الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

أحقّية خلافة عثمان وانعقاد الإجماع على بيعته

بقلم الدكتور علي الصلابي

الحلقة الحادية عشر

ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م

أحقِّيَّة خلافة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه :
لا يشكُّ مؤمنٌ في أحقِّيَّة خلافة عثمان رضي الله عنه وصحَّتها ، وأنَّه لا مطعن فيها لأحدٍ إلا ممَّن أصيب قلبه بزيغ ، فنقم على أصحاب رسول الله (ﷺ) بسبب ما حلَّ في قلبه من الغيظ منهم ، وهذا لم يحصل إلا من الأعداء الّذين جعلوا رأس مالهم في هذه الحياة الدُّنيا هو سبُّ الصَّحابة رضي الله عنهم ، وبغضهم ، ولا قيمة لما يوجِّهونه من المطاعن على خلافة الثَّلاثة رضي الله عنهم لظهور بطلانه ، وأنَّها افتراءاتٌ لا تصحُّ ، وقد جاء في جملةٍ من النُّصوص القطعيَّة الصَّحيحة ، والأثار الشَّهيرة التَّنبيه ، والإيماء إلى أحقيَّة خلافة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه ، ومن ذلك:
1 ـ قوله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *} [النور : 55 ] . وجه الاستدلال بهذه الآية على أحقِّيَّة خلافة عثمان رضي الله عنه أنَّه من الّذين استخلفهم الله في الأرض ، ومكَّن لهم فيها ، وسار في النَّاس أيام خلافته سيرةً حسنةً ؛ حيث حكم فيهم بالعدل ، وأقام الصَّلاة ، وآتى الزَّكاة ، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر ، فهذه الآية تضمَّنت الإشارة إلى أحقِّيَّة خلافته رضي الله عنه.

2 ـ قوله تعالى : {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *} [الفتح : 16 ] . وجه الاستدلال بهذه الآية على أحقِّيَّة خلافة عثمان رضي الله عنه هو أنَّ الدَّاعي لهؤلاء الأعراب داع يدعوهم بعد نبيِّه (ﷺ) وهو أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، رضي الله عنهم ، فأبو بكر دعاهم إلى قتال الرُّوم، والفرس ، والتُّرك فوجبت طاعة هؤلاء الثَّلاثة رضي الله عنهم بنصِّ القرآن، وإذا وجبت طاعتهم ، صحَّت خلافتهم ، رضي الله عنهم ، وأرضاهم.
3 ـ عن أبي موسى رضي الله عنه قال : إنَّ النَّبيّ (ﷺ) دخل حائطاً ، وأمرني بحفظ باب الحائط ، فجاء رجلٌ يستأذن ، فقال : « ائذن له ، وبشِّره بالجنَّة » فإذا هو أبو بكر ، ثمَّ جاء آخر يستأذن ، فقال : « ائذن له ، وبشِّره بالجنَّة » فإذا هو عمر ، ثمَّ جاء آخر يستأذن ، فقال : « ائذن له وبشِّره بالجنَّة على بلوى تصيبه » فإذا هو عثمان ابن عفَّان. هذا الحديث فيه إشارةٌ إلى ترتيب الثَّلاثة في الخلافة ، وإخبارٌ عن بلوى تصيب عثمان ، وهذه البلوى حصلت له رضي الله عنه ، وهي حصاره يوم الدَّار ، حتَّى قتل انذاك مظلوماً ، فالحديث علمٌ من أعلام النُّبوَّة ، وفيه الإشارة إلى كونه شهيداً رضي الله عنه ، وأرضاه.
4 ـ روى أبو داود ـ رحمه الله ـ بإسناده إلى جابر بن عبد الله : أنَّه كان يحدِّث : أنَّ رسول الله (ﷺ) قال : رأى اللَّيلة رجلٌ صالحٌ : أنَّ أبا بكر نيط برسول الله ، ونيط عمر بأبي بكرٍ ، ونيط عثمان بعمر . قال جابر : فلمَّا قمنا من عند رسول الله (ﷺ) قلنا : أمَّا الرَّجل الصَّالح ؛ فرسول الله (ﷺ) ، وأمَّا تنوُّط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر ؛ الّذي بعث الله به نبيَّه (ﷺ) .
5 ـ وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله (ﷺ) يقول : « إنَّها ستكون فتنةٌ ، واختلافٌ ، أو اختلافٌ ، وفتنةٌ » قال: قلنا : يا رسول الله ! فما تأمرنا ؟ قال : « عليكم بالأمين ، وأصحابه » وأشار إلى عثمان.
وهذا الحديث فيه معجزةٌ ظاهرةٌ للنَّبيِّ (ﷺ) الدَّالَّة على صدق نبوَّته ؛ حيث أخبر بالفتنة الّتي حصلت أيام خلافة عثمان وكانت كما أخبر، كما تضمَّن الحديث التَّنبيه على أحقيَّة خلافة عثمان؛ إذ إنَّه (ﷺ) أرشد النَّاس إلى أن يلزموه ، وأخبر بأنَّه حين وقوع الفتنة والاختلاف فالحقُّ مع أمير المؤمنين، وأمرهم بالالتفاف حوله وملازمته، لكونه على الحقِّ، والخارجون عليه على الباطل، أهل زيغ ، وهوىً ، وقد شهد له الرسول (ﷺ) بأنَّه سيكون مستمرّاً على الهدى لا ينفكُّ عنه.
6 ـ روى أبو عيسى التِّرمذيُّ بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها : أنَّ النَّبيّ (ﷺ) قال : « يا عثمان ! إنَّه لعلَّ الله يقمصك قميصاً ، فإن أرادوك على خلعه ؛ فلا تخلعه لهم » . ففي هذا الحديث الإشارة إلى الخلافة ، واستعارة القميص لها وذكر الخلع ترشيحٌ ، أي : سيجعلك الله خليفةً ، فإن قصد النَّاس عزلك ، فلا تعزل نفسك عنها لأجلهم لكونك على الحقِّ ، وكونهم على الباطل.
7 ـ وروى التِّرمذيُّ بإسناده إلى أبي سهلة ، قال : قال لي عثمان يوم الدَّار : إنَّ رسول الله (ﷺ) قد عهد إليَّ عهداً ، فأنا صابرٌ عليه . فقوله : قد عهد إليَّ عهداً ، أي: أوصاني ألا أخلع بقوله : وإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم ، فأنا صابرٌ عليه ، أي: على ذلك العهد
8 ـ وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سهلة مولى عثمان عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله (ﷺ) قال : « ادعوا لي ـ أو ليت عندي ـ رجلاً من أصحابي » . قالت : قلت : أبو بكر . قال : « لا ! » قلت : عمر . قال : « لا ! » قلت: ابن عمِّك عليٌّ . قال : « لا ! » قلت : فعثمان : قال : « نعم ! » قالت : فجاء عثمان ، فقال : « قومي ! » قال : فجعل النَّبيُّ (ﷺ) يسرُّ إلى عثمان ، ولون عثمان يتغيَّر . قال : فلما كان يوم الدَّار ؛ قلنا : ألا تقاتل ؟ قال : لا : إنَّ رسول الله (ﷺ) عهد إليَّ أمراً فأنا صابرٌ نفسي عليه.
فهذا الحديث والّذي قبله فيهما دلالةٌ على صحَّة خلافته، فمن أنكر خلافته ولم يره من أهل الجنَّة، والشُّهداء، وأساء الأدب فيه باللِّسان، أو الجنان، فهو خارجٌ عن دائرة الإيمان، وحيِّز الإسلام.
9 ـ وممَّا دل على صحَّة خلافته ، وإمامته ما رواه البخاريُّ بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كنَّا في زمن النَّبيّ (ﷺ) لا نعدل بأبي بكرٍ أحداً ، ثمَّ عمر ، ثمَّ عثمان ، ثمَّ نترك أصحاب النَّبيّ (ﷺ) لا نفاضل بينهم، وفي هذا إشارة إلى أنَّ الله تعالى ألهمهم، وألقى في رُوعهم ما كان صانعه بعد نبيِّه (ﷺ) من أمر ترتيب الخلافة.
قال ابن تيميَّة : فهذا إخبارٌ عمَّا كان عليه الصَّحابة على عهد النَّبيّ (ﷺ) من تفضيل أبي بكرٍ ، ثمَّ عمر ، ثمَّ عثمان ، وقد روي : أنَّ ذلك كان يبلغ النَّبيّ (ﷺ) ، فلا ينكره ، وحينئذٍ فيكون هذا التَّفضيل ثابتاً بالنَّص ، وإلا فيكون ثابتاً بما ظهر بين المهاجرين ، والأنصار على عهد النَّبيِّ (ﷺ) من غير نكيرٍ ، وبما ظهر لمَّا توفي عمر ، فإنَّهم كلَّهم بايعوا عثمان بن عفَّان من غير رغبةٍ ، ولا رهبةٍ ، ولم ينكر هذه الولاية منكرٌ منهم.
وكل ما تقدَّم ذكره من النُّصوص في هذه الفقرة أدلَّةٌ قويَّةٌ كلُّها فيها الإشارة والتَّنبيه إلى أحقِّيَّة خلافة عثمان رضي الله عنه ، وأنَّه لا مرية في ذلك ولا نزاع عند المتمسِّكين بالكتاب ، والسُّنَّة ، والّذين هم أسعد النَّاس بالعمل بهما ، وهم أهل السُّنَّة ، والجماعة ، فيجب على كلِّ مسلمٍ أن يعتقد أحقِّيَّة عثمان رضي الله عنه، وأن يسلِّم تسليماً كاملاً للنُّصوص الدَّالَّة على ذلك.

انعقاد الإجماع على خلافة عثمان :
أجمع أصحاب رسول الله (ﷺ) ، وكذا من جاء بعدهم ممَّن سلك سبيلهم من أهل السُّنَّة والجماعة على أنَّ عثمان بن عفَّان رضي الله عنه أحقُّ النَّاس بخلافة النُّبوَّة بعد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ، ولم يخالف ، أو يعارض في هذا أحدٌ ، بل الجميع سلَّم له بذلك ؛ لكونه أفضل خلق الله على الإطلاق بعد الشَّيخين أبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما ، وقد نقل الإجماع على أحقيَّة عثمان رضي الله عنه بالخلافة بعد عمر رضي الله عنه طائفةٌ من أهل العلم بالحديث ، وغيرهم ، ومن تلك النُّقول:
1ـ ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده إلى حارثة بن مضرب ، قال : حججت في إمارة عمر ، فلم يكونوا يشكُّون أنَّ الخلافة من بعده لعثمان.
2ـ وروى أبو نعيم الأصبهانيُّ بإسناده إلى حذيفة رضي الله عنه قال: إنِّي لواقف مع عمر تمسُّ ركبتي ركبته، فقال: من ترى قومك يؤمِّرون؟ قال: إنَّ الناس قد أسندوا أمرهم إلى ابن عفَّان.
3ـ ونقل الحافظ الذَّهبي عن شريك بن عبد الله القاضي ، أنَّه قال : قُبض النَّبيّ (ﷺ) فاستخلف المسلمون أبا بكرٍ ، فلو علموا : أنَّ فيهم أحداً أفضل منه ؛ كانوا قد غَشّوا ، ثمَّ استخلف أبو بكرٍ عمر ، فقام بما قام به من الحقِّ ، والعدل ، فلمَّا احتضر جعل الأمر شورى بين ستَّةٍ ، فاجتمعوا على عثمان ، فلو علموا : أن فيهم أفضل منه كانوا قد غشّونا.
فهذه النُّقول فيها بيانٌ واضح في أنَّ أصحاب النَّبيّ (ﷺ) قد اشتهر بينهم أولويَّة عثمان بالخلافة ، وما زال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه حيَّاً ؛ لما سبق من علمهم ببعض النُّصوص المشيرة إلى أنَّ ترتيبه سيكون في خلافة النُّبوَّة بعد الفاروق رضي الله عنه ، ولعلمهم أنَّه أفضل النَّاس على الإطلاق بعد أبي بكرٍ ، وعمر رضي الله عنهما.
4ـ روى ابن سعدٍ بإسناده إلى النزَّال بن سبرة رضي الله عنه قال : قال عبد الله ابن مسعودٍ حين استُخلف عثمان : استخلفنا خير من بقي ، ولم نألُ ـ أي : لم نقصر في اختيار الأفضل ـ وفي روايةٍ أخرى قال : أمَّرنا خير من بقي ، ولم نأل.
5ـ وقال الحسن بن محمَّد الزَّعفرانيُّ : سمعت الشَّافعيَّ يقول : أجمع النَّاس على خلافة أبي بكرٍ ، واستخلف أبو بكرٍ عمر ، ثمَّ جعل عمر الشُّورى إلى ستَّةٍ على أن يولّوها واحداً ، فولَّوها عثمان رضي الله عنهم أجمعين.
وقد نقل أبو حامد محمَّد المقدسيُّ كلاماً عزاه للإمام الشَّافعيِّ ـ رحمه الله أنَّه قال واعلموا: أنَّ الإمام الحقُّ بعد عمر رضي الله عنه عثمان رضي الله عنه بجعل أهل الشُّورى اختيار الإمامة إلى عبد الرحمن بن عوف، واختياره لعثمان رضي الله عنه، وإجماع الصَّحابة رضي الله عنهم، وصوبوا رأيه فيما فعله ، وأقام النَّاس على محجَّة الحقِّ ، وبسط العدل إلى أن استشهد رضي الله عنه.
6ـ وذكر ابن تيميَّة عن الإمام أحمد : أنَّه قال : لم يجتمعوا على بيعة أحدٍ ما اجتمعوا على بيعة عثمان.
7ـ وقال أبو الحسن الأشعريُّ : وثبتت إمامة عثمان رضي الله عنه بعد عمر بعقد مَنْ عقد له الإمامة من أصحاب الشُّورى ، الّذين نصَّ عليهم عمر ، فاختاروه ورضوا بإمامته ، وأجمعوا على فضله ، وعدله.
8 ـ وقال عثمان الصَّابوني مبيِّناً عقيدة السَّلف ، وأصحاب الحديث في ترتيب الخلافة بعد أن ذكر : أنَّهم يقولون أوَّلاً بخلافة الصِّدِّيق ، ثمَّ عمر ، قال : ثمَّ خلافة عثمان رضي الله عنه بإجماع أهل الشُّورى ، وإجماع الأصحاب كافَّةً ، ورضاهم به حتَّى جعل الأمر إليه.
9ـ وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمة الله تعالى عليه وعلى جميع العلماء المصلحين: وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفَّان ، لم يتخلَّف عن بيعته أحد .. فلمَّا بايعه ذوو الشَّوكة ، والقدرة صار إماماً ، وإلا فلو قُدِّر أن عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه عليٌّ ، ولا غيره من الصَّحابة أهل الشوكة لم يصر إماماً ، ولكن عمر لما جعلها شورى في ستَّةٍ : عثمان ، وعليٍّ ، وطلحة ، والزُّبير ، وسعدٍ ، وعبد الرحمن بن عوف ، ثمَّ إنَّه خرج طلحة ، والزُّبير ، وسعد باختيارهم ، وبقي عثمان، وعليٌّ ، وعبد الرحمن لا يتولَّى ويولي أحد الرَّجلين ، وأقام عبد الرحمن ثلاثاً حلف أنَّه لم يغمض فيها بكبير نوم يشاور السَّابقين الأوَّلين ، والتَّابعين لهم بإحسان، يشاور أمراء الأجناد، وكانوا قد حجُّوا مع عمر ذلك العام ، فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان ، وذكر ؛ أنَّهم كلَّهم قدَّموا عثمان ، فبايعوه لا عن رغبةٍ أعطاهم إيَّاها، ولا عن رهبةٍ أخافهم بها، ولهذا قال غير واحدٍ من السَّلف ، والأئمة كأيوب السَّختيانيِّ ، وأحمد بن حنبل ، والدَّارقطني ، وغيرهم : من قدَّم عليّاً على عثمان ، فقد أزرى بالمهاجرين ، والأنصار، وهذا من الأدلَّة الدَّالَّة على أنَّ عثمان أفضل ، لأنَّهم قدَّموه باختيارهم ، واشتوارهم.
10ـ وقال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ حاكياً لإجماع الصَّحابة على خلافة عثمان رضي الله عنه ويروى أنَّ أهل الشُّورى جعلوا الأمر إلى عبد الرحمن ، ليجتهد للمسلمين في أفضلهم ، ليولِّيه ، فيذكر : أنَّه سأل من يمكنه سؤاله من أهل الشُّورى ، وغيرهم ، فلا يشير إلا بعثمان بن عفَّان ، حتَّى إنَّه قال لعليٍّ رضي الله عنه: أرأيت إن لم أولك بمن تشير به عليَّ ؟ قال : بعثمان ، وقال لعثمان رضي الله عنه : أرأيت إن لم أولِّك بمن تشير به ؟ قال : بعليِّ بن أبي طالبٍ ، والظَّاهر : أنَّ هذا كان قبل أن ينحصر الأمر في ثلاثة ، وينخلع عبد الرَّحمن منها لينظر الأفضل ، والله عليه والإسلام ليجتهد في أفضل الرَّجلين فيوليه ، ثمَّ نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير النَّاس فيهما ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس النَّاس ، وأقيادهم جميعاً وأشتاتاً ، مثنى وفرادى ومجتمعين ، سرّاً وجهراً ، حتَّى خلص إلى النِّساء المخدَّرات في حجابهنَّ ، وحتَّى سأل الولدان في المكاتب ، وحتَّى سأل من يَرِدُ من الرُّكبان ، والأعراب إلى المدينة في مدَّة ثلاثة أيَّامٍ بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقدُّم عثمان بن عفَّان رضي الله عنه ، فسعى في ذلك عبد الرَّحمن ثلاثة أيام بلياليها لا يغتمض بكثير نومٍ إلا في صلاةٍ ، ودعاءٍ، واستخارةٍ ، وسؤالٍ من ذوي الرَّأي عنهم ، فلم يجد أحداً يعدل بعثمان بن عفَّان رضي الله عنه ، فلمَّا كان اللَّيلة الّتي يسفر صباحها عن اليوم الرَّابع من موت عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه جاء إلى منزل ابن أخته المسور بن مخرمة ، وأمره أن ينادي له عليّاً ، وعثمان ، رضي الله عنهما ، فناداهما ، فحضرا إلى عبد الرَّحمن ، فأخبرهما : أنَّه سأل النَّاس ، فلم يجد أحداً يعدل بهما أحداً ، ثمَّ أخذ العهد على كلٍّ منهما أيضاً لئن ولاه ؛ ليعدلنَّ ، ولئن ولِّي عليه ؛ ليسمعنَّ ، وليطيعنَّ ، ثمَّ خرج إلى المسجد ، وقد لبس عبد الرَّحمن العمامة الّتي عمَّمه بها رسول الله (ﷺ) ، وتقلَّد سيفاً ، وبعث إلى وجوه النَّاس من المهاجرين ، والأنصار، ونودي في النَّاس عامَّةً: الصَّلاة جامعةً ، فامتلأ المسجد بالنَّاس حتَّى غصَّ بالنَّاس ، وتراصَّ النَّاس ، وتراصَّوا حتَّى لم يبق لعثمان موضع يجلس فيه إلا في أخريات النَّاس ـ وكان رجلاً حييّاً رضي الله عنه ـ .
ثمَّ صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله (ﷺ) فوقف وقوفاً طويلاً ، ودعا دعاءً طويلاً ، لم يسمعه النَّاس ، ثمَّ تكلَّم ، فقال : أيُّها الناس ! إنِّي سألتكم سرّاً وجهراً عن إمامكم ، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرَّجلين إمَّا عليٍّ ، وإما عثمان ، فقم إليَّ يا عليُّ ، فقام إليه ، فوقف تحت المنبر، فأخذ عبد الرَّحمن بيده ، فقال : هل أنت مبايعي على كتاب الله ، وسنَّة نبيِّه (ﷺ) ، وفعل أبي بكرٍ ، وعمر ؟ قال : اللَّهم لا ! ولكن على جهدي من ذلك ، وطاقتي . قال: فأرسل يده ، وقال : قم إليَّ يا عثمان ! فأخذ بيده، وقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنَّة رسوله (ﷺ) وفعل أبي بكرٍ ، وعمر ؟ قال: اللَّهمَّ نعم ! قال : فرفع رأسه إلى سقف المسجد ؛ ويده في يد عثمان وقال : اللَّهمَّ اسمع ، واشهد ! اللهم اسمع ، واشهد ! اللَّهمَّ اسمع ، واشهد ! اللَّهُمَّ إنِّي قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان .
وقال : وازدحم النَّاس يبايعون عثمان حتَّى غشوه تحت المنبر ، قال : فقعد عبد الرَّحمن مقعد النَّبيِّ (ﷺ) ، وأجلس عثمان تحته على الدَّرجة الثانية ، وجاء إليه النَّاس يبايعونه ، وبايعه عليُّ بن أبي طالبٍ أولاً ، ويقال ثانياً.
فهذه النُّقول المتقدِّم ذكرها للإجماع عن هؤلاء الأئمَّة كلُّها تفيد إفادةً قطعيَّةً أنَّ البيعة بالخلافة تمَّت لعثمان رضي الله عنه بإجماع الصَّحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، ولم يخالف ، أو يعارض في ذلك أحدٌ.

يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022