض لهم في الطَّريق حتَّى يأخذوه وإلا ؛ لكان متامراً معهم على عثمان ، وهذا محالٌ .
6ـ إنَّ هذا الكتاب المشؤوم ليس أوَّل كتاب يزوِّره هؤلاء المجرمون ، بل زوَّروا كتباً على لسان أمَّهات المؤمنين ، وكذلك على لسان عليٍّ ، وطلحة ، والزُّبير ، فهذه عائشة رضي الله عنها تُتَّهَم بأنَّها كتبت إلى النَّاس تأمرهم بالخروج على عثمان ، فتنفي ، وتقول : لا والذي امن به المؤمنون ، وكفر به الكافرون ما كتبتُ لهم سوداء في بيضاء حتَّى جلست مجلسي هذا !
ويعقِّب الأعمش فيقول : فكانوا يرون : أنَّه كتب على لسانها ، ويتَّهم الوافدون عليّاً بأنَّه كتب إليهم أن يقدموا عليه بالمدينة ، فينكر ذلك عليهم ، ويقسم : والله ما كتبت إليكم كتاباً ! كما ينسب إلى الصَّحابة بكتابة الكتب إلى أهل الأمصار يأمرونهم بالقدوم إليهم ، فدين محمَّدٍ قد فسد ، وترك ، والجهاد في المدينة خيرٌ من الرِّباط في الثغور البعيدة، ويعلِّق ابن كثيرٍ على هذا الخبر قائلاً : وهذا كذبٌ على الصَّحابة ، وإنما كتبت كتبٌ مزوَّرة عليهم ، فقد كتب من جهة عليٍّ ، وطلحة ، والزُّبير إلى الخوارج ـ قتلة عثمان ـ كُتُبٌ مزوَّرةٌ عليهم أنكروها ، وكذلك زُوِّر هذا الكتاب على عثمان أيضاً، فإنَّه لم يأمر به ، ولم يعلم به.
ويؤكِّد كلام ابن كثير ما رواه الطَّبريُّ ، وخليفة من استنكار كبار الصَّحابة ـ عليٍّ وعائشة ، والزُّبير ـ أنفسهم لهذه الكتب في أصحِّ الرِّوايات، إنَّ الأيدي المجرمة الّتي زوَّرت الرَّسائل الكاذبة على لسان أولئك الصَّحابة ، هي نفسها الّتي أوقدت نار الفتن من أوَّلها إلى اخرها ، ورتَّبت ذلك الفساد العريض ، وهي الّتي زوَّرت وروَّجت على عثمان تلك الأباطيل ، وأنَّه فعل ، وفعل ، ولقَّنتها للناس ، حتَّى قبلها الرُّعاع ، ثمَّ زوَّرت على لسان عثمان ذلك الكتاب ؛ ليذهب عثمان ضحيةً إلى ربه شهيداً سعيداً ، ولم يكن عثمان الشَّهيد هو المجنيُّ عليه وحده في هذه المؤامرة السَّبئيَّة اليهوديَّة ، بل الإسلام نفسه كان مجنيّاً عليه قبل ذلك ، ثمَّ التاريخ المشوَّه المحرَّف ، والأجيال الإسلاميَّة الّتي تلقَّت تاريخها مشوَّهاً ، هي كذلك ممَّن جنى عليهم الخبيث اليهوديُّ ، وأعوانه من أصحاب المطامع ، والشَّهوات ، والحقد الدَّفين ، أما ان للأجيال الإسلاميَّة أن تعرف تاريخها الحقَّ ، وسير رجالاتها العظام ؟ بل ألم يأن لمن يكتب في هذا العصر ـ من المسلمين ـ أن يخاف الله ، ولا يتجرَّأ على تجريح الأبرياء قبل أن يحقِّق ، ويدقِّق حتَّى لا يسقط ، كما سقط غيره.
ثانياً : بدء الحصار ورأي عثمان في الصَّلاة خلف أئمَّة الفتنة :
لم تفصِّل الرِّوايات الصَّحيحة كيفية بدء الحصار ، ووقوعه ، ولعلَّ الأحداث الّتي سبقته تلقي شيئاً من الضَّوء على كيفية بدئه ، فبينما كان عثمان رضي الله عنه يخطب النَّاس ذات يومٍ إذا برجلٍ يقال له : أعين ، يقاطعه ، ويقول له : يا نعثل! إنَّك قد بدَّلت ، فقال عثمان رضي الله عنه : من هذا ؟ فقالوا : أعين ، قال عثمان : بل أنت أيُّها العبد ! فوثب الناس إلى أعين ، وجعل رجلٌ من بني ليث يزعهم عنه حتَّى أدخله الدَّار، وكان رجوع المتمرِّدين الثاني ، وقبل اشتداد الحصار كان عثمان رضي الله عنه يتمكَّن من الخروج للصَّلاة ، ودخول من شاء إليه ، ثمَّ منع الخروج من الدَّار حتى إلى صلاة الفريضة ، فكان يصلِّي بالناس رجلٌ من المحاصرين ، من أئمَّة الفتنة ، حتَّى إنَّ عبيد الله بن عديٍّ بن الخيار تحرَّج من الصَّلاة خلفه ، فاستشار عثمان في ذلك؛ فأشار عليه بأن يصلِّي خلفه ، وقال له : الصَّلاة أحسن ما يعمل النَّاس ، فإذا أحسن النَّاس ، فأحسن معهم ، وإذا أساؤوا ، فاجتنب إساءتهم .
وفي بعض الرِّوايات الضَّعيفة : أنَّ الّذي كان يصلِّي بالنَّاس هو أميرهم الغافقيُّ ، ولا صحَّة لما روى الواقديُّ من أنَّ علياً رضي الله عنه أمر أبا أيوب الأنصاريَّ أن يصلِّي بالنَّاس ، فصلَّى بهم أوَّل الحصر ، ثم صلَّى عليٌّ رضي الله عنه بهم العيد ، وما بعده ، وإضافة إلى شدَّة ضعف إسناد هذه الرِّواية ، فلو كان الّذي يصلِّي بالنَّاس هو عليٌّ ، أو أبو أيُّوب الأنصاريُّ رضي الله عنهما لما تحرج عبيد الله بن عديِّ بن الخيار من الصَّلاة خلفهما .
ثالثاً : المفاوضات بين عثمان ومحاصريه :
وبعد أن تمَّ الحصار ، وأحاط الخارجون بدار عثمان رضي الله عنه وطلبوا منه خلع نفسه ، أو يقتلوه ، ورفض عثمان رضي الله عنه خلع نفسه ، وقال : لا أخلع سربالاً سربلنيه الله ، يشير إلى ما أوصاه به رسول الله (ﷺ) ، بينما كان قلَّةٌ من الصَّحابة ـ رضوان الله عليهم ـ يرون خلاف ما ذهب إليه ، وأشار عليه بعضهم بأن يخلع نفسه ليعصم دمه ، ومن هؤلاء المغيرة بن الأخنس ، رضي الله عنه ، لكنَّه رفض ذلك .
1ـ ابن عمر يحثُّ عثمان على عدم التَّنازل عن منصب الخلافة :
دخل ابن عمر على عثمان رضي الله عنهما أثناء حصاره ، فقال له عثمان رضي الله عنه : انظر إلى ما يقول هؤلاء ، يقولون : اخلعها ولا تقتل نفسك ، فقال ابن عمر رضي الله عنهما : إذا خلعتها أمخلَّدٌ أنت في الدُّنيا ؟ فقال عثمان رضي الله عنه : لا ! قال : فإن لم تخلعها هل يزيدون على أن يقتلوك؟ قال عثمان: لا! قال: فهل يملكون لك جنَّة أو ناراً؟ قال: لا! قال : فلا أرى لك أن تخلع قميصاً قمَّصكه الله، فتكون سنَّةً كلَّما كره قومٌ خليفتهم، أو إمامهم؛ قتلوه .
رضي الله عن عبد الله بن عمر ، ما كان أبعد نظره ، إنَّه لا يريد أن يسنَّ عثمان سنَّةً سيئةً للخلفاء ـ وحاشا لعثمان أن يفعل ـ فلو تنازل عثمان لهؤلاء الخوارج السَّبئيِّين، وخلع نفسه ، لصار الخلفاء ألعوبةً وملهاةً بأيدي الطَّامعين ، أو المغرضين، وبذلك تهتزُّ صورة الخليفة ، وتزول هيبته عند النَّاس ، ولقد سنَّ عثمان سنَّة حسنةً لمن بعده بمشورة ابن عمر ، وغيره من الصَّحابة ، رضوان الله عليهم ، حيث صبر ، واحتسب، فلم يتنازل عن الخلافة ، ولم يسفك دماء المسلمين .
إنَّ الاستجابة لمطالب المتمرِّدين ـ وهم فئة قليلةٌ من الأمَّة ـ ليسوا من أهل الحلِّ والعقد ، ولا من رجالات الإسلام ، وفقهاء الشَّريعة ستكون لها اثارٌ خطيرةٌ على مسيرة الأمَّة ، وهيبة الخلافة ، وعلاقة الرَّاعي بالرَّعيَّة ، وكان ثمن دفع هذه الاثار السَّيِّئة أن دفع الخليفة حياته ، وهو يعلم بمصيره ، ويستسلم له ، وهو أمرٌ ثقيل على النَّفس ، ولكنَّه قدَّم مصالح الأمَّة على مصلحته الشَّخصيَّة ، ممَّا يكشف عن قوَّةٍ ، وعزيمةٍ ، وشجاعةٍ ، ومضاءٍ ، ويردُّ به على تلك التُّهم الّتي وجِّهت إليه من ضعفٍ في هذه الصفات ، فإنَّه رضي الله عنه كان قادراً بإذن الله على كبح الفتنة ، ولكنَّه قدَّر حدوث مفاسد تغلب على مصلحة كبحها ، فأعرض عن ذلك درءاً لها ، وبذلك يُعلم خطأ العقَّاد عندما قال بأن قتل عثمان : لا يوصف بأكثر من أنَّه ( مشاغبةٌ دهماء ) لم تجد من يكبحها ، فإنَّ في ذلك غمزاً في شخصيَّة ، وشجاعة عثمان رضي الله عنه ، وهي حقّاً فتنةٌ دهماء ، ولكن عدم كبحها يعدُّ منقبةً لعثمان رضي الله عنه ؛ لما فيه من تضحيةٍ في سبيل الله ، رجاء تحصيل مصلحةٍ للأمَّة ، وعملاً بوصيَّة رسول الله (ص .
2ـ توعُّد المحاصرين له بالقتل :
وبينما كان عثمان رضي الله عنه في داره ، والقوم أمام الدَّار محاصروها ؛ دخل ذات يوم مدخل الدَّار ، فسمع توعُّد المحاصرين له بالقتل ، فخرج من المدخل، ودخل على من معه في الدَّار ، ولونه ممتقعٌ ، فقال : إنَّهم ليتوعَّدونني بالقتل انفاً ! فقالوا له : يكفيكهم الله يا أمير المؤمنين ! فقال : ولم يقتلونني ؟ وقد سمعت رسول الله (ﷺ) يقول: « لا يحلُّ دم امرأى مسلمٍ إلا في إحدى ثلاث : رجلٍ كفر بعد إيمانه، أو زنى بعد إحصانه ، أو قتل نفساً بغير نفسٍ » فوالله ما زنيت في جاهليةٍ ، ولا في إسلام قطُّ ، ولا تمنَّيت أن لي بديني بدلاً منذ هداني الله ، ولا قتلت نفساً ، ففيم يقتلونني؟!
ثمَّ أشرف على المحاصرين ، وحاول تهدئة ثورتهم ، وثنيهم عن خروجهم على إمامهم ، مضمِّناً كلمة الردِّ على ما عابوه به ، وكشف الحقائق الّتي لبَّسها القوم ، عسى أن يفيق المغرَّر بهم ، ويعودوا إلى رشدهم ، فطلب من المحاصرين أن يخرجوا له رجلاً يكلِّمه ، فأخرجوا له شابّاً يقال له : صعصعة بن صوحان ، فطلب عثمان رضي الله عنه أن يبيِّن له ما نقموه عليه.
3ـ إقامة عثمان الحجَّة على زيف استدلال صعصعة :
قال صعصعة : أُخرجنا من ديارنا بغير حقٍّ إلا أن قلنا : ربُّنا الله . فقال له عثمان رضي الله عنه : اتل ؛ أي : استدلَّ بالقرآن ، فقرأ : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ *} [الحج : 39 ] . فقال عثمان : ليست لك ، ولا لأصحابك ، ولكنَّها لي ولأصحابي ، فقرأ عثمان الاية الّتي استدل بها صعصعة ، وما بعدها ممَّا يفسرها ، ويبين زيف استدلال صعصعة بها فتلا : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ *الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ *الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ *} [الحج : 39 ـ 41 ] .
فأفهم عثمان رضي الله عنه النَّاس الايات فهماً صحيحاً ، كما نزلت ؛ مبيِّناً سبب نزولها ، وفيمن نزلت ، وعلى ما تدلُّ ؛ لئلا يلبِّس عليهم مَنْ قرأ القران ، وهو لا يعرف معناه ، ويستدلُّ به على ما يضادُّ مراده، كما أنَّ نفي عثمان لمن نفاه إنَّما هو عملٌ بالاية الّتي تلي الاية التي استدلَّ بها صعصعة ، فإنَّها تأمر من مكَّنه الله في الأرض ، أن يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، وعثمان خليفة ، ونفيهم أمرٌ بالمعروف ، ونهيٌ عن المنكر لما قاموا به من تعدٍّ على بعض المسلمين ، ومن محاولاتٍ لإثارة الفتنة.
4ـ تذكير عثمان رضي الله عنه النَّاس بفضائله :
وبعد أن ردَّ عثمان رضي الله عنه على هؤلاء ، ذكَّر النَّاس بمكانته ، وببعض فضائله مناشداً من يعلمها ، أو سمعها من رسول الله (ﷺ) ليبيِّنها للنَّاس ، فقد قال : أنشد الله مَنْ شهد رسول الله (ﷺ) يوم حراء ؛ إذ اهتزَّ الجبل ، فركله بقدمه ، ثمَّ قال : « اسكن حراء ليس عليك إلا نبيٌّ ، أو صدِّيقٌ ، أو شهيدٌ » وأنا معه، فانتشد له رجالٌ. ثمَّ قال : أنشد الله مَن شَهد رسول الله يوم بيعة الرِّضوان ؛ إذ بعثني إلى المشركين إلى أهل مكَّة فقال : هذه يدي ، وهذه يد عثمان ، فبايع لي ، فانتشد له رجالٌ. ثمَّ قال : أنشد الله مَنْ شهد رسول الله (ﷺ) قال : « من يوسِّع لنا لهذا البيت في المسجد ببيتٍ له في الجنَّة » فابتعته من مالي ، فوسَّعت به المسجد . فانتشد له رجالٌ . ثمَّ قال : أنشد الله مَنْ شهد رسول الله (ﷺ) يوم جيش العسرة ، قال : « من ينفق اليوم نفقةً متقبلة ؟ » فجهزت نصف الجيش من مالي . فانتشد له رجالٌ . ثمَّ قال : أنشد الله مَنْ شهِد رومةً يباع ماؤها ابن السبيل ، فابتعتها من مالي ، فأبحتها ابن السَّبيل ، قال : فانتشد له رجالٌ.
وعن أبي ثورٍ الفهمي يقول : قدِمت على عثمان ، فبينا أنا عنده ، فخرجت فإذا بوفد أهل مصر قد رجعوا ، فدخلت على عثمان ، فأعلمته ، قال : فكيف رأيتهم ؟ فقلت: رأيتُ في وجوههم الشَّرَّ ، وعليهم ابن عُديس البلويُّ ، فصعد ابن عُديس منبر رسول الله (ﷺ) فصلَّى بهم الجمعة ، وتنقَّص عثمان في خطبته ، فدخلت على عثمان، فأخبرته بما قال فيهم ، فقال : كذب والله ابن عديس ! ولولا ما ذكر ما ذكرت ، إنِّي رابع أربعةٍ في الإسلام ، ولقد أنكحني رسول الله (ﷺ) ابنته ، ثمَّ تُوفِّيت ، فأنكحني ابنته الأخرى ، ولا زنيت ، ولا سرقت في جاهلية ، ولا إسلام ، ولا تغنَّيت ، ولا تمنَّيت الكفر منذ أسلمت ، ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله ، ولقد جمعت القران على عهد رسول الله ، ولا أتت عليَّ جمعة إلا وأنا أعتق فيها رقبةً منذ أسلمت ، إلا أن لا أجدها في تلك الجمعة ، فأجمعها في الجمعة الثَّانية.
ولمَّا رأى عثمان رضي الله عنه إصرار المتمرِّدين على قتله ، حذَّرهم من ذلك، ومن مغبَّته ، فاطَّلع عليهم من كُوَّةٍ، وقال لهم : أيُّها النَّاس ، لا تقتلوني ، واستعتبوني، فوالله لئن قتلتموني لا تقاتلوا جميعاً أبداً ! ولا تجاهدوا عدوّاً أبداً ، لتختلفنَّ حتَّى تصيروا هكذا . وشبَّك بين أصابعه.
وفي روايةٍ : أنَّه قال : أيها النَّاس لا تقتلوني ، فإنِّي والٍ وأخٌ مسلمٌ ، فوالله إن أردت إلا الإصلاح ما استطعت ، أصبت ، أو أخطأت ، وإنَّكم إن تقتلوني لا تصلُّوا جميعاً أبداً ، ولا تغزوا جميعاً أبداً ، ولا يقسم فيئكم بينكم .
وقال أيضاً : فوالله لئن قتلوني لا يحابُّون بعدي أبداً ، ولا يقاتلون بعدي عدوّاً أبداً. وقد تحقَّق ما حذرهم منه ، فبعد قتله وقع كلُّ ما قاله رضي الله عنه ، وفي ذلك يقول الحسن البصريُّ : فوالله إنْ صلَّى القوم جميعاً إنَّ قلوبهم لمختلفةٌ.

يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022