الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

تجهيز عثمان بن عفان رضي الله عنه لجيش العسرة ومشاهد من عطائه

بقلم الدكتور علي الصلابي

الحلقة السادسة

ربيع الآخر ١٤٤١ه/ ديسمبر ٢٠١٩

في العام التَّاسع الهجريِّ ولَّى هرقل وجهه المتآمر صوب الجزيرة العربيَّة متلمظاً برغبةٍ شريرة في العدوان عليها ، والتهامها . . وأمر قوَّاته بالاستعداد ، وانتظار أمره بالزَّحف ، وترامت الأنباء إلى الرَّسول (ﷺ) فنادى في أصحابه بالتَّهيُّؤ للجهاد ، وكان الصَّيف حارّاً يصهر الجبال ، وكانت البلاد تعاني الجدب ، والعسرة ، فإن قاوم المسلمون بإيمانهم وطأة الحرِّ القاتل ، وخرجوا إلى الجهاد فوق الصَّحراء الملتهبة المتأجِّجة ، فمن أين لهم العتاد ، والنَّفقات الّتي يتطلَّبها الجهاد . . ؟ لقد حضَّ الرَّسول على التَّبرُّع ، فأعطى كلٌّ قدر وسعه ، وسارعت النِّساء بالحلي يقدِّمنه إلى رسول الله (ﷺ) يستعين به في إعداد الجيش .. بيد أنَّ التَّبرعات جميعَها لم تكن لتغني كثيراً أمام المتطلَّبات للجيش الكبير .. ونظر الرسول (ﷺ) إلى الصُّفوف الطَّويلة العريضة من الّذين تهيَّؤوا للقتال وقال : « من يجهز هؤلاء ، ويغفر الله له ؟ » وما كاد عثمان يسمع نداء الرَّسول (ﷺ) هذا ؛ حتَّى سارع إلى مغفرةٍ من الله ورضوانٍ ، وهكذا وجدت العسرة الضَّاغطة ( عثمانها المعطاء ) . وقام رضي الله عنه بتجهيز الجيش، حتَّى لم يتركه بحاجة إلى خطامٍ ، أو عقالٍ .
يقول ابن شهابٍ الزُّهريُّ : قدَّم عثمان لجيش العسرة في غزوة تبوك تسعمئةٍ وأربعين بعيراً ، وستين فرساً أتمَّ بها الألف ، وجاء عثمان إلى رسول الله في جيش العسرة بعشرة آلاف دينارٍ صبَّها بين يديه، فجعل الرسول يقلِّبها بيده، ويقول: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» ـ مرَّتين .
لقد كان عثمان رضي الله عنه صاحب القِدْح المعلَّى في الإنفاق في هذه الغزوة، وهذا عبد الرَّحمن بن حباب يحدِّثنا عن نفقة عثمان ، حيث قال : شهدت النَّبيَّ (ﷺ) وهو يحثُّ على جيش العسرة ، فقام عثمان بن عفَّان ، فقال : يا رسول الله ! عليَّ مئتا بعير بأحلاسها ، وأقتابها في سبيل الله ، ثمَّ حضَّ على الجيش ، فقام عثمان بن عفان ، فقال : يا رسول الله ! عليَّ ثلاثمئة بعيرٍ بأحلاسها ، وأقتابها في سبيل الله ، فأنا رأيت رسول الله ينزل عن المنبر ، ويقول : « ما على عثمان ماعمل بعد هذه ! ما على عثمان ما عمل بعد هذه ! ». وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنهما قال : جاء عثمان بن عفَّان إلى النَّبيِّ (ﷺ) بألف دينارٍ في ثوبه حين جهَّز النَّبيِّ (ﷺ) جيش العسرة ، قال : فجعل النَّبيُّ (ﷺ) يقلِّبها بيده ، ويقول: « ما ضرَّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم » يردِّدها مراراً.
إنَّه يبدو وكأنَّه المموِّل الوحيد للأمَّة الجديدة ! ! ومضى الرَّسول (ﷺ) على رأس جيشه ، حتَّى وصلوا موطناً يُدعى تبوك في منتصف الطَّريق بين المدينة ودمشق ، وهناك جاءته الأنباء مبشِّرةً بأنَّ هرقل الّذي كان يعد العدَّة للزَّحف من دمشق ، قد ثلم الله عزمه ، وغادر دمشق نافضاً يديه من محاولته اليائسة بعد أن علم بخروج النَّبيِّ ، وأصحابه إليه ، ورجع الجيش بكلِّ عتاده الّذي أمده به عثمان ، فهل استرجع من ذلك شيئاً ؟ كلا .. وحاشاه أن يفعل ! ! وقد ظلَّ كما كان دوماً سريع التَّلبية لكلِّ إيماءةٍ من النَّبيِّ (ﷺ) تعني جديداً من البذل ، ومزيداً من العطاء.
كان عثمان رضي الله عنه من الأغنياء الّذين أغناهم الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وكان صاحب تجارةٍ ، وأموالٍ طائلةٍ ، ولكنَّه استخدم هذه الأموال في طاعة الله ـ عزَّ وجلَّ ـ وابتغاء مرضاته ، وما عنده ، وصار سبَّاقاً لكلِّ خيرٍ ، ينفق ، ولا يخشى الفقر ، وممَّا أنفقه رضي الله عنه من نفقاته الكثيرة على سبيل المثال ما يأتي :
بئر رومة :
عندما قدم النَّبيُّ (ﷺ) المدينة المنوَّرة ؛ وجد : أنَّ الماء العذب قليلٌ ، وليس بالمدينة ما يستعذب غير بئر رومة ، فقال رسول الله (ﷺ) : « من يشتري رومة ، فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخيرٍ له منها في الجنة ؟ ». وقال (ﷺ) : « من حفر بئر رومة فله الجنَّة » .
وقد كانت رومة قبل قدوم النَّبيِّ (ﷺ) لا يشرب منها أحد إلا بثمن ، فلمَّا قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء ، وكانت لرجل من بني غفار عينٌ يقال لها : رومة، وكان يبيع منها القربة بمدٍّ ، فقال النَّبيُّ (ﷺ) : « تبيعها بعينٍ في الجنة ؟ » فقال : يا رسول الله ! ليس لي ، ولا لعيالي غيرها . فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهمٍ ، ثمَّ أتى النَّبيَّ (ﷺ) ، فقال : أتجعل لي فيها ما جعلت له ؟ قال : « نعم ! » قال : قد جعلتها للمسلمين ، وقيل : كانت رومة رَكِيَّةً ليهوديٍّ يبيع المسلمين ماءها ، فاشتراها عثمان بن عفَّان من اليهوديِّ بعشرين ألف درهمٍ ، فجعلها للغنيِّ ، والفقير ، وابن السَّبيل.
توسعة المسجد النَّبويِّ :
بعد أن بنى رسول الله (ﷺ) مسجده في المدينة صار المسلمون يجتمعون فيه ليصلُّوا الصَّلوات الخمس ، ويحضروا خطب النَّبيِّ (ﷺ) الّتي يُصدر إليهم فيها أوامره ، ونواهيه ، ويتعلَّمون في المسجد أمور دينهم ، وينطلقون منه إلى الغزوات، ثمَّ يعودون بعدها ، ولذلك ضاق المسجد بالنَّاس ، فرغب النَّبيُّ (ﷺ) من بعض الصَّحابة أن يشتري بقعةً بجانب المسجد ، لكي تزاد في المسجد ، حتَّى يتَّسع لأهله، فقال (ﷺ) : « من يشتري بقعة آل فلان ، فيزيدها في المسجد بخيرٍ له منها في الجنَّة؟ » فاشتراها عثمان بن عفَّان رضي الله عنه من صلب ماله بخمسة وعشرين ألف درهمٍ ، أو بعشرين ألفاً ، ثمَّ أضيفت للمسجد، ووسَّع على المسلمين ، رضي الله عنه، وأرضاه.
شفاعة عثمان بن عفَّان في عبد الله بن أبي السَّرح في فتح مكَّة :
لمَّا كان يوم فتح مكَّة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي السَّرح عند عثمان بن عفَّان، فجاء به حتَّى أوقفه على النَّبيِّ (ﷺ) ، فقال : يا رسول الله ! بايع عبد الله ، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثاً ، كلُّ ذلك يأبى ، فبايعه بعد ثلاثٍ ، ثمَّ أقبل على الصَّحابة فقال: « أما كان فيكم رجلٌ رشيدٌ يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته ، فيقتله ؟ » فقالوا : ما ندري يا رسول الله ما في نفسك ! ألا أومأت إلينا بعينك ؟ قال: « إنَّه لا ينبغي لنبيٍّ أن يكون له خائنة الأعين »، وجاء في روايةٍ : لمَّا كان يوم فتح مكَّة أمَّن رسول الله النَّاس إلا أربعة نفر ، وقال : « اقتلوهم ؛ وإن وجدتموهم متعلِّقين بأستار الكعبة » عكرمة بن أبي جهل ، وعبد الله بن خطل ، ومقيسُ بن صُبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي السَّرح، فأمَّا عبد الله بن خطل ؛ فأدرك وهو متعلِّق بأستار الكعبة ، فاستبق إليه سعيد بن حارث ، وعمَّار بن ياسر ، فسبق سعيدٌ عماراً ، وكان أشبَّ الرَّجلين ، فقتله.
وأمَّا عكرمة ؛ فركب في البحر فأصابتهم ريحٌ عاصف ، فقال أصحاب السَّفينة: أخلصوا فإنَّ آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً ها هنا ، فقال عكرمة : والله لئن لم ينجِّني في البحر إلا الإخلاص لا ينجِّني في البر غيره ، الّلهُمَّ لك عليَّ عهدٌ إن أنت عافيتني ممَّا أنا فيه أن آتي محمداً ؛ حتَّى أضع يدي في يده ، ولأجدنَّه عَفُوّاً كريماً ! فجاء ، وأسلم ، وأمَّا عبد الله بن سعد بن أبي السَّرح ؛ فإنَّه اختبأ عند عثمان بن عفَّان ، فلمَّا دعا رسول الله النَّاس إلى البيعة ؛ جاء به ؛ حتَّى أوقفه على النَّبيِّ (ﷺ) ، ثمَّ ذكر الباقي كما مرَّ معنا.
وعن عبد الله بن عبَّاسٍ ، قال : كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله (ﷺ) ، فأزلَّه الشَّيطان ، فلحق بالكفَّار ، فأمر به رسول الله (ﷺ) أن يقتل يوم الفتح ، فاستجار له عثمان ، فأجاره رسول الله . وذكر ابن إسحاق سبب أمر رسول الله بقتل سعدٍ ، وشفاعة عثمان فيه ، فقال : وإنَّما أمر رسول الله بقتله ؛ لأنَّه كان قد أسلم ، وكان يكتب لرسول الله (ﷺ) الوحي ، فارتدَّ مشركاً راجعاً إلى قريش ، ففرَّ إلى عثمان بن عفَّان ، وكان أخاه للرَّضاعة ، فغيَّبه ، حتَّى أتى به رسول الله (ﷺ) بعد أن اطمأنَّ النَّاسُ ، وأهلُ مكَّة ، فاستأمن له . قال ابن هشام : ثمَّ أسلم بعد ، فولاه عمر بن الخطَّاب بعض أعماله ، ثمَّ ولاه عثمان بن عفَّان بعد عمر.

يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022