الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

سياسة عثمان رضي الله عنه في التَّعامل مع الفتنة

الحلقة الواحدة والخمسون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م

 

من خلال النُّصوص التَّاريخيَّة في العديد من المصادر يتَّضح : أنَّ عثمان رضي الله عنه قد واجه الفتنة بعددٍ من الأساليب ، وهي :

أولاً : رأي بعض الصَّحابة بأن يرسل عثمان لجان تفتيشٍ ، وتحقيقٍ :

اهتزَّ محمَّد بن مسلمة ، وطلحة بن عبيد الله ، وغيرهما لما سمعوا من الإشاعات الّتي بثها عبد الله بن سبأ في الأمصار ، فدخلوا على أمير المؤمنين عثمان على عجلٍ، وقالوا : يا أمير المؤمنين ! أيأتيك عن النَّاس الّذي يأتينا ؟ قال : لا والله ! ما جاءني إلا السَّلامة . قالوا : فإنَّا قد أتانا ، وأخبروه بما تناهى لسمعهم عن الفتنة الّتي تموج بها الأمصار الإسلاميَّة ، وعن الهجوم الشَّرس على ولاته في كل صقع . وقال : أنتم شركائي ، وشهود المؤمنين ؛ فأشيروا عليَّ ! قالوا : نشير عليك أن تبعث رجالاً ممَّن تثق بهم إلى الأمصار حتَّى يرجعوا إليك بخبرهم.

فقام عثمان بإجراءٍ سديدٍ عظيمٍ ، وتخيَّر نفراً من الصَّحابة ، لا يختلف اثنان في صدقهم ، وتقواهم ، وورعهم ، ونصحهم ، اختار محمَّد بن مسلمة الّذي كان عمر يأتمنه على محاسبة ولاته ، والتَّفتيش عليهم في الأقاليم ، وأسامة بن زيد حبَّ رسول الله (ص) ، وابن حبِّه ، وأمير الجيش الّذي أوصى النَّبيّ (ص) بإنفاذه في اخر عهده بالدُّنيا ، فقال (ص) : « أنفذوا بعث أسامة » ، وعمَّار بن ياسر ، السَّبَّاق إلى الإسلام ، والمجاهد العظيم ، وعبد الله بن عمر ، التَّقيَّ الفقيه الورع ، فأرسل محمَّد بن مسلمة إلى الكوفة ، وأسامة إلى البصرة ، وعمَّاراً إلى مصر ، وابن عمر إلى الشَّام ، وكانوا على رأس جماعةٍ ، فأرسلهم إلى تلك الأمصار الكبيرة ، فمضوا جميعاً إلى عملهم الشَّاقِّ المضني الخطير العظيم ، ثمَّ عادوا جميعاً عدا عمَّار بن ياسر الّذي استبطأ في مصر ، ثمَّ عاد ، وقدَّموا بين يدي أمير المؤمنين ما شاهدوه ، وسمعوه ، وسألوا النَّاس عنه، وكان ما جاء به هؤلاء واحداً في كلِّ الأمصار ، وقالوا : أيُّها النَّاس ! ما أنكرنا شيئاً ! ولا أنكر المسلمون إلا أنَّ أمراءهم يقسطون بينهم ، ويقومون عليهم. وأمَّا ما روي من اتِّهام عمَّار بن ياسر رضي الله عنه ـ بالتأليب على عثمان رضي الله عنه فإنَّ أسانيد الرِّوايات الّتي تتضمَّن هذه التُّهمة ضعيفةٌ ، لا تخلو من علَّةٍ ، كما أنَّ في متونها نكارةً.

رجع مفتشو الأمصار ، واتَّضح بأنه ليس هناك ما يوجب على الخليفة أن يعزل واحداً من ولاته ، والنَّاس في عافيةٍ ، وعدلٍ ، وخيرٍ ، ورحمةٍ ، واطمئنانٍ ، وأمير المؤمنين يعدل في القضيَّة ، ويقسم بالسَّويَّة ، ويرعى حقَّ الله وحقوق الرَّعيَّة ، وما يثار هو شكوكٌ ، وأراجيف ، وأكاذيب يبثُّها الحاقدون في الظُّلمات ؛ لكي لا يُعرف مصدرها ، ولكنَّ الخليفة البارَّ الرَّاشد العظيم لم يكتف بهذا ، بل كتب إلى أهل الأمصار.

ثانياً : كتب إلى أهل الأمصار كتاباً شاملاً بمثابة إعلان عامٍّ لكلِّ المسلمين :

أمَّا بعد : فإنِّي اخذ العمال بموافاتي في كلِّ موسمٍ ، وقد سلَّطت الأمَّة منذ وليت على الأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر ، فلا يُرفع عليَّ شيءٌ ، ولا على أحدٍ من عمَّالي إلا أعطيته ، وليس لي، ولعيالي حقٌّ قبل الرَّعيَّة إلا متروكٌ لهم، وقد رفع إلى أهل المدينة: أنَّ أقواماً يُشتَمون ، واخرون يُضرَبون، فيا مَنْ ضُرِبَ سرّاً، وشُتم سرّاً، من ادَّعى شيئاً من ذلك ؛ فليواف الموسم ، فليأخذ بحقِّه حيث كان ، منِّي، أو من عمَّالي ، أو تصدقوا ، فإنَّ الله يجزي المتصدِّقين . فلمَّا قرأى في الأمصار أبكى النَّاس، ودعوا لعثمان ، وقالوا : إنَّ الأمَّة لتَمخَّضُ بشرٍّ.

فهل تريد الدُّنيا أن تسمع بحزمٍ ، وعزمٍ أعلى ، وأشمخ من هذا الحزم ، والعزم من رجلٍ زاد سنُّه عن اثنتين وثمانين سنةً ، وهو في هذه الفورة ، والقوَّة من المتابعة والتَّنقيب عن المظالم ؟ أم هل يريد النَّاس أن يروا عدلاً أرفع ، وأسمى من هذا العدل والإنصاف ، حتَّى إنَّ حقَّ أمير المؤمنين الشَّخصي متروكٌ لرعيَّته ، ما دام حقُّ الله قائماً وحدوده مرعيَّةً ؟ نعم عند عثمان ، الّذي لم يقف عند ذلك ، ولم يكتف بأن أرسل أمناءه للتفتيش عن أحوال النَّاس ، وكتابته من ثمَّ إلى أهل الأمصار بأن يأتوا موسم الحجِّ ليرفعوا شكاتهم ـ إن كانت لهم ـ أمام جموع الحجيج ، ولم يكتف عثمان بذلك كلِّه، بل بعث إلى عمَّال الأمصار أنفسهم ؛ ليواجهوا النَّاس عندما يرفعون مظالمهم ـ إن وجدت ـ ثمَّ ليسألهم أمير المؤمنين عما يتناقله النَّاس ، وليشيروا عليه بالرَّأي النَّاصح السَّديد الرَّشيد.

ثالثاً : مشورة عثمان لولاة الأمصار :

بعث عثمان رضي الله عنه إلى ولاة الأمصار واستدعاهم على عجلٍ : عبد الله ابن عامر ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعبد الله بن سعد ، وأدخل معهم في المشورة سعيد بن العاص ، وعمرو بن العاص ـ وهم من الولاة السَّابقين ـ : وكانت جلسةً مغلقةً وخطيرةً ، جرت فيها الأبحاث التَّالية الّتي تقرِّر خطَّة العمل الجديدة في ضوء الأخبار المتناهية إلى المدينة عاصمة دولة الإسلام، قال عثمان : ويحكم ! ما هذه الشِّكاية ؟ وما هذه الإذاعة ؟ إنِّي والله لخائف أن يكون مصدوقاً عليكم ، وما يعصب هذا إلا بي. فقالوا له : ألم تبعث ؟ ألم يرجع إليك الخبر عن القوم ، ألم يرجعوا ولم يشافههم أحد بشيءٍ؟ لا والله ما صدقوا ، ولا برُّوا ، ولا نعلم لهذا الأمر أصلاً ، وما كنت لتأخذ به أحداً فيضمنك على شيءٍ ، وما هي إلا إذاعةٌ لا يحلُّ الأخذ بها ، ولا الانتهاء إليها ! قال : فأشيروا عليَّ . فقال سعيد بن العاص : هذا أمرٌ مصنوعٌ يُصنع في السِّرِّ ، فيُلقي به غير ذي معرفةٍ ، فيخبر به ، فيُتحدث به في مجالسهم . قال : فما دواء ذلك ؟ قال : طلب هؤلاء القوم ، ثمَّ قتل هؤلاء الّذي يخرج هذا من عندهم .

وقال عبد الله بن سعد : خذ من النَّاس الّذي عليهم إذا أعطيتهم الّذي لهم ؛ فإنَّه خير من أن تدعهم . قال معاوية : قد ولَّيتني ، فوليت قوماً لا يأتيك عنهم إلا الخير ، والرَّجلان أعلم بناحيتهما ، قال : فما الرأي ؟ قال : حسن الأدب ، قال : فما ترى يا عمرو ؟ ! قال : أرى أنَّك قد لنت لهم ، وتراضيت عنهم ، وزدتهم عمَّا كان يصنع عمر ، فأرى أن تلزم طريقة صاحبك ، فتشدَّ في موضع الشِّدَّة ، وتلين في موضع اللِّين، إنَّ الشِّدَّة تنبغي لمن لا يألوا النَّاس شرّاً ، واللِّين لمن يخلف النَّاس بالنُّصح ، وقد فرشتهما جميعاً اللِّين .

وقام عثمان ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، وقال : كل ما أشرتم به عليَّ قد سمعت ، ولكلِّ أمرٍ باب يؤتى منه ، إنَّ هذا الأمر الّذي يُخاف على هذه الأمَّة كائنٌ ، وإنَّ بابه الّذي يُغلق عليه ، فيُكفكف به اللِّين ، والمؤاتاة ، والمتابعة ، إلا في حدود الله تعالى ذكره ، الّتي لا يستطيع أحدٌ أن يبادي بعيب أحدها ، فإن سدَّه شيءٌ فرفق ، فذاك والله ليُفتحنَّ ، وليست لأحدٍ عليَّ حجَّة حقٍّ ، وقد علم الله أنِّي لم ال الناس خيراً ، ولا نفسي. ووالله إنَّ رحا الفتنة لدائرةٌ ، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحرِّكها ! كفكفوا النَّاس ، وهبوا لهم حقوقهم ، واغتفروا لهم ، وإذا تعوطيت حقوق الله ؛ فلا تُدهِنوا فيها.

لقد خالف عثمان رضي الله عنه رأي أخيه عمرو باتِّباع الشِّدَّة ، ولم يخالف في اتِّباع سنَّة صاحبيه ، فرحى الفتنة دائرةٌ ، ولا تعالج بالعنف ؛ لأنَّ العنف هو الّذي يدير هذه الرَّحى ، ولن يرضى أمير المؤمنين أن يكون صاحبها ، ( فطوبى لعثمان إن مات، ولم يحركها ! ) وكان واضحاً صريحاً رضي الله عنه فيما لا هوادة فيه ، وهي حدود الله ، فلا مداهنة فيها ، وما غير ذلك فالرِّفق أولى ، والمغفرة أفضل ، ولا بدَّ من تأدية الحقوق كلِّها.

وقد جاءت رواياتٌ بسندٍ فيه ضعيفٌ ، ومجهولون تشوِّه العلاقة بين عمرو بن العاص ، وعثمان رضي الله عنهما وساهمت رواياتٌ ساقطةٌ في مسخ صورة عمرو بن العاص رضي الله عنه وتحويل علاقته بعثمان رضي الله عنه إلى علاقة فاتكٍ خطَّط لقتل أميره ، ثم عاد بانتهازيَّة ليطالب بدمه، وهذه الرِّواية ضعيفةٌ ، ومرفوضةٌ عند أهل التَّاريخ ، وأهل الحديث، وقد جاء في روايةٍ بسندٍ فيها ضعفاء ، ومجهولون أيضاً بأنَّ عمرو بن العاص قال : يا عثمان ! إنَّك قد ركبت النَّاس بمثل بني أميَّة ، فقلت : وقالوا ، وزغت ، وزاغوا ، فاعتدل ، أو اعتزل ، فإن أبيت فاعتزم عزماً ، وامضِ قدماً، وجاء في نفس الرِّواية : أنَّ عبد الله بن عامر قال : أرى لك أن تجمرهم في هذه البعوث حتَّى يهمَّ كلُّ رجلٍ منهم قمل فروة رأسه ، ودبر دابته ، وتشغلهم عن الإرجاف بك.

إنَّ عثمان رضي الله عنه منع الولاة من التَّنكيل بمثيري الشَّغب ، وحبسـهم ، أو قتلهم ، وقرَّر أن يعاملهم بالحسنى ، واللِّين، وطلب من عماله أن يعـودوا إلى أعمالهم، وفق ما أعلنـه لهم من أسـلوب مواجهة الفتنة الّتي كان كلُّ بصيرٍ يرى أنَّها قادمةٌ.

1ـ اقتراحان لمعاوية يرفضهما عثمان رضي الله عنهما :

قبل أن يتوجه معاوية بن أبي سفيان إلى الشَّام أتى إلى عثمان وقال له : يا أمير المؤمنين ! انطلق معي إلى الشَّام ، قبل أن يهجم عليك من الأمور والأحداث ما لا قِبَل لك بها .

قال عثمان : أنا لا أبيع جوار رسول الله (ص) بشيءٍ ، ولو كان فيه قطعُ خيط عنقي. قال له معاوية : إذاً أبعث لك جيشاً من أهل الشَّام ، يقيم في المدينة ، لمواجهة الأخطار المتوقَّعة ؛ ليدافع عنك ، وعن أهل المدينة ، قال عثمان : لا حتى لا أقتِّر على جيران رسول الله (ص) الأرزاق ، بجندٍ ، تساكنهم ، ولا أضيِّق على أهل الهجرة والنُّصرة . قال له معاوية : يا أمير المؤمنين ! والله لتُغتالنَّ ، أو لتُغزينَّ . قال عثمان : حسبي الله ونعم الوكيل!

لكأنَّما معاوية رضي الله عنه كان يعلم : أنَّ وراء تلك الفتن ، والشَّائعات يداً خبيثةً تخطِّط لهدفٍ مرهوبٍ ليس دونه ضرب الخليفة ، والخلافة ؛ لكن عثمان الخليفة الرَّاشد كان له رأيٌ اخر ، فهو يريد أن يسير مع هؤلاء لاخر الطَّريق حتَّى لا يترك لهم حجَّةً عند الله ولا عند النَّاس ، فيفضحهم في الدُّنيا ، والآخرة ، وتلك مصابرةٌ عظيمةٌ من هذا الإمام العادل العظيم.

2ـ عثمان يخترق صفوف المتامرين بعد مجيئهم للمدينة :

كان أمير المؤمنين عثمان من اليقظة والوعي ما يجعله يحقِّق بقلم استخباراته مع هؤلاء المتامرين ؛ حيث بثَّ في صفوفهم رجلين من المسلمين كانا قد عوقبا من الخليفة ليطمئن المتامرون إليهم ، فقد أرسل عثمان رجلين ، مخزوميّاً ، وزهريّاً ، فقال : انظرا ما يريدون ، واعلما علمهم ، وكانا ممَّا نالهما من عثمان أدبٌ ، فاصطبرا للحقِّ ولم يضطغنا فلمَّا رأوهما باثُّوهما ، وأخبروهما بما يريدون ، فقالا : مَنْ معكم على هذا من أهل المدينة ؟ قالوا : ثلاثة نفر ، فقالا : هل إلا ؟ قالوا: لا . قالا : فكيف تريدون أن تصنعوا ؟ وشرح هؤلاء القوم للرَّجلين أبعاد المؤامرة كاملةً والخطَّة المقترحة ، وقالوا : نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب النَّاس ، ثم نرجع إليهم ، فنزعم لهم أنا قرَّرناه بها ، فلم يخرج ، ولم يتب ، ثمَّ نخرج كأنَّا حجَّاج حتى نقدم ، فنحيط به ، فنخلعه ، فإن أبى ؛ قتلناه ، وكانت إيَّاها ، فرجعا إلى عثمان ، فضحك ، وقال : الّلهمَّ سلم هؤلاء فإنَّك إن لم تُسلِّمهم ؛ شقوا . فأرسل إلى الكوفيين ، والبصريين ، ونادى : الصَّلاة جامعة ! وهم عنده في أصل المنبر ، فأقبل أصحاب رسول الله (ص) حتَّى أحاطوا بهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، وأخبرهم خبر القوم ، وحقيقة ما يريدون ، من تأكيد الشُّبهات عليه تمهيداً للخروج عليه ، وخلعه ، أو قتله ، وقام الرجلان اللَّذان حادثا السَّبئيِّين ، فشهدا بما أخبروهما به . فقال المسلمون جميعاً في داخل المسجد : اقتلهم يا أمير المؤمنين ! لأنَّهم يريدون الخروج على أمير المؤمنين، وتفريق كلمة المسلمين ، ورفض عثمان رضي الله عنه دعوة الصَّحابة لقتلهم ؛ لأنَّهم مسلمون ـ في الظاهر ـ من رعيته ، ولا يرضى أن يقال : عثمان يقتل مسلمين مخالفين له ؛ ولذلك ردَّ عثمان بن عفَّان على تلك الدَّعوة قائلاً : لا نقتلهم ، بل نعفو ، ونصفح ، ونبصِّرهم بجهدنا ، ولا نقتل أحداً من المسلمين ، إلا إذا ارتكب حدّاً يوجب القتل ، أو أظهر ردَّة ، وكفراً.

رابعاً : إقامة الحجَّة على المتمرِّدين :

ثمَّ دعا عثمان القوم السَّبئيِّين إلى عرض ما عندهم من شبهاتٍ ، وإظهار ما يرونه من أخطاءٍ ، وتجاوزاتٍ ، ومخالفات وقع هو فيها ، وكانت جلسة مصارحةٍ، ومكاشفةٍ في المسجد على مرأى ومسمع من الصَّحابة والمسلمين ، فتكلَّم السَّبئيُّون، وعرضوا الأخطاء الّتي ارتكبها عثمان ـ على حدِّ زعمهم ـ وقام عثمان رضي الله عنه بالبيان ، والإيضاح ، وقدَّم حججه ، وأدلَّته فيما فعل ، والمسلمون المنصفون يسمعون هذه المصارحة ، والمحاسبة ، والمكاشفة ، وأورد عثمان ما أخذوه عليه ، ثمَّ بيَّن حقيقة الأمر ، ودافع عن حُسن فعله وأشهد معه الصَّحابة الجالسين في المسجد.

1ـ قال : قالوا : إنِّي أتممت الصَّلاة في السَّفر ، وما أتمَّها قبلي رسول الله ، ولا أبو بكرٍ ، ولا عمر . لقد أتممت الصَّلاة لمَّا سافرت من المدينة إلى مكَّة ، ومكَّة بلدٌ فيه أهلي ، فأنا مقيمٌ بين أهلي ، ولست مسافراً أليس كذلك ؟ فقال الصَّحابة : اللَهم نعم!

2ـ وقالوا : إنِّي حميتُ حمىً ، وضيِّقتُ على المسلمين ، وجعلت أرضاً واسعةً، خاصَّة لرعي إبلي ! ولقد كان الحمى قبلي ، لإبل الصَّدقة ، والجهاد ، حيث جعل الحمى كلٌّ من رسول الله ، وأبو بكرٍ ، وعمر ، وأنا زدت فيه لمَّا كثرت إبل الصَّدقة، والجهاد ، ثمَّ لم نمنع ماشية فقراء المسلمين من الرَّعي في ذلك الحمى ، وما حميت لماشيتي ! ولمَّا ولِّيت الخلافة كنت من أكثر المسلمين إبلاً ، وغنماً ، وقد أنفقتها كلَّها ، وما لي الان ثاغيةٌ ولا راغيةٌ ، ولم يبقَ لي إلا بعيران ، خصَّصتهما لحجِّي ! أليس كذلك ؟ فقال الصَّحابة : اللَهمَّ نعم !

3ـ وقالوا : إنِّي أبقيت نسخةً واحدةً من المصاحف ، وحرَّقت ما سواها ، وجمعت النَّاس على مصحفٍ واحدٍ ! ألا إن القران كلام الله ، من عند الله ، وهو واحدٌ ، ولم أفعل سوى أن جمعت المسلمين على القران ، ونهيتهم عن الاختلاف فيه ، وأنا في فعلي هذا تابعٌ لما فعله أبو بكر ، لمَّا جمع القران ! أليس كذلك ؟ فقال الصَّحابة : اللَهمَّ نعم !

4ـ وقالوا: إنِّي رددت الحكَم بن أبي العاص إلى المدينة، وقد كان رسول الله (ص) نفاه إلى الطَّائف! إنَّ الحكم بن العاص مكِّيٌّ، وليس مدنيّاً، وقد سيَّره رسول الله (ص) من مكَّة إلى الطَّائف ، وأعاده الرسول (ص) إلى مكَّة بعدما رضي عنه ، فالرَّسول (ص) سيَّره إلى الطَّائف، وهو الذي ردَّه وأعاده! أليس كذلك؟ فقال الصَّحابة: الّلهمَّ نعم!

5ـ وقالوا : إني استعملت الأحداث ،ووليت الشَّباب صغار السِّنِّ ! ولم أُوَلِّ إلا رجلاً فاضلاً محتملاً مرضيّاً ، وهؤلاء النَّاس أهل عملهم ، فسَلوهم عنهم . ولقد ولَّى الّذين مِنْ قبلي من هم أحدث منهم، وأصغر منهم سنّاً، ولقد ولَّى رسول الله (ص) أسامة بن زيدٍ ،وهو أصغر ممَّن ولَّيته ، وقالوا لرسول الله (ص) أشدَّ ممَّا قالوا لي ؛ أليس كذلك ؟ قال الصَّحابة : اللَُهمَّ نعم ! إنَّ هؤلاء النَّاس يعيبون للنَّاس ما لا يفسِّرونه ، ولا يوضِّحونه .

6ـ وقالوا : إنِّي أعطيت عبد الله بن سعد بن أبي سرح ما أفاء الله به ، وإنما أعطيته خُمس الخمس ـ وكان مئة ألف ـ لمَّا فتح إفريقية ، جزاء جهاده ، وقد قلت له: إن فتح الله عليك إفريقية ؛ فلك خمس الخمس من الغنيمة نفلاً ، وقد فعلها قبلي أبو بكرٍ ، وعمر رضي الله عنهما ومع ذلك قال لي الجنود المجاهدون : إنا نكره أن تعطيه خمس الخمس ـ ولا يحقُّ لهم الاعتراض والرَّفض ـ فأخذت خمس الخمس من ابن سعد ، ورددته على الجنود ، وبذلك لم يأخذ ابن سعد شيئاً ! أليس كذلك ؟ قال الصَّحابة : اللَهمَّ نعم !

7ـ وقالوا : إنِّي أحبُّ أهل بيتي ، وأعطيهم ! فأمَّا حبِّي لأهل بيتي ، فإنَّه لم يحملني على أن أميل معهم إلى جور ، وظلم الاخرين ، بل أحملُ الحقوق عليهم واخذ الحقَّ منهم ، وأمَّا إعطاؤهم فإنِّي أعطيهم من مالي الخاص ، وليس من أموال المسلمين ؛ لأنِّي لا أستحلُّ أموال المسلمين لنفسي ، ولا لأحدٍ من النَّاس . ولقد كنت أعطي العطيَّة الكبيرة الرَّغيبة من صُلب مالي أزمان رسول الله (ص) ، وأبي بكرٍ، وعمر ، رضي الله عنهما ، وأنا يومئذ شحيحٌ حريصٌ ، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي ، وفني عمري ، وجعلت مالي الّذي لي لأهلي ، وأقاربي ؛ قال الملحدون ما قالوا ؟ وإنِّي والله ما أخذت من مصر من أمصار المسلمين مالاً ، ولا فضلاً ، ولقد رددت على تلك الأمصار الأموال ، ولم يُحضروا إلى المدينة إلا الأخماس من الغنائم ، ولقد تولَّى المسلمون تقسيم تلك الأخماس ، ووضعها في أهلها ! ووالله ما أخذت من تلك الأخماس وغيرها فلساً فما فوقه ! وإنَّني لا اكل إلا من مالي ! ولا أعطي أهلي إلا من مالي !

8 ـ وقالوا : إنِّي أعطيت الأرض المفتوحة لرجالٍ معيَّنين ، وإنَّ هذه الأرضين المفتوحة ، قد اشترك في فتحها المهاجرون ، والأنصار ، وغيرهم من المجاهدين ، ولمَّا قسَّمت هذه الأراضي على المجاهدين الفاتحين ؛ منهم من أقام بها ، واستقرَّ فيها ، ومنهم من رجع إلى أهله في المدينة ، أو غيرها ، وبقيت تلك الأرض ملكاً له، وقد باع بعضهم تلك الأراضي ، وكان ثمنها في أيديهم !

وبذلك أورد عثمان رضي الله عنه أهمَّ الاعتراضات الّتي أثيرت عليه ، وتولَّى توضيحها ، وبيان وجه الحقِّ فيها.

وترى من ذلك الدِّفاع المحكم الّذي دافع به عثمان بن عفَّان رضي الله عنه ، وساجل الصَّحابة فيه ، وذاكرهم إيَّاه صورةً لما كان يجري من النَّقد المرِّ العنيف له، رضي الله عنه ، وما كان يشيعه السَّبئيُّون من قالة السُّوء ، وما يعملون على ترويجه من باطلٍ مزيَّفٍ ، فقد أجمل رضي الله عنه ذكر الاعتراضات الّتي كانوا يعترضون بها عليه ، وبيَّن وجه الحقِّ فيما يفعل ، وأنَّه كان على بيِّنةٍ من أمره ، وعلى حجَّةٍ من دينه ، ولكنَّهم مغرضون لا يريدون رشاداً ، ولا يبغون سداداً ، فمجادلته لهم مجادلة رجلٍ مخلصٍ مع اخر يتربَّص به الدَّوائر ، ويتسقَّط هفواته ، لينفِّذ أغراضاً ، ويلقي في نفوس النَّاس عنه إعراضاً ، ومن كان شأنه كذلك لا تقنعه الحجَّة ، ولا يهديه الدَّليل ، ومن يضلل الله ؛ فلا هادي له.

وقد سمع كلامه ، وتوضيحه زعماء أهل الفتنة الّذين بجانب المنبر ، كما سمعه الصَّحابة الكرام ، ومن معهم من المسلمين الصَّالحين ، وتأثَّر المسلمون بكلام عثمان ، وبيانه ، وتوضيحه ، وصدَّقوه فيما قال : وازدادوا حبّاً ، أمَّا السَّبئيُّون دعاة الفتنة ، والفرقة ، فلم يتأثَّروا بذلك ، ولم يتراجعوا ؛ لأنَّهم لم يكونوا باحثين عن حقٍّ، ولا راغبين في خيرٍ ، إنَّما كان هدفهم الفتنة ، والكيد للإسلام ، والمسلمين ، وقد أشار الصَّحابة ، والمسلمون على عثمان بقتل أولئك السَّبئيِّين ( زعماء الفتنة ) بسبب ما ظهر من كذبهم ، وتزويرهم ، وحقدهم ، بل أصرُّوا عليه في قتلهم ، ليتخلَّص المسلمون من شرِّهم ، وتستقرَّ بلاد المسلمين ، ويُقضى على الفتنة الّتي يثيرها هؤلاء، وأتباعهم ، ولكنَّ عثمان كان له رأيٌ اخر ، وتحليلٌ مغايرٌ ، فاثر أن يتركهم ، ورأى عدم قتلهم ، محاولةً منه لتأخير وقوع الفتنة ، ولم يتَّخذ عثمان ضدَّ السَّبئيِّين القادمين من مصر ، والكوفة ، والبصرة ، أيَّ إجراءٍ مع علمه بما يخطِّطون ، ويريدون ، وتركهم يغادرون المدينة ويعودون إلى بلادهم.

خامساً : الاستجابة لبعض مطالبهم :

الاستجابة لبعض مطالبهم في خلع بعض الولاة ، وتولية مَنْ طلبوا توليته ، فهذه الأساليب كافيةٌ في المعالجة ، وإقامة الحقِّ ، والعدل ؛ لو كانت الأمور تسير في وضعها الطَّبيعيِّ ، لكنَّ الواقع : أنَّ وراء هذه الشَّكاوى ، والإثارات أموراً خفيَّةً، وأحقاداً جاهليَّةً ، تسعى لإثارة الفتنة بين المسلمين ، وتفريق وحدتهم ، ووقع ما أخبر به النَّبيّ (ص) من استشهاد عثمان رضي الله عنه.

يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين

عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره

على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022