ذو النُّورين في عهد الصدِّيق والفاروق
بقلم الدكتور علي الصلابي
الحلقة الثامنة
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م
أولاً : في عهد الصِّدِّيق
1ـ من أهل الشُّورى في مسائل الدَّولة العليا :
كان عثمان رضي الله عنه من الصَّحابة ، وأهل الشُّورى الّذين يؤخذ رأيهم في أمَّهات المسائل في خلافة أبي بكر ، فهو ثاني اثنين في الحظوة عند الصِّدِّيق : عمر ابن الخطَّاب للحزَامة ، والشَّدائد ، وعثمان بن عفَّان للرِّفق ، والأناة . وكان عمر وزير الخلافة الصِّدِّيقيَّة ، وكان عثمان أمينها العام ، وناموسها الأعظم ، وكاتبها الأكبر، وكان رأيه مقدَّماً عند الصِّدِّيق ، فبعد أن قضى أبو بكر على حركة الردَّة؛ أراد أن يغزو الرُّوم وينطلق الجيش المجاهد إلى أطراف الأرض ، فقام في النَّاس يستشيرهم، فقال الألبَّاء ما عندهم ، ثمَّ استزادهم أبو بكرٍ ، فقال : ما ترون ؟ فقال عثمان : إنِّي أرى أنَّك ناصحٌ لأهل هذا الدِّين ، شفيقٌ عليهم ، فإذا رأيت رأياً لعامَّتهم صلاحاً ؛ فاعزم على إمضائه ، فإنَّك غير ظنين، فقال طلحة ، والزُّبير، وسعدٌ ، وأبو عبيدة ، وسعيد بن زيد ، ومن حضر ذلك المجلس من المهاجرين ، والأنصار رضي الله عنهم: صدق عثمان ! ما رأيتَ من رأيٍ فأمْضهِ. ولما أراد الصِّدِّيق أن يبعث والياً إلى البحرين ، استشار أصحابه ، فقال عثمان : ابعث رجلاً قد بعثه رسول الله إليهم ، فقدم عليه بإسلامهم ، وطاعتهم ، وقد عرفوه ، وعرفهم، وعرف بلادهم ـ يعني : العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه ـ فبعث الصِّدِّيق العلاء إلى البحرين.
ولما اشتدَّ المرض بأبي بكرٍ استشار النَّاس فيمن يحبُّون أن يقوم بالأمر من بعده ، فأشاروا بعمر ، وكان رأي عثمان في عمر : الّلهمَّ علمي به : أنَّ سريرته خيرٌ من علانيته ، وأنَّه ليس فينا مثله.
فقال أبو بكر : يرحمك الله ! والله لو تركته ما عَدَتْك !
2ـ أزمةٌ اقتصاديَّةٌ في عهد الصِّدِّيق :
عن ابن عباس قال : قحط المطر على عهد أبي بكر الصِّدِّيق ، فاجتمع النَّاس إلى أبي بكرٍ، فقالوا : السَّماء لم تمطر ، والأرض لم تُنبت ، والنَّاس في شدَّةٍ شديدة . فقال أبو بكر : انصرفوا ، واصبروا ، فإنَّكم لا تُمسون حتَّى يُفرِّجَ الله الكريم عنكم . قال : فما لبثنا أن جاء أُجَرَاء عثمان من الشَّام ، فجاءته مئة راحلةٍ بُرّاً ـ أو قال : طعاماً ـ فاجتمع النَّاس إلى باب عثمان ، فقرعوا عليه الباب ، فخرج إليهم عثمان في ملأ من الناس فقال : ما تشاؤون ؟ قالوا : الزَّمان قد قحط : السَّماء لا تمطر ، والأرض لا تُنبت، والنَّاس في شدَّة شديدةٍ ، وقد بلغنا أنَّ عندك طعاماً ، فبعنا حتَّى نوسِّع على فقراء المسلمين . فقال عثمان : حبّاً وكرامةً ، ادخلوا فاشتروا ، فدخل التُّجار ، فإذا الطَّعام موضوع في دار عثمان ، فقال : يا معشر التُّجار كم تربحونني على شرائي من الشَّام؟ قالوا : للعشرة اثنا عشر . قال عثمان : قد زادوني . قالوا : للعشرة خمسة عشر . قال عثمان : قد زادوني . قال التُّجار : يا أبا عمرو ما بقي بالمدينة تجارٌ غيرنا، فمن زادك؟ قال : زادني الله ـ تبارك وتعالى ـ بكلِّ درهم عشرة ، أعندكم زيادة ؟ قالوا: اللهم لا ! قال : فإنِّي أُشهد الله أنِّي قد جعلت هذا الطعام صدقةً على فقراء المسلمين! قال ابن عبَّاس : فرأيت من ليلتي رسول الله (ص) في المنام ، وهو على برذونٍ أبلق، عليه حُلَّة من نورٍ ، في رجليه نعلان من نورٍ ، وبيده قصبة من نورٍ ، وهو مستعجلٌ فقلت : يا رسول الله ! قد اشتدَّ شوقي إليك ، وإلى كلامك ، فأين تُبادر ؟ قال : « يا بن عباس ! إنَّ عثمان قد تصدَّق بصدقةٍ ، وإنَّ الله قد قبلها منه ، وزوَّجه عروساً في الجنَّة، وقد دُعينا إلى عرسه».
فهل يفتح الله تعالى أذان عبَّاد المال ، ومحتكري قوت العباد شحّاً ، وجشعاً إلى صوت هذه العظمة العثمانيَّة حتَّى تدلف إلى قلوبهم فتهزَّها هزَّة الأريحيَّة، والعطف، وتوقظ فيها بواعث الرَّحمة، والإحسان بالفقراء، والمساكين، والأرامل، واليتامى، وذوي الحاجات من أهل الفاقة ، والبؤس ، الّذين طحنتهم أزمة الحياة ، واعتصرت دماءهم شراباً لذوي القلوب المتحجِّرة من الأثرياء ؟ فما أحوج المسلمين في هذه المرحلة من حياتهم إلى نفحةٍ عثمانيَّة في إنفاق الأموال على الفقراء ، والمساكين ، والمحتاجين ؛ تسري بينهم تعاطفاً ، ومؤاساةً ، وبرّاً وإحساناً.
هذا موقف من مواقف الكرم والبرِّ لعثمان رضي الله عنه ، فقد كان رضي الله عنه من أرحم النَّاس بالنَّاس ، فهو يقرأ قول ربِّ النَّاس : {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى*} [العلق : 6 ] ؛ فيصدُّه ذلك عن الطُّغيان ، ويقرأ قوله تعالى : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *} [البقرة : 44 ] . فيجعله ذلك من أبعد النَّاس عن النِّفاق والمنافقين ، ويقرأ قوله تعالى : {لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ *} [البقرة : 177 ] فيحمله ذلك على أن يكون من{أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ *} [البقرة : 177 ] .
ثانياً : في عهد الفاروق :
كان عثمان ذا مكانةٍ عند عمر ، فكانوا إذا أرادوا أن يسألوا عمر عن شيءٍ ؛ رَمَوه بعثمان ، وبعبد الرحمن بن عوف ، وكان عثمان يسمَّى الرَّديف ـ والرَّديف بلسان العرب : هو الذي يكون بعد الرَّجل ، والعرب تقول ذلك للرَّجل الّذي يرجونه بعد رئيس ـ وكانوا إذا لم يقدر هذان على عمل شيءٍ ؛ ثلَّثوا بالعبَّاس.
وقد حدث ذات مرَّةٍ أن خرج عمر بالنَّاس ، وعسكر بهم بما يُدعى ( صِراراً ) فجاء عثمان ، فسأله : ما بلغك ؟ ما الّذي تريد ؟ فنادى عمر رضي الله عنه ( الصَّلاة جامعة ) ثمَّ أخبر النَّاس عن عزمه في غزو العراق.
ولمَّا ولِّي عمر الخلافة استشار وجوه الصَّحابة في عطائه من بيت مال المسلمين، فقال له عثمان : كل ، وأطعم. وعندما أرسل أبو عبيدة إلى عمر أن يقدم إلى بيت المقدس ، ليفتحه ، فاستشار عمر النَّاس ، فأشار عثمان بأن لا يركب إليهم ؛ ليكون أحقر لهم ، وأرغم لأنوفهم ، وقال لعمر : فأنت إن أقمت ولم تسر إليهم رأوا أنَّك بأمرهم مستخفٌّ ، ولقتالهم مستعدٌّ ، فلم يلبثوا إلى السَّير حتى ينزلوا على الصَّغار ، ويعطوا الجزية. وأشار عليٌّ بالمسير ، فهوى عمر ما قال عليٌّ ، ليكون أخف وطأةً على المسلمين في حصارهم.
لقد كانت مكانة عثمان رضي الله عنه في خلافة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه كمكانة الوزير من الخليفة ، وإن شئت ؛ فقل هي مكانة عمر من أبي بكرٍ في خلافته ، وقد صنع الله لأبي بكرٍ بوزارة عمر لخلافته مايصنعه لخير أهله ، وصنع لعمر بوزارة عثمان لخلافته ما يصنعه لخير أهله ؛ فقد كان أبو بكر أرحم النَّاس بالنَّاس ، وكان عمر أشدَّهم في الحقِّ ، فمزج الله رحمة الصِّدِّيق بشدَّة عمر ، فكانت منهما خلافة الصِّدق وسياسة العدل ، وقوة الحزم .
وكان عثمان رضي الله عنه أشبه بالصِّدِّيق في رحمته ، وكان عمر على سننه في شدَّته ، فلمَّا تولَّى بعد أبي بكر جعل الله له في وزارة عثمان لخلافته عوضاً من رحمة الصِّدِّيق ، ورفقه ؛ فكان منهما تلك الأمثال المضروبة في أنظمة الحكم ، وسياسة الأمَّة أحكم سياسة، وأعدلها، وقد عرف النَّاس هذه المكانة لعثمان في خلافة عمر، فهو الّذي أشار على عمر بفكرة الدِّيوان، وكتابة التَّاريخ كما جاء في بعض الرِّوايات:
1ـ الدِّيوان :
لمَّا اتسعت الفتوحات ، وكثرت الأموال ؛ جمع عمر ناساً من أصحاب رسول الله (ص) ليستشيرهم في هذا المال ، فقال عثمان : أرى مالاً كثيراً يسع النَّاس وإن لم يُحصَوا حتَّى يعرف من أخذ منهم ممَّن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر ! فأقرَّ عمر رأي عثمان ، وانتهى بهم ذلك إلى تدوين الدَّواوين.
2ـ التَّاريخ :
جاء في بعض الرِّوايات : أن الّذي أشار على عمر بجعل السَّنة الهجرية تبدأ بالمحرم هو عثمان ؛ وذلك : أنَّهم لمَّا اتَّفقوا بعد مشاوراتٍ على جعل مبدأ التَّاريخ الإسلامي من هجرة النَّبيِّ (ص) ؛ لأنها فرقت بين الحقِّ ، والباطل ـ تعدَّدت الاراء في أيِّ الأشهر يُجعل بدايةً للسَّنة، فقال عثمان: أرِّخوا من المحرم أوَّل السَّنة، وهو شهرٌ حرامٌ، وأوَّل الشُّهور في العدَّة ، وهو منصرف الناس من الحجِّ ، فرضي عمر، وَمَنْ شهده من أصحابه رأي عثمان، واستقرَّ عليه الأمر، وأصبح مبدأ تاريخ الإسلام.
3ـ أرض الخراج :كان عثمان رضي الله عنه ممَّن أيَّدوا رأي عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه في عدم تقسيم أرض الفتوح على الفاتحين ، وإبقائها فيئاً للمسلمين ، وللذُّرِّيَّة من بعدهم.
4ـ حجُّه مع أمَّهات المؤمنين :
لمَّا استُخلف عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه سنة ثلاث عشرة ؛ بعث تلك السَّنة على الحجِّ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فحجَّ بالنَّاس ، وحجَّ مع عمر أيضاً أخر حَجَّةٍ حجَّها عمر سنة ثلاثٍ وعشرين ، وأذن عمر تلك السَّنة لأزواج النَّبيِّ (ص) في الحجِّ ، فحُملن في الهوادج ، وبعث معهنَّ عثمان بن عفَّان ، وعبد الرحمن بن عوف ، فكان عثمان يسير على راحلته أمامهنَّ ، فلا يدع أحداً يدنو منهنَّ ، وينزلن مع عمر كلَّ منزلٍ ، فكان عثمان ، وعبد الرحمن ينزلان بهنَّ في الشِّعاب ، فيُقبلانهنَّ الشِّعاب ، وينزلان هما في أذلِّ الشُّعب ، فلا يتركان أحداً يمرُّ عليهنَّ.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf