من مواقف عثمان رضي الله عنه في خلافته
بقلم الدكتور علي الصلابي
الحلقة الثالثة عشر
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م
الاحتساب :
اهتمَّ أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بالاحتساب بنفسه كما أسنده إلى غيره ، فقد ثبت قيامه رضي الله عنه بالاحتساب في مجالاتٍ عدَّةٍ منها :
1ـ إنكاره على لبس الثَّوب المعصفر :
ومن احتسابه رضي الله عنه : أنَّه أنكر على محمَّد بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لبسه الثَّوب المعصفر ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : راح عثمان رضي الله عنه إلى مكَّة حاجّاً ، ودخلتْ على محمَّد بن جعفر بن أبي طالب امرأته ، فبات معها حتَّى أصبح غدا عليه ردع الطِّيب، وملحفةٌ معصفرةٌ مفدَّمةٌ، فأدرك النَّاس بمللٍ، قبل أن يروحوا؛ فلمَّا رآه عثمان رضي الله عنه انتهر، وأفَّف، وقال: أتلبس المعصفر، وقد نهى عنه رسول الله (ﷺ) ؟!.
2ـ إنكاره على قاصدات العمرة والحجِّ وهنَّ في العدَّة :ومن احتسابه رضي الله عنه أنَّه كان يرد النِّساء اللَّواتي كنَّ يخرجن للعمرة ، أو الحجِّ ، وهنَّ في العدَّة ، فقد روى الإمام عبد الرزاق عن مجاهدٍ ، قال : كان عمر، وعثمان رضي الله عنهما يُرجعان حواجَّ ومعتمراتٍ من الجحفة ، وذي الحليفة.
3ـ أمره بذبح الحمام :
ومن احتسابه : أنَّه منع الناس من الانشغال في طيران الحمام، لمَّا بدؤوا فيه مع سعة العيش ، وأمرهم بذبحه ، فقد روى الإمام البخاريُّ عن الحسن ، قال : سمعت عثمان رضي الله عنه يأمر في خطبته بقتل الكلاب ، وذبح الحمام.
4ـ احتسابه على اللَّعب بالنَّرد :
كان عثمان رضي الله عنه ينهى عن اللَّعب بالنَّرد ، وأمر بتحريقه ، أو كسره ممَّن كان في بيته ، فقد روى الإمام البيهقيُّ عن زبيد بن الصَّلت ، أنَّه سمع عثمان بن عفَّان رضي الله عنه وهو على المنبر يقول : يا أيُّها الناس إيَّاكم والميسر يريد النَّرد فإنَّها قد ذكرت لي : أنَّها في بيوت ناسٍ منكم، فمن كان في بيته؛ فليحرقها ، أو فليكسرها . وقال عثمان رضي الله عنه مرَّةً أخرى وهو على المنبر : يا أيها الناس ! إنِّي قد كلَّمتكم في هذا النَّرد ، ولم أركم أخرجتموها ، فلقد هممت أن أمر بحزمِ الحطب، ثمَّ أرسل إلى بيوت الّذين هم في بيوتهم، فأحرقها عليهم.
5ـ إخراجه من يراه على شرٍّ ، أو يشهر سلاحاً في المدينة :
ومن احتسابه أيضاً : أنَّه كان ينكر على من يراه على شرٍّ ، أو كان يحمل معه سلاحاً ، ويخرجه من المدينة ، فعن سالم بن عبد الله رضي الله عنه قال : وجعل عثمان لا يأخذ أحداً منهم على شرٍّ ، أو شهر سلاحٍ عصا فما فوقها إلا سيَّره
.
6ـ ضربه لمن استخف بعمِّ النَّبيّ (ﷺ) :
ففي أيام خلافته ضرب رجلاً في منازعةٍ استخفَّ فيها بالعبَّاس بن عبد المطلب عمِّ الرَّسول (ﷺ) ، فقيل له عن مبرِّرات ضربه . فقال : نعم ! أيفخِّم رسول الله (ﷺ) عمَّه ، وأرخِّص في الاستخفاف به ، لقد خالف رسول الله (ﷺ) مَنْ فعل ذلك ومَنْ رضي به منه.
7ـ نهيه عن الخمر ؛ لأنَّها أم الخبائث :
روى النَّسائيُّ في سننه ، والبيهقيُّ في سننه عن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه أنَّه قال :
اجتنبوا الخمر ؛ فإنَّها أمُّ الخبائث ، إنَّه كان رجلٌ ممَّن خلا قبلكم يتعبَّد ، فَعَلِقَتْه امرأة أغوته ، فأرسلت إليه جاريتها ، فقالت له : إنَّها تدعوك للشَّهادة ، فانطلق مع جاريتها ، فطفق كلَّما دخل باباً أغلقَته دونه ، حتَّى أفضى إلى امرأةٍ وضيئةٍ ، عندها غلامٌ ، وباطية خمرٍ ، فقالت : والله ما دعوتك للشَّهادة ، ولكن دعوتك لتقع عليَّ ، أو تشرب من هذه الخمرة كأساً ، أو تقتل هذا الغلام ، قال : فاسقني من هذا الخمر كأساً ، فسقته كأساً ، فقال : زيدوني ، فلم يَرِمْ حتَّى وقع عليها ، وقتل الغلام ! فاجتنبوا الخمر، فإنَّها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا ويوشك أن يخرج أحدُهما من صاحبه !.
8 ـ مِنْ خطب عثمان في المجتمع وَمِنْ حِكَمِهِ :
أ ـ خطبة في الاستعداد ليوم المعاد :
يقول الحسن البصريُّ رحمه الله: خطب عثمان بن عفَّان ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثمَّ قال : أيها الناس ! اتَّقوا الله ، فإنَّ تقوى الله غُنم ، وإنَّ أكيس النَّاس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، واكتسب من نور الله نوراً لظلمة القبر ، وليخش عبدٌ أن يحشره الله أعمى ، وقد كان بصيراً ، وقد يكفي الحكيم جوامعُ الكلام ، والأصمُّ ينادَى من مكانٍ بعيدٍ ، واعلموا : أنَّ من كان الله معه لم يخف شيئاً ، ومن كان الله عليه؛ فمن يرجو بعده؟ !
وعن عثمان رضي الله عنه: أنَّ رسول الله (ﷺ) قال: إنَّ الجمَّاء لتُقصُّ من القرناء يوم القيامة.
ب ـ التَّذكير بمكارم الأخلاق :
قال عثمان رضي الله عنه : إنَّا والله صحبنا رسول الله (ﷺ) في السَّفر ، والحضر، فكان يعود مرضانا ، ويشيِّع جنائزنا ، ويغزو معنا ، ويواسينا بالقليل ، والكثير ، وإنَّ ناساً يعلمونني به ، عسى ألا يكون أحدُهم رآه قطُّ.
ج ـ من حكمه الّتي سارت بين النَّاس :
* قال رضي الله عنه : لو طهرت قلوبكم ، ماشبعتم من كلام ربِّكم.
* وقال رضي الله عنه : ماأسرَّ أحدٌ سريرةً إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه.
* إنَّ الله ليزعُ بالسُّلطان ما لا يزع بالقرآن.
* وكان رضي الله عنه لا يقيم للدُّنيا وزناً ، فقال فيها : ( هَمُّ الدُّنيا ظلمةٌ في القلب، وَهَمُّ الآخرة نورٌ في القلب ) .
* ومن حكمه البالغة : يكفيك من الحاسد أنَّه يغتمُّ وقت سرورك.
* وقال رضي الله عنه في أيام الفتنة : أستغفر الله إن كنت ظلمتُ ، وقد عفوتُ إن كنت ظُلِمتُ.
* ومن حكمه ، ومواعظه رضي الله عنه : إنَّ لكلِّ شيء أفةً ، ولكلِّ نعمةٍ عاهةً، وإنَّ أفة هذا الدِّين ، وعاهة هذه النِّعمة عيَّابون صغَّانون ، يُرُونكم ما تحبُّون ، ويُسِرُّون ما تكرهون ، طَغَامٌ مثل النَّعام.
* ولمَّا قدم عبد الله بن الزُّبير بفتح إفريقية ، أمره عثمان بن عفَّان رضي الله عنه فقام خطيباً ، فلمَّا فرغ من كلامه ، قال عثمان : انكحوا النِّساء على أبائهنَّ ، وإخوتهنَّ، فإنِّي لم أرَ في ولد أبي بكر الصِّدِّيق أشبه به من هذا، وعبد الله بن الزُّبير أمه أسماء بنت أبي بكر ، ويريد أنَّ ابن الزبير كان شبيهاً بجدِّه في الشَّجاعة، والإقدام ، والفصاحة .
* وقال رضي الله عنه : ما من عاملٍ يعمل عملاً إلا كساه الله رداء عمله.
* وقال رضي الله عنه : إنَّ المؤمن في خمسة أنواع من الخوف : أحدها من قبل الله تعالى أن يأخذ منه الإيمان ، والثَّاني من قبل الحفظة أن يكتبوا عليه ما يفتضح به يوم القيامة ، والثَّالث من قبل الشَّيطان أن يبطل عمله ، والرَّابع من قبل ملك الموت أن يأخذه في غفلةٍ بغتةً، والخامس من قبل الدُّنيا أن يغترَّ بها، وتُشغله عن الأخرة.
* وقال رضي الله عنه : وجدت حلاوة العبادة في أربعة أشياء : أوَّلها في أداء فرائض الله ، والثَّاني في اجتناب محارم الله ، والثَّالث في الأمر بالمعروف ابتغاء ثواب الله ، والرَّابع في النَّهي عن المنكر اتِّقاء غضب الله.
9 ـ عثمان رضي الله عنه والشِّعر والشُّعراء :
لم تذكر لنا المصادر والمراجع سوى النَّزر القليل عن علاقة عثمان رضي الله عنه مع الشِّعر ، والشُّعراء ، مع أنَّ فترة خلافته كانت طويلة نسبياً ، ومن هذا القليل تبيَّن لنا أنَّه كان ملتزماً المنهج العامَّ للعقيدة الإسلاميَّة الّتي وضَّح معالمها الرَّسول (ﷺ) والّتي سلك طريقها سلفه أبو بكر الصِّدِّيق ، وعمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما، ولا شكَّ : أنَّ لكلٍّ منهم شخصيته الأدبيَّة المميَّزة ، فقد اشتهر أبو بكر بمعرفة الأنساب ، وبعلمه الوافر ، وحسن مجالسته ، وبروايته للشِّعر ، واشتهر عمر بالحثِّ على تعلُّم الشِّعر ، وأنَّه لم تكن تعرض له قضيَّةٌ إلا تمثَّل ببيت شعرٍ ، أضف إلى ذلك: أنَّه كان شاعراً ، أمَّا عثمان بن عفَّان رضوان الله عليهم فلم يؤثر عنه ذلك الانغماس الكبير في الشِّعر ، أو تلك العلاقة الحميمة مع الشُّعراء ، وإذا كنَّا نعرف : أنَّ الشعراء كانوا يتهافتون على أبواب الأمراء طمعاً برضاهم ، وبأعطيتهم ، فإننا نرى : أنَّ الشعراء أيَّام عثمان ، يتركون الحواضر ، ودار الخلافة ويؤثرون العودة إلى البادية، وقد ذكرت كتب الأدب ، والتَّاريخ بعض الأبيات نسبتها إلى عثمان ، أو كان يتمثَّل بها، ومن هذه الأبيات ما يروى أنَّه قال :
وَاعْلَمْ بأنَّ الله لَيْسَ كَصُنْعِهِ صُنْعٌ وَلا يَخْفى عَلَيهِ مُلْحِدُ
وكان كثيراً ما ينشد أبياتاً قالها ، ويطيل ذكرها ، لا تعرف لغيره :
تَفْنَى اللَّذَائِذُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا مِنَ الحَرَامِ وَيبْقَى الإثْمُ وَالْعار
يَلْقَى عَوَاقِبَ سُوْءٍ مِنْ مَغَبَّتِهَا لا خَيْرَ في لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا نَارُ
قال يوم دخل عليه الثَّائرون في بيته ليقتلوه :
أَرَى الْمَوتَ لاَ يُبْقِي عَزيْزاً وَلَمْ يَدَع لِعَاد مَلاَذاً فِي البِلاَدِ وَمَرْتَعا
وقال لما حوصر في داره :
يُبَيَّتُ أَهْلُ الحِصْنِ وَالحِصْنُ مُغْلَقٌ وَيَأتِي الجِبَالَ الْمَوْتُ شِمْرَاخَها العُلاَ
ويروى له أيضاً :
غِنَى النَّفْسِ يُغْنِي النَّفْسَ حَتَّى يَكُفَّها وإنْ عَضَّهَا حَتَّى يَضُرَّ بِهَا الْفَقْرُ
وَمَا عُسْرَةٌ فَاصْبِرْ لَهَا إنْ لَقِيْتَ بِكَائِنَةٍ إلا سَيَتْبَعُهَا يُسْر
ونلاحظ في البيت الأخير ، أنَّه يتضمَّن معنىً قرآنيّاً : {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *} [الشرح : 6 ] وهذا ليس غريباً على الخليفة المسلم ، الّذي نشأ ، وترعرع في أحضان محمَّد (ﷺ) فهو يعاقب على شعر الهجاء الّذي يتعارض ، وأحكام الشريعة الإسلاميَّة، ويثني على الشِّعر الحسن ، ويحبُّ الاستماع إليه ، وكلُّ ذلك ضمن المفاهيم الإسلاميَّة.
وإذا كان الخليفة الرَّاشد الثَّالث لم يهتمَّ بالشِّعر ، ولم يقرِّب إليه الشُّعراء ، فإنَّ مقتله من قبل الغوغاء فتح الباب على مصراعيه لازدهار الشِّعر السِّياسيِّ الّذي أصبح الأداة الصَّحافيَّة الفاعلة في العصور الإسلاميَّة المتلاحقة ، فعند مقتله بكاه كثيرٌ من شعراء الصَّحابة وسيأتي بيان ذلك بإذن الله.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf