الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

من أهم صفات سيدنا عثمان رضي الله عنه (1)

بقلم الدكتور علي الصلابي

الحلقة الرابعة عشر

ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م

إنَّ شخصيَّة ذي النُّورين تعتبر شخصيَّة قياديَّةً ، وقد اتَّصف رضي الله عنه بصفات القائد الرَّبَّاني ، ونجملها في أمورٍ ، ونركِّز على بعضها بالتفصيل ، فمن أهم هذه الصِّفات : إيمانه العظيم بالله واليوم الاخر ، والعلم الشَّرعيُّ ، والثِّقةُ بالله ، والقدوة، والصِّدق ، والكفاءة ، والشَّجاعة ، والمروءة ، والزُّهد ، وحب التَّضحية ، والتَّواضع ، وقبول النَّصيحة ، والحلم ، والصَّبر ، وعلو الهمَّة ، والحزم ، والإرادة القويَّة ، والعدل ، والقدرة على حلِّ المشكلات ، والقدرة على التَّعليم ، وإعداد القادة، وغير ذلك من الصِّفات ، وبسبب ما أودع الله فيه من صفات القيادة الربَّانيَّة استطاع أن يحافظ على الدَّولة ، ويقمع الثَّورات الّتي حدثت في الأراضي المفتوحة ، وينتقل بفضل الله ، وتوفيقه بالأمَّة نحو أهدافها المرسومة بخطواتٍ ثابتةٍ ، ومن أهمِّ تلك الصِّفات الّتي نحاول تسليط الأضواء عليها في هذا المبحث هي :
أولاً : العلم ، والقدرة على التَّوجيه ، والتعليم :
يعتبر عثمان رضي الله عنه من كبار علماء الصَّحابة في القرآن الكريم ، والسُّنَّة النَّبويَّة ، وسيأتي الحديث عن اجتهاداته الفقهيَّة في المجال القضائيِّ ، والماليِّ ، والجهاديِّ بإذن الله تعالى ، وكان رضي الله عنه حريصاً على اتِّباع هدي النَّبيِّ (ﷺ) وأبي بكرٍ ، وعمر رضي الله عنهما ، فعن عروة بن الزُّبير : أنَّ عبيد الله بن عديِّ بن الخيار أخبره : أنَّ المسور بن مخرمة ، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث قالا له: ما يمنعك أن تكلِّم خالك ، يكلِّم أمير المؤمنين عثمان في الوليد بن عقبة ، وقد أكثر النَّاس فيما فعل ؟ قال : عُبَيد الله : فاعترضت لأمير المؤمنين عثمان حين خرج إلى الصَّلاة ، فقلت له : إنَّ لي إليك حاجةً ، هي نصيحةٌ . قال : يا أيُّها المرء ! إنِّي أعوذ بالله منك ! قال : فانصرفت ، فلمَّا قضيت الصَّلاة جلست إلى المسور ، وابن عبد يغوث ، فحدَّثتهما بالّذي قلت لأمير المؤمنين ، وقال لي ، فقالا : قد قضَيت الّذي عليك، فبينما أنا جالس معهما جاءني رسول أمير المؤمنين عثمان ، فقالا لي : قد ابتلاك الله ، فانطلقت حتَّى دخلت على عثمان ، فقال: ما نصيحتك الّتي ذكرت لي آنفاً ؟ قال : فتشهَّدت ، ثم قلت له : إنَّ الله عزَّ وجلَّ بعث محمَّداً بالحقِّ، وأنزل عليه الكتاب ، فكنت ممَّن استجاب لله ، ولرسوله (ﷺ) ، ورأيت هديه ، وقد أكثر النَّاسُ في شأن الوليد ، فحقٌّ عليك أن تقيم عليه الحدَّ ، قال: فقال لي: ابن أختي! أدركتَ رسول الله (ﷺ) ؟ قال: فقلت: لا، ولكن خَلصَ إليَّ من علمه واليقين ما يَخلُص إلى العذراء في سِتْرها . قال : فتشهَّد ، ثمَّ قال : أمَّا بعد : فإنَّ الله بعث محمَّداً بالحقِّ ، فكنتُ ممَّن استجاب لله ، ولرسوله ، وآمن بما بُعث محمَّد (ﷺ) ثمَّ هاجرت الهجرتين، كما قلت، ونلت صهر رسول الله (ﷺ) وبايعتُ رسول الله (ﷺ) فوالله ما عصيتُه ، ولا غششته، حتَّى توفاه الله ! ثمَّ استُخلف بعده أبو بكرٍ ، فبايعناه ، فوالله ما عصيتُه ، ولاغششته ؛ حتَّى توفَّاه الله ! ثمَّ استُخلف عمر ، فوالله ما عصيته ، ولا غششته ؛ حتى توفاه الله ! ثم استخلفني الله؛ أفليس لي عليكم مثل الّذي كان لهم عليَّ ؟ قال : فقلت : بلى ! قال : فما هذه الأحاديث الّتي تبلغني عنكم ؟ فأمَّا ما ذكرت من شأن الوليد فسنأخذ فيه إن شاء الله بالحقِّ ، قال : فجلد الوليد أربعين سوطاً ، وأمر عليّاً بجلده ، فكان هو يجلده.
لقد لازم ذو النُّورين النَّبيّ (ﷺ) فاستفاد من علمه ، وهديه ممَّا جعله من كبار علماء الصَّحابة رضي الله عنهم جميعاً ، وكان رضي الله عنه قادراً على توجيه رعيَّته توجيهاً مفيداً ، وتعليمهم واجباتهم ، ونقل آرائه النَّابعة من علمه ، وخبرته ، وتجاربه، وممارسته إليهم ؛ حتَّى يرتقوا في مجال الدَّعوة ، والتَّربية ، والتَّعليم ، والجهاد ، والاستعداد للقاء الله عزَّ وجلَّ ـ ، ومن توجيهات عثمان رضي الله عنه ما تضمَّنته خطبة خلافته الّتي قال فيها بعد أن حمد الله ، وأثنى عليه ، وصلَّى على النَّبيّ (ﷺ) : إنَّكم في دار قلعةٍ ، وفي بقيَّة أعمارٍ ، فبادروا أجالكم بخير ما تقدرون عليه ، فلقد أُتيتم، صُبِّحتم أو مُسِّيتم ، ألا وإنَّ الدُّنيا طويت على الغرور ، فلا تغرَّنكم الحياة الدُّنيا ، ولا يغرَّنكم بالله الغرور ، واعتبروا بمن مضى ثمَّ جدُّوا ، ولاتغفلوا ، أين أبناء الدُّنيا ، وإخوانها الّذين أثاروها ، وعمروها ، ومُتِّعوا بها طويلاً ، ألم تلفظهم ؟ ! ارموا الدُّنيا بالّذي هو خير، فقال تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً*} [ الكهف : 45 ـ 46 ] .
ولقد كان المعنى الّذي يدور حوله توجيه الخليفة الثَّالث رضي الله عنه في هذه الخطبة هو الحضُّ على الإقبال على الله، والزُّهد في الدُّنيا، وهذا هو المناسب لخطبته في ذلك الوقت الّذي ألقى فيه الإسلام بجرانه في أقطار المعمورة ، وفُتحت البلدان ، وأقبلت الدُّنيا بنعيمها ، وبدأ النَّاس في التنافس فيها ، وبخاصةٍ غير أصحاب رسول الله (ﷺ) ، فكان المقال مناسباً للمقام.
وقد روى عثمان رضي الله عنه أحاديث عن رسول الله ، انتفعت بها الأمَّة ، فهذا أبو عبد الرحمن السُّلميِّ يحدِّثنا عن حديثٍ سمعه من عثمان ، فعمل به ، فعن سعد ابن عبيدة عن أبي عبد الرَّحمن السُّلميُّ عن عثمان رضي الله عنه عن النَّبيّ (ﷺ) قال : « خيركم من تعلَّم القران ، وعلَّمه ». قال : وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتَّى كان الحجَّاج ، قال : وذاك الّذي أقعدني مقعدي هذا ، وفي روايةٍ عن شعبة، قال أبو عبد الرحمن : فذاك الّذي أقعدني مقعدي هذا ، وكان يعلِّم القرآن، وكان عثمان رضي الله عنه يروي أحاديث رسول الله للمسلمين كلٌّ في محلِّه ومناسبته ، ومن هذه الأحاديث :

1ـ أهمِّيَّة الوضوء :
توضأ عثمان على البلاط، ثمَّ قال: لأحدِّثنَّكم حديثاً سمعته من رسول الله (ﷺ)، لولا آيةٌ في كتاب الله؛ ماحدَّثتكموه، سمعت رسول الله (ﷺ) يقول: «من توضأ، فأحسن الوُضوء، ثمَّ دخل، فصلَّى؛ غفر له ما بينه وبينَ الصَّلاة الأخرى؛ حتَّى يصلِّيها».
2ـ اتباعه لرسول الله (ﷺ) في الوضوء :
عن حمران بن أبان عن عثمان بن عفَّان : أنَّه دعا بماءٍ ، فتوضَّأ ، ومضمض، واستنشق ، ثمَّ غسل وجهه ثلاثاً ، وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً ، ومسح برأسه ، وظهر قدميه ، ثمَّ ضحك ، فقال لأصحابه : ألا تسألوني عمَّا أضحكني ؟ فقالوا : ممَّ ضحكت يا أمير المؤمنين ؟ فقال : رأيت رسول الله (ﷺ) دعا بماء قريباً من هذه البقعة ، فتوضَّأ كما توضَّأت ، ثم ضحك ، فقال : « ألا تسألوني ما أضحكني ؟ » فقالوا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ فقال : « إنَّ العبد إذا دعا بوضوءٍ ، فغسل وجهه؛ حطَّ الله عنه كلَّ خطيئةٍ أصابها بوجهه ، فإذا غسل ذراعيه ؛ كان كذلك ، وإن مسح برأسه ؛ كان كذلك ، وإن طهَّر قدميه ؛ كان كذلك » .
3ـ كفارات الوضوء :
عن عثمان قال : قال رسول الله (ﷺ) : « من أتمَّ الوضوء كما أمره الله عزَّ وجلَّ، فالصَّلوات المكتوبات كفاراتٌ لما بينهنَّ ».

4ـ الوضوء وصلاة ركعتين ومغفرة الذنوب :
دعا عثمان بماءٍ وهو على المقاعد ، فسكب على يمينه ، فغسلها ، ثمَّ أدخل يمينه في الإناء ، فغسل كفَّيه ثلاثاً ، ثمَّ غسل وجهه ثلاث مرارٍ ، ثمَّ مسح برأسه ، ثمَّ غسل رجليه إلى الكعبين ثلاث مرارٍ ، ثمَّ قال : سمعت رسول الله (ﷺ) يقول : « من توضَّأ نحو وضوئي هذا ، ثمَّ صلَّى ركعتين ، لا يحدِّثُ نفسه فيهما ؛ غفر الله له ما تقدم من ذنبه ».
5ـ كلمة الإخلاص ، وكلمة التَّقوى :
قال عثمان رضي الله عنه : سمعت رسول الله (ﷺ) يقول : « إنِّي لأعلم كلمةً لا يقولها عبدٌ حقّاً من قلبه إلا حُرِّم على النَّار » . فقال له عمر بن الخطَّاب : أنا أحدِّثك ما هي ؟ هي كلمة الإخلاص ، الّتي ألزمها الله ـ تبارك وتعالى ـ محمَّداً (ﷺ) ، وأصحابه، وهي كلمة التَّقوى ؛ الّتي ألاص عليها نبيُّ الله (ﷺ) عمَّه أبا طالبٍ عند الموت : شهادة أن لا إله إلا الله.
6ـ العلم بالله يدخل العبد الجنَّة :
عن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه عن النَّبيّ (ﷺ) قال : من مات ؛ وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنَّة.
7ـ الحسنات ، والباقيات :
عن الحارث مولى عثمان ، قال : جلس عثمان يوماً ، وجلسنا معه ، فجاءه المؤذِّن، فدعا بماءٍ في إناءٍ ، أظنُّه سيكون فيه مُدٌّ ، فتوضَّأ ، ثمَّ قال : رأيت رسول الله (ﷺ) يتوضَّأ وضوئي هذا، ثمَّ قال: « ومن توضأ وضوئي هذا ، ثمَّ قام فصلَّى صلاة الظُّهر ؛ غفر له ما كان بينها وبين الصُّبح ، ثمَّ صلى العصر ؛ غُفِر له ما بينها وبين صلاة الظُّهر ، ثمَّ صَلى المغرب ؛ غُفر له ما بينها وبين صلاة العصر ، ثمَّ صلى العشاء ؛ غفر له ما بينها وبين صلاة المغرب ؛ ثمَّ لعلَّه أن يبيت يتمرَّغ ليلته ، ثمَّ إن قام ، فتوضأ ، وصلَّى الصُّبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء ، وهنَّ الحسنات يُذهبن السيِّئات ». قالوا: هذه الحسنات، فما الباقيات يا عثمان؟ قال: هنَّ: ( لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله ) .
8 ـ خطورة الكذب على رسول الله (ﷺ) :
عن عثمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ) : « من تعمَّد عليَّ كذباً ؛ فليتبوأ بيتاً في النَّار ».
هذه بعض الأحاديث الّتي رواها عثمان عن رسول الله (ﷺ) ، وتدلُّ على علم عثمان وحرصه على الاستزادة من الهدي النَّبويِّ ، وفقه الشَّريعة الغرَّاء .
ثانياً : الحلم :
إنَّ الحلم ركنٌ من أركان الحكمة ، وقد وصف الله نفسه بصفة الحلم في عدَّة مواضع من القرآن الكريم ، كقول الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ *} [آل عمران : 155 ] . وقد بلغ رضي الله عنه في حلمه ، وعفوه الغاية المثاليَّة ، وكان الخليفة الرَّاشد عثمان بن عفَّان شديد الاقتداء في أقواله ، وأفعاله ، وأحواله برسول الله (ﷺ) ، وكانت له مواقف كثيرةٌ ، تدلُّ على حلمه ، وضبطه لنفسه ، ومن أوضح المواقف الّتي تدلُّ على حلمه قصَّته في حصار الثائرين عليه ، حيث أمر مَنْ عنده مِنَ المهاجرين ، والأنصار أن ينصرفوا إلى منازلهم ، ويَدَعُوه، وكانوا قادرين على منعه، وكان حلمه مبنيّاً على شوقه إلى لقاء ربِّه ، وإرادته حقن دماء المسلمين ، ولو بقتله.

ثالثاً : السَّماحة :
عن عطاء بن فرُّوخ مولى القرشيِّين : أنَّ عثمان رضي الله عنه اشترى من رجلٍ أرضاً ، فأبطأ عليه ، فلقيه فقال : ما منعك من قبض مالك ؟ قال : إنَّك غبنتني، فما ألقى من النَّاس أحداً إلا وهو يلومني، فقال: أو ذلك يمنعك؟ قال: نعم، قال: فاختر بين أرضك، ومالك، ثمَّ قال : قال رسول الله (ﷺ) : « أدخل الله الجنَّة رجلاً كان سهلاً مشترياً ، وبائعاً ، وقاضياً ، ومقتضياً » . فهذا مثلٌ رفيعٌ في السَّماحة في البيع والشِّراء ، وهو يدلُّ على ما جبل عليه عثمان رضي الله عنه من الكرم، وعدم التعلُّق بالدُّنيا، فهو يستعبد الدُّنيا لخدمة مكارم الأخلاق؛ الّتي من أهمها : الإيثار ، ولا تستعبده الدنيا ، فتجعل منه أنانيّاً يؤثر مصالحه الخاصَّة ؛ وإن أضرَّ بالنَّاس.
رابعاً : اللين :
امتنَّ الله تعالى على رسوله (ﷺ) بأن رزقه صفة اللِّين رحمةً منه به ، وبعباده، قال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران : 159 ] .
أفادت الآية الكريمة : أنَّ صفة اللِّين رحمةٌ من الله يرزقها من شاء من عباده ، وأنّ الرَّسول (ﷺ) قد رُزق هذه الصِّفة رحمةً من الله به ، وبعباده الّذين بعثه إليهم، ويفهم من الآية : أنَّ المتَّصف باللِّين يحبُّه الناس ، ويلتفُّون حوله ، ويقبلون منه ما يأمرهم به ، أو ينهاهم عنه، فاللِّين من الصِّفات الطَّيبة الّتي اتَّصف بها عثمان ، رضي الله عنه ، فكان رضي الله عنه ليِّناً على رعيته ، عطوفاً على أمَّته ، يخاف أن يصاب أحدٌ دون علمه ، فلا يتمكن من تلبية حاجته ، وكان يتتبَّع أخبار النَّاس ، فينصر الضَّعيف ، ويأخذ الحقَّ من القويِّ رضي الله عنه .

خامساً : العفو :
عن عمران بن عبد الله بن طلحة: أنَّ عثمان بن عفَّان رضي الله عنه خرج لصلاة الغداة، فدخل من الباب الّذي كان يدخل منه، فزحمه الباب، فقال: انظروا، فنظروا، فإذا رجلٌ معه خنجرٌ ، أو سيفٌ، فقال له عثمان رضي الله عنه: ما هذا؟ قال: أردت أن أقتلك. قال: سبحان الله! ويحك عَلاَم تقتلني ؟ ! قال : ظلمني عاملك باليمن ، قال : أفلا رفعت ظلامتك إليَّ ، فإن لم أنصفك أو أعديك على عاملي ؛ أردتَ ذلك منِّي ؟ فقال لمن حوله : ما تقولون ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين ! عدوٌّ أمكنك الله منه . فقال : عبدٌ همَّ بذنبٍ ، فكفَّه الله عنِّي ، ائتني بمن يكفل بك ، لا تدخل المدينة ما وليتُ أمر المسلمين، فأتاه برجلٍ من قومه ، فكفل به ، فخلَّى عنه.
فهذا تسامحٌ كبيرٌ من أمير المؤمنين عثمان بن عفَّان رضي الله عنه ، حيث عفا عمَّن أراد قتله ، والعفو عند المقدرة صفةٌ من صفات الكمال في الرِّجال ، وهو دليلٌ على التجرُّد من حظِّ النَّفس ، وتقلُّص الأنانية ، وضعف الارتباط بالدُّنيا ، وقوَّة الارتباط بالاخرة ، وهذا الخلق إضافةً إلى أنَّه عملٌ صالحٌ يرفع من درجات صاحبه في الاخرة ؛ فإنَّه سياسةٌ حكيمةٌ في الدُّنيا ؛ إذ إنَّ هذا الرَّجل ؛ الّذي أراد الاعتداء لو أنَّه قتل ، أو عوقب عقوبةً بليغةً لربَّما أحدث فتنةً بإيغار صدور أفراد قبيلته ، واستعدادهم للانتقام إذا سنحت لهم الفرصة ، لكنَّ العفو عنه يجعل أفراد قبيلته ، وأبناء بلده يعذلونه ، ويعنِّفونه على ما حاول الإقدام عليه ، وبذلك تنطفأى الفتنة قبل تصاعدها ، ويكسب صاحب العفو قلوب النَّاس ، وولاءهم.
سادساً : التَّواضع :
قال تعالى : {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا *} [الفرقان : 63 ] .
جعل المولى عزَّ وجلَّ صفة التَّواضع أوَّل صفات عباده المؤمنين ، ولقد كان الخليفة الرَّاشد عثمان متَّصفاً بهذه الصِّفة ، وكانت هذه الصِّفة تنبع من إخلاصه لله سبحانه وتعالى ، فعن عبد الله الرُّوميّ ، قال : كان عثمان بن عفَّان يأخذ وضوءه لنفسه إذا قام من اللَّيل ، فقيل له : لو أمرت الخادم ؛ كفاك ! قال : لا ، اللَّيل لهم يستريحون فيه. فهذا مثلٌ من اتِّصاف أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بالرَّحمة ، فهو مع كبر سنه وعلوِّ منزلته الاجتماعيَّة يخدم نفسه في اللَّيل ، ولا يوقظ الخدم ، وإنَّ وجود الخدم من تسخير الله تعالى للمخدومين ، وإنَّ ممَّا ينبغي للمسلم الّذي سخَّر الله تعالى له من يخدمه أن يتذكَّر : أنَّ الخادم إنسانٌ مثله ، له طاقةٌ محدودةٌ في العمل ، وله مشاعر، وأحاسيس ، فينبغي له أن يراعي مشاعره ، وأن ييسر له الرَّاحة كاملةً في النَّوم ، وأن لا يشقَّ عليه بعملٍ، وكان رضي الله عنه من تواضعه واحترامه لعمِّ النَّبيّ (ﷺ) إذا مرَّ به وهو راكبٌ ؛ نزل حتَّى يزول العبَّاس احتراماً ، وتقديراً له.
سابعاً : الحياء ، والعفَّة :
الحياء من أشهر أخلاق عثمان رضي الله عنه ، وما أحلاها تلك الصِّفة النَّبيلة الّتي زيَّنه الله بها ، فكانت فيه منبع الخير ، والبركة ، ومصدر العطف ، والرَّحمة ، فقد كان رضي الله عنه من أشدِّ الناس حياءً، فقد ذكر الحسن البصريُّ ـ رحمه الله ـ عثمان بن عفَّان يوماً ، وشدَّة حيائه ، فقال : إنَّه ليكون في البيت ، والباب عليه مغلقٌ ، فما يضع عنه ثوبه ليفيض عليه الماء ، يمنعه الحياء أن يُقيم صلبه، ومن حيائه رضي الله عنه : ما روته بُنانة ، وهي جاريةٌ لامرأته ، تقول : كان عثمان إذا اغتسل جئته بثيابه ، فيقول لي : لا تنظري إليَّ ، فإنَّه لا يحلُّ لك. وقد وردت الأحاديث النَّبويَّة الّتي تحدثت عن حيائه ، وقد ذكرتها في موضعها ، وأمَّا عن عفَّته، وبعده عن مساوئ الأخلاق ؛ فحدِّث في ذلك بما شئت ، ولا حرج ، فإنَّه رضي الله عنه لم يعرف طريق الفحشاء في الجاهليَّة ، ولا في الإسلام ، يقول عثمان رضي الله عنه : ما تغنَّيت، ولا تمنَّيت، ولا مسستُ ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله (ﷺ) ، ولا شربت خمراً في جاهليةٍ ، ولا في الإسلام ، ولا زنيت في جاهلية ولا في إسلام.
ثامناً : كرمه :
كان عثمان رضي الله عنه من أكرم الأمَّة ، وأسخاها ، وله في ذلك مواقف ، ومآثر لا تزال غرَّةً في جبين التَّاريخ الإسلاميِّ ، فقد مرَّ معنا ما قام به في غزوة تبوك، وشراؤه لبئر رومة ، وتصدُّقه به على المسلمين ، وتوسيعه للمسجد النَّبوي في عهد النَّبيّ (ﷺ) ، وتصدُّقه بالقافلة المحمَّلة بالخيرات في عصر الصِّدِّيق رضي الله عنه ، وكان رضي الله عنه يعتق كلَّ جمعة رقبةً في سبيل الله منذ أسلم ، فجميع ما أعتقه ألفان ، وأربعمئة رقبةٍ تقريباً، وقد رُوي : أنَّه كان له على طلحة ابن عبيد الله وكان من أجود النَّاس خمسون ألفاً ، فقال له طلحة يوماً : قد تهيَّأ مالك ، فاقبضه ، فقال له عثمان : هو لك معونةٌ على مروءتك.
لقد كان سخاء عثمان وجوده صفةً أصيلةً في شخصيَّته الفذَّة ، رضي الله عنه ، فقد وظَّف أمواله في خدمة دين الله ، فلم يبخل في تأسيس الدَّولة الإسلاميَّة ، والجهاد في سبيل الله تعالى ، وخدمة المجتمع ابتغاء رضوان الله تعالى .

يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022