من أهم صفات سيدنا عثمان رضي الله عنه "2"
الحلقة الخامسة عشر
بقلم الدكتور علي الصلابي
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م
تاسعاً : شجاعته :
يعدُّ عثمان رضي الله عنه من الشُّجعان ، والدَّليل على ذلك :
1ـ خروجه للجهاد في سبيل الله ، وحضوره المشاهد كلَّها مع رسول الله (ﷺ)، وإذا اتُّهم بتخلُّفه في بدرٍ؛ فقد سبق أن قلنا: إنَّ ذلك كان بأمرٍ من رسول الله (ﷺ) ، ثمَّ عدَّه رسول الله (ﷺ) من الّذين شهدوها، وأعطاه سهمه منها، ونال أجره ـ إن شاء الله ـ وليس بعد كلام رسول الله كلامٌ.
2ـ سفارةُ رسول الله (ﷺ) إلى قريشٍ في الحديبية :
امتثل عثمان رضي الله عنه كما مرَّ معنا طلب الرَّسول (ﷺ) ، وذهب إلى قريش ، وهو يعرف ما أقدم عليه ، غير أنَّ رجولته ، وبطولته قد أبتا عليه إلا الامتثال، والطَّاعة .
إنَّ مَنْ يقبل السَّفارة في مثل تلك الظُّروف لَشجاعٌ عظيمٌ ، وبطلٌ من الأبطال النَّوادر ، صحيحٌ : أنَّها أمرٌ من رسول الله (ﷺ) ، ولكنَّها في الوقت نفسه شجاعةٌ ، لا يمكن أن يقبل بها جبانٌ ، بل رجلٌ عاديٌّ.
3ـ الفداء بالنَّفس :
عندما حوصر رضي الله عنه في داره ؛ طلب منه المارقون التَّنازل عن الخلافة لا خيارَ غيره ، أو القتل ، أو عزل ولاته ، وتسليم بعضهم ، فأصرَّ على موقفه ، مضحِّياً بنفسه من أن تصبح الخلافة بيد ثلَّةٍ تُزيح مَنْ ترغب ، وتُعيِّن من تحبُّ ، أو تنزع الخلافة من صاحبها الّذي اختارته الأمَّة ، ويصبح ذلك قاعدةً، فأصرَّ على موقفه ، وهو يرى الموت في سيوف المحاصرين ، وإنَّ الّذي يقف هذا الموقف لَهُوَ الشُّجاع ، وإنَّه لصاحب حقٍّ ، ولن يقف هذا الموقف رجلٌ جبانٌ ، أو محبٌّ للدُّنيا أبداً ، فالحياة عند هؤلاء الجبناء أفضل من المكانة ، ومن الدُّنيا كلِّها، ولكنَّ هذا الإصرار العجيب ، والعزيمة النَّافذة ، والشَّجاعة الفائقة من عثمان رضي الله عنه ثمرة إيمانٍ قويٍّ بالله عزَّ وجلَّ واليومِ الاخر وقر في قلبه ، وجعله يستهين بكلِّ شيءٍ في هذه الحياة حتَّى بالحياة نفسها .
4ـ المال :
إنَّ الجهاد بالنَّفس اقترن مع الجهاد بالمال ، وربما قُدِّم عليه ؛ قال تعالى : {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا *} [النساء: 95].
وهناك آياتٌ كثيرةٌ تقرن المال بالنَّفس ، وإنَّ الّذي ينفق المال في سبيل الله بسخاءٍ إنَّما هو مجاهدٌ وشجاعٌ ، وقد أنفق عثمان رضي الله عنه الكثير حتَّى قال رسول الله (ﷺ) : « ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم » مرَّتين.
لقد كان عثمان رضي الله عنه شجاعاً ، لا يهاب الموت ، جريئاً يواجه الباطل في تحدٍّ سافرٍ ، حليماً لا يُجَهِّله حمقُ الحمقى.
عاشراً : الحزم :
إنَّ صفة الحزم في شخصيَّة ذي النُّورين أصيلةٌ ، ونجد الصِّدِّيق رضي الله عنه عندما عرض عليه الإسلام قال له : ويحك يا عثمان ! ! إنَّك رجلٌ حازمٌ ، ما يخفى عليك الحقُّ من الباطل ، ما هذه الأوثان الّتي يعبدها قومنا ؟!.
وفي سنة 26 هـ زاد عثمان في المسجد الحرام ، ووسَّعه ، وابتاع من قومٍ وأبى آخرون ، فهدم عليهم ، ووضع الأثمان في بيت المال ، فصيَّحوا بعثمان ، فأمر بهم بالحبس ، وقال : أتدرون ما جرَّأكم عليَّ ؟ ما جرأكم عليَّ إلا حلمي ، قد فعل هذا بكم عمر ، فلم تصيِّحوا به ، ثمَّ كلَّمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد ، فأخرجوا.
ومن المواقف الّتي تدلُّ على حزمه ؛ حمايته لنظام الخلافة من الضَّياع ، فلم يجب الخارجين إلى خلع نفسه من الخلافة ، فكان بذلك يمثِّل الثَّبات ، واستمرار النِّظام ، لأنَّه لو أجاب الخارجين إلى خلع نفسه ؛ لأصبح منصب الإمامة العظمى ألعوبةً في أيدي المفتونين السَّاعين في الأرض بالفساد ، ولسادت الفوضى ، واختلَّ نظام البلاد، ولكان ذلك تسليطاً للرُّعاع، والغوغاء على الولاة والحكَّام، لقد كانت نظرة عثمان رضي الله عنه بعيدة الغور ، فلو أجابهم إلى ما يريدون لسنَّ بذلك سنَّةً، وهي كلَّما كره قومٌ أميرهم ؛ خلعوه ، ولألقى بأس الأمَّة بينها ، وشغلها بنفسها عن أعدائها وذلك أقرب لضعفها ، وانهيارها ، على أنَّه لم يجد سوى نفسه يفدي بها الأمَّة، ويحفظ كيانها، وبنيانها من التصدُّع، ويدعم بهذا الفداء نظامها الاجتماعيَّ ، ويحمي سلطانها ؛ الّذي تُساس به من أن تمتدَّ إليه يد العبث ، والفوضى .
وممَّا لا شكَّ فيه : أنَّ هذا الصُّنع من عثمان كان أعظم ؛ وأقوى ما يستطيع أن يفعله رجلٌ ألقت إليه الأمَّة مقاليدها ؛ إذ لجأ إلى أهون الشَّرَّين ، وأخف الضَّررين ؛ ليدعم بهذا الفداء نظام الخلافة ، وسلطانها، وسيأتي بيان ذلك في محلِّه بإذن الله.
الحادية عشرة : الصبر :
اتَّصف عثمان رضي الله عنه بصفة الصَّبر ـ ومن المواقف الدَّالة على هذه الصِّفة ثباته في الفتنة ؛ إذ كان موقفه إزاء تلك الأحداث الّتي ألمَّت به ، وبالمسلمين المثل الأعلى لما يمكن أن يقدِّمه الفرد من تضحية ، وفداءٍ في سبيل حفظ كيان الجماعة ، وصون كرامة الأمَّة ، وحقن دماء المسلمين ، فقد كان بإمكانه أن يقي نفسه ، ويخلِّصها ، لو أنَّه أراد نفسه ، ولم يرد حياة الأمَّة ، ولو كان ذاتيّاً ، ولم يكن من أهل الإيثار ؛ لدفع بمن هَبَّ للذَّود عنه من الصَّحابة ، وأبناء المهاجرين ، والأنصار إلى نحور الخارجين المنحرفين عن طاعته ، ولكنَّه أراد جمع شمل الأمَّة ، ففداها بنفسه صابراً محتسباً ، وقد أعلن عثمان رضي الله عنه أنَّه سيواجه الفتنة العارمة بالصَّبر الجميل، ممتثلاً قوله سبحانه : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *} [آل عمران : 173 ] .
إنَّ عثمان رضي الله عنه كان قويَّ الإيمان بالله ، كبير النَّفس ، نفَّاذ البصيرة ، نبيل الصَّبر ، حيث فدى الأمَّة بنفسه ، فكان ذلك من أعظم فضائله عند المسلمين.
قال ابن تيميَّة رحمه الله : ومن المعلوم بالتواتر : أنَّ عثمان كان من أكفِّ النَّاس عن الدِّماء ، وأصبر النَّاس على مَنْ نال مِنْ عرضه ، وعلى مَنْ سعى في دمه ، فحاصروه ، وسعوا في قتله ، وقد عرف إرادتهم لقتله ، وقد جاءه المسلمون ينصرونه، ويشيرون عليه بقتالهم ، وهو يأمر النَّاس بالكفِّ عن القتال ، ويأمر مَنْ يطيعه ألا يقاتلهم .. وقيل له : تذهب إلى مكَّة ؟ فقال : لا أكون من ألحد في الحرم ، فقيل له : تذهب إلى الشَّام ؟ فقال : لا أفارق دار هجرتي ، فقيل له : فقاتلهم ، فقال : لا أكون أوَّل من خلف محمداً في أمَّته بالسَّيف ، فكان صبر عثمان حتَّى قُتل من أعظم فضائله عند المسلمين.
الثَّانية عشرة : العدل :
واتَّصف عثمان رضي الله عنه بصفة العدل ، فعن عبد الله بن عديِّ بن الخيار: أنه دخل على عثمان رضي الله عنه وهو محصور ، فقال له : إنَّك إمام العامَّة ، وقد نزل بك ما ترى ، وهو ذا يصلِّي بنا إمام فتنةٍ ـ عبد الرَّحمن بن عُدَيْس البلوي وأنا أخرج من الصَّلاة معه. فقال له عثمان : إنَّ الصلاة أحسن ما يعمل النَّاس ، فإذا أحسن النَّاس ؛ فأحسن معهم ، وإذا أساؤوا ؛ فاجتنب إساءتهم, وروى ابن شبَّة بإسناده؛ قال: دخل عثمان بن عفَّان على غلامٍ له يعلف ناقةً؛ فرأى في علفها ما كره، فأخذ بأذن الغلام فعركها، ثمَّ ندم؛ فقال لغلامه: اقتصَّ، فأبى الغلام، فلم يدعه؛ حتَّى أخذ بأذنه، فجعل يعركها، فقال له عثمان: شدَّ حتَّى ظنَّ: أنه قد بلغ منه مثل ما بلغ منه ، ثمَّ قال عثمان رضي الله عنه : واهاً لقصاصٍ قبل قصاص الاخرة.
الثالثة عشرة : عبادته :
كان عثمان رضي الله عنه من المجتهدين في العبادة ، وقد روي من غير وجهٍ: أنَّه صلَّى بالقرآن العظيم في ركعةٍ واحدةٍ عند الحجر الأسود ، أيَّام الحج ، وقد كان هذا من دأبه، ولهذا روينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّه قال في قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } [الزمر:] قال : هو عثمان بن عفَّان. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *} [ النَّحل : 76 ] قال : هو عثمان وكان رضي الله عنه يفتتح القران ليلة الجمعة ، ويختمه ليلة الخميس، وكان رضي الله عنه يصوم الدَّهر ويقوم اللَّيل إلا هجعةً من أوَّله.
الرَّابعة عشرة : خوفه من الله ، وبكاؤه ، ومحاسبته لنفسه :
فقد جاء في إحدى خطبه : أيُّها الناس ! اتَّقوا الله ، فإنَّ تقوى الله غنمٌ ، وإنَّ أكيس الناس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، واكتسب من نور الله نوراً لقبره، وليخش أن يحشره الله أعمى ، وقد كان بصيراً. وقد روي عنه قوله : لو أنِّي بين الجنَّة والنَّار، لا أدري إلى أيَّتها يؤمر بي ؛ لتمنَّيت أن أصير رماداً قبل أن أعلم إلى أيَّتهما أصير . وكانت روحه ترتجف ، وعبراتُه تفيض عندما يذكر الآخرة ، وعندما يتخيَّل نفسه وقد انشقَّ قبره ، ونسل من جدثه إلى العرض ، والحساب، فعن هاني مولى عثمان ، قال : كان عثمان إذا وقف على قبرٍ ؛ بكى ؛ حتَّى تبتلَّ لحيته ، فقيل له: تذكر الجنَّة ، والنَّار ، وتبكي من هذا ؟ قال : إن رسول الله (ﷺ) قال : « إنَّ القبر أوَّل منازل الآخرة ، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه ، وإن لم ينج منه ، فما بعده أشدُّ منه ». قال : وقال رسول الله (ﷺ) : « والله ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه » قال : وكان النَّبيُّ (ﷺ) إذا فرغ من دفن الميت ؛ وقف عليه ؛ ثمَّ قال : « استغفروا لأخيكم ، وسلوا له التثبيت ، فإنه الآن يُسأل »، وهذا من فقه القدوم على الله الّذي استوعبه عثمان رضي الله عنه ، وعاش به في حياته ، وما أحوجنا إلى هذا الفقه العظيم الّذي به تحيا النُّفوس ، وتتفجَّر الطَّاقات .
الخامسة عشرة : زهده :
اشتهر أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بأنَّه من أهل الغنى ، والثروة ، ولكن مع هذه الشُّهرة ؛ فإنَّه قد رويت عنه أخبارٌ تدلُّ على أنَّه كان من الزَّاهدين في الدُّنيا ، فعن حميد بن نعيم :
أنَّ عمر ، وعثمان رضي الله عنهما دُعيا إلى طعامٍ ، فلمَّا خرجا ؛ قال عثمان لعمر : قد شهدنا طعاماً لوددنا أنَّا لم نشهده ، قال : لمَ ؟ قال : إنِّي أخاف أن يكون صنع مباهاةً.
فهذا فقهٌ من عثمان رضي الله عنه بمجالات السَّخاء الإسلاميِّ ، فالسَّخاء في الإسلام لا يكون بالتَّفاخر بالكرم ، والتَّباهي بنوع الطَّعام ، أو كثرته ، وإنَّما يكون ببذل المال من غير إسرافٍ ، ولا خيلاء مع شكر المنعم جلَّ وعلا ـ والتَّواضع للنَّاس ، وهذه النَّظرة من عثمان تعتبر من التَّزهيد بالجاه الدُّنيويِّ ، وهذا يدلُّ على أنَّه كان من الزَّاهدين في ذلك.
ومن زهد عثمان رضي الله عنه وتواضعه: ما أخرجه الإمام أحمد من حديث ميمون بن مهران، قال: أخبرني الهمدانيُّ: أنَّه رأى عثمان بن عفَّان على بغلةٍ وخلفه غلامه نائلٌ ؛ وهو خليفة.
وكذلك ما أخرجه من حديث الهمدانيِّ ، قال : رأيت عثمان نائماً في المسجد في ملحفةٍ ليس حوله أحدٌ؛ وهو أمير المؤمنين، كما أخرج من حديث شرحبيل ابن مسلمٍ: أنَّ عثمان بن عفَّان رضي الله عنه كان يطعم النَّاس طعام الإمارة، ويدخل إلى بيته، فيأكل الخلَّ، والزَّيت.
فهذه أمثلةٌ جليلةٌ من زهد أمير المؤمنين عثمان ، رضي الله عنه ، وحينما يكون الزَّاهد متوسطاً في المعيشة ، فإنَّ زهده لا يلفت النَّظر كثيراً ، ولا يثير العجب ، ولكن حينما يكون غنيّاً ؛ فإنَّ زهده يكون مدهشاً للمتأمِّلين ، وعبرةً للمعتبرين ، ذلك لأنَّ كثرة المال تغري بالانصراف نحو الملذَّات ، والتوسُّع في النَّفقات ، فلا بدَّ ليكون الغني زاهداً من استيعابه لفقه القدوم على الله ؛ حتَّى يكون مهيمناً على نفسه، مذكِّراً لقلبه ، فتكبر الأخرة في عينه ، وتصغر الدُّنيا في نفسه ، وهكذا كان عثمان رضي الله عنه الّذي كان من أعظم الأثرياء في الإسلام ، قد غلبت قوَّة إيمانه شهوتَه، وهواه ، فكان من أعظم الزَّاهدين ، وضرب من نفسه مثلاً لجميع الأغنياء بإمكان الجمع بين الغنى والزُّهد في الدُّنيا.
السَّادسة عشرة : الشُّكر :
كان عثمان رضي الله عنه كثير الشُّكر لله تعالى باللِّسان ، والجنان ، والأركان؛ دُعي ذات يوم إلى قوم على ريبةٍ ، فانطلق ليأخذهم ، فتفرَّقوا قبل أن يبلغهم ، فأعتق رقبةً ؛ شكراً لله ألا يكون جرى على يديه خزي مسلمٍ.
السَّابعة عشرة : تفقُّد أحوال النَّاس :
كان رضي الله عنه ودوداً رؤوفاً يسأل عن أحوال المسلمين ، ويتعرَّف مشكلاتهم، ويطمئنُّ على غائبهم ، ويواسي قادمهم ، ويسأل عن مرضاهم ، فقد روى الإمام أحمد عن موسى بن طلحة ، قال : رأيت عثمان بن عفَّان وهو على المنبر ، وهو يستخبر النَّاس ، يسألهم عن أخبارهم ، وأسعارهم.
وروى ابن سعدٍ في الطَّبقات عنه أيضاً قال : رأيت عثمان بن عفَّان يخرج يوم الجمعة عليه ثوبان أصفران، فيجلس على المنبر، فيؤذِّن المؤذِّن، وهو يتحدَّث يسأل النَّاس عن أسفارهم ، وعن قادمهم ، وعن مرضاهم، وكان رضي الله عنه يهتم بشؤون الرَّعيَّة ، ويصل ذوي الحاجة ، ويفرض العطاء للمواليد من بيت المال، فقد رُوي عن عروة بن الزُّبير ، قال : أدركت زمن عثمان ، وما من نفسٍ مسلمةٍ إلا ولها في مال الله حقٌّ يعني بيت المال.
الثامنة عشرة : تحديد الاختصاصات :
المراد بتحديد الاختصاص : تقسيم وظائف العمل على العاملين ، بحيث يكون كلُّ موظَّفٍ عالماً بالعمل الّذي كُلِّفه؛ ليقوم به دون تقصيرٍ فيه، ولا يتجاوزه إلى عملٍ أخر مسندٍ إلى سواه ، وتقسيم الوظائف سنَّةٌ كونيَّةٌ ربَّانيَّةٌ ، عمل بها الرَّسول (ﷺ) ، والخلفاء الرَّاشدون من بعده ، ففي عهد عثمان رضي الله عنه وُزِّعت الوظائف، والأعمال على المسلمين كلٌّ في ميدانه، كما سيأتي بيانه بإذن الله، ففي مؤسَّسة القضاة، والمال، والجيش، وولاية الأمصار ظهرت الصِّفة القيادية في تحديد الاختصاصات عند الخليفة الرَّاشد عثمان رضي الله عنه. فقد تمَّ تقسيم الأعمال، وحُدِّدت قواعد بين العاملين، كانت من أهمِّ عوامل النَّجاح في دولة الخلفاء الرَّاشدين، وبذلك تعامل الخليفة الرَّاشد عثمان مع السُّنَّتين الكونيَّة ، والشَّرعيَّة في تحديد الاختصاصات.
التاسعة عشرة : الاستفادة من أهل الكفاءات :
إنَّ الإشادة بالأكفاء ، وإرشاد الأمَّة إلى احترامهم ، وتكريمهم ، ووضعهم في مواضعهم ، وعدم هضمهم حقوقهم ، والاستفادة من طاقاتهم ، واختصاصاتهم ؛ إنَّ ذلك ممَّا جعل أهل القرون المفضَّلة من سلف هذه الأمَّة ينالون العزَّ ، والمجد ، والتَّمكين في هذه المعمورة وقد ظهرت هذه الصِّفة في شخصيَّة عثمان رضي الله عنه عندما استفاد من كفاءات زيد بن ثابت واللَّجنة الّتي عُيِّنت معه في جمع القرآن على حرفٍ واحدٍ .
هذه بعض الصِّفات الّتي لاحظتها في شخصية عثمان رضي الله عنه ، وهي محلُّ قدوةٍ ، وأسوةٍ لقادة المسلمين ، وعوامِّهم لمن يريد أن يتَّبع هدي النَّبيّ (ﷺ) والخلفاء الرَّاشدين في هذه الحياة .
إنَّ معرفة صفات الخلفاء الرَّاشدين ، ومحاولة الاقتداء بهم خطوةٌ صحيحةٌ لمعرفة صفات القادة الرَّبَّانيِّين ، الّذين يستطيعون أن يقودوا الأمَّة نحو أهدافها المرسومة بخطواتٍ ثابتةٍ ، فمن أسباب التَّمكين لهذا الدِّين العمل على إيجاد قادةٍ ربَّانيِّين ، جرى الإيمان في قلوبهم ، وعروقهم ، وانعكست ثماره على جوارحهم ، وتفجَّرت صفات التَّقوى في أعمالهم ، وسكناتهم ، وأحوالهم ، فالقيادة الرَّبَّانيَّة الحكيمة هي الّتي تسعى لتحكيم شرع الله ، وتفجير طاقات الأمَّة وتوجيهها وهي الّتي تحتضن الإسلام ، وتنهجه قلباً وقالباً ، جوهراً ومنظراً ، وعقيدةً وشريعةً ، وديناً ودولةً ، وهي الّتي تصبح ، وتمسي ، وهمُّها عقيدتُها وأمَّتها ، وهي الّتي تسعى بكلِّ ما تملك لحلِّ المشاكل الّتي تواجهها ، وتعمل بكلِّ جهدٍ ، وإخلاصٍ للقضاء على عوائق التَّمكين الدَّاخلية ، والخارجيَّة .
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf