ضوابط التَّعامل مع الفتن عند عثمان رضي الله عنه
الحلقة الثانية والخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م
إنَّ المتأمِّل في هدي عثمان رضي الله عنه في تعامله مع الفتنة الّتي وقعت في عهده يمكنه أن يستنبط بعض الضَّوابط الّتي تُعين المسلم في مواجهته للفتن ، ومن هذه الضَّوابط :
1ـ التَّثبُّت :
فقد أرسل لجان تفتيشٍ للأمصار ، واستمع لأهلها ، واستطاع أن يخترق جماعة السَّبئيِّين ، ويقف على حقيقة أمرهم ، ولم يستعجل في إصداره للأحكام عليهم .
2ـ لزوم العدل ، والإنصاف :
فقد اتَّضح هذا الضَّابط في كتبه للأمصار ، وطلب ممَّن ادَّعى ، أنَّه شُتم ، أو ضرب من الولاة ؛ فليوافِ الموسم ، فليأخذ بحقِّه حيث كان ، منه أو من عمَّاله.
3ـ الحلم والأناة :ويتَّضح هذا الضَّابط في كتابه لأهل الكوفة عندما طلبوا عزل سعيد بن العاص، وتعيين أبي موسى الأشعريِّ، وقد جاء في هذا الكتاب:... والله لأفرشنَّكم عِرضي، ولأبذلنَّ لكم صبري ، ولأستصلحنَّكم بجهدي ، فلا تدعوا شيئاً أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئاً كرهتموه لا يُعصى الله فيه إلا استعفيتم منه.
4ـ الحرص على ما يجمع ، ونبذ ما يفرِّق بين المسلمين :ولذلك جمع النَّاس على مصحفٍ واحدٍ كما مرَّ معنا ، وعندما عرض عليه الأشتر النَّخعيُّ عروضاً ثلاثة يأتي تفصيلها بإذن الله ؛ قال عثمان :... وإن قتلتموني؛ فلم أرتكب ما يوجب قتلي ، ووالله لئن قتلتموني فإنَّكم لا تتحابُّون بعدي أبداً ، ولا تصلُّون جميعاً بعدي أبداً ، ولا تقاتلون العدوَّ جميعاً بعدي!
5ـ لزوم الصَّمت ، والحذر من كثرة الكلام :
من خلال سيرة عثمان رضي الله عنه تتَّضح صفة قلَّة كلامه إلا فيما ينفع من علمٍ، أو نصحٍ ، أو توجيهٍ ، أو ردِّ اتِّهاماتٍ باطلةٍ ، وقد كان رضي الله عنه كثير الصَّمت قليل الكلام.
6ـ استشارة العلماء الرَّبانيِّين :
فقد كان رضي الله عنه يستشير علماء الصَّحابة ، كعليٍّ ، وطلحة ، والزُّبير ، ومحمَّد بن مسلمة ، وابن عمر ، وعبد الله بن سلام ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ فالعلماء هم صمَّام الأمان ، والملجأ في الخطوب المدلهمَّة ، والفتن المظلمة ؛ لأنَّهم أبصر النَّاس بحالها ، وأعرفهم بمالها، فمن التجأ إليهم؛ وجد الفهم السَّليم ، والنَّظر الصَّحيح والموقف الشَّرعيَّ الواضح.
7ـ الاسترشاد بأحاديث رسول الله (ﷺ) في الفتن :
إنَّ منهج عثمان رضي الله عنه أثناء الفتنة ، ومسلكه مع المتمرِّدين ، الّذين خرجوا عليه لم تفرضه عليه مجريات الأحداث ، ولا ضغط الواقع ، بل كان منهجاً نابعاً من مشكاة النُّبوَّة حيث أمره رسول الله (ﷺ) بالصَّبر ، والاحتساب ، وعدم القتال حتَّى يقضي الله أمراً كان مفعولاً ، وقد وفَّى ذو النُّورين رضي الله عنه بوعده، وعهده لرسول الله (ﷺ) طوال أيَّام خلافته ، حتَّى خرَّ شهيداً مضرَّجاً بدمائه الطَّاهرة الزَّكيَّة.
وقد قال محبُّ الدِّين الخطيب : الّذي يدلُّ عليه مجموع الأخبار عن مواقف عثمان من أمر الدِّفاع عنه ، أو الاستسلام للأقدار ، هو أنَّه كان يكره الفتنة ، ويتَّقي الله في دماء المسلمين إلا أنَّه صار في اخر الأمر يودُّ لو كانت لديه قوَّةٌ راجحةٌ يهابها البغاة ، فيرتدعون عن بغيهم ، بلا حاجةٍ إلى استعمال السِّلاح للوصول إلى هذه النتيجة ، وقبل أن تبلغ الأمور مبلغها ؛ عرض عليه معاوية أن يرسل إليه قوَّةً من جند الشَّام تكون رهن إشارته ، فأبى أن يضيِّق على أهل دار الهجرة بجند يساكنهم ، وكان لا يظنُّ أنَّ الجرأة تبلغ بفريقٍ من إخوانه المسلمين إلى أن يتكالبوا على دم أوَّل مهاجرٍ إلى الله في سبيل دينه .
فلمَّا تذاءب عليه البُغاة ، واعتقد : أنَّ الدفاع عنه تسفك فيه الدِّماء جزافاً ؛ عزم على كلِّ مَنْ له عليهم سمعٌ ، وطاعةٌ أن يكفُّوا أيديهم ، وأسلحتهم عن مزالق العنف.
والأخبار بذلك مستفيضةٌ في مصادر أوليائه ، وشانئيه ، على أنَّه لو ظهرت في الميدان قوَّةٌ منظَّمة ذات هيبةٍ تقف في وجوه الثُّوار ، وتضع حدّاً لغطرستهم وجاهليتهم؛ لارتاح عثمان وذلك ، وسرَّ به ، مع ما هو مطمئنٌ إليه من أنَّه لن يموت إلا شهيداً.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf