الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

عثمان بن عفان رضي الله عنه وبيعة الرضوان

بقلم الدكتور علي الصلابي

الحلقة الخامسة

ربيع الآخر ١٤٤١ه/ ديسمبر ٢٠١٩م

عندما نزل رسول الله (ﷺ) الحديبية رأى من الضَّرورة إرسال مبعوثٍ خاصٍّ من جانبه إلى قريش ، يبلغهم فيها نواياه السِّلميَّة بعدم الرَّغبة في القتال ، وحرصه على احترام المقدَّسات ، ومن ثمَّ أداء مناسك العمرة ، والعودة إلى المدينة ، فوقع الاختيار على أن يكون مبعوث الرَّسول (ﷺ) إلى قريش ( خراش بن أميَّة الخزاعي ) وحمله على جمل يقال له : (الثَّعلب ) ، فلمَّا دخل مكة عقرت به قريش، وأرادوا قتل خراش ، فمنعهم الأحابيش ، فعاد خراش بن أميَّة إلى رسول الله (ﷺ)، وأخبره بما صنعت قريش ، فأراد رسول الله (ﷺ) أن يرسل سفيراً اخر بتبليغ قريشٍ رسالة رسول الله (ﷺ) ، ووقع الاختيار في بداية الأمر على عمر بن الخطاب فاعتذر لرسول الله (ﷺ) عن الذَّهاب إليهم ، وأشار على رسول الله (ﷺ) أن يبعث عثمان مكانه، وعرض عمر رضي الله عنه رأيه هذا معزَّزاً بالحجَّة الواضحة ، وهي ضرورة توافر الحماية لمن يخالط هؤلاء الأعداء ، وحيث إنَّ هذا الأمر لم يكن متحقِّقاً بالنِّسبة إلى عمر رضي الله عنه فقد أشار على النَّبيِّ (ﷺ) بعثمان رضي الله عنه لأنَّ له قبيلةً تحميه من أذى المشركين ، حتى يبلِّغ رسالة رسول الله (ﷺ) ، وقال لرسول الله (ﷺ) :إنِّي أخاف قريشاً على نفسي ، قد عرفت عداوتي لها ، وليس بها من بني عديٍّ من يمنعني ، وإن أحببت يا رسول الله ! دخلت عليهم. فلم يقل رسول الله (ﷺ) شيئاً ، قال عمر : ولكن أدلُّك يا رسول الله على رجلٍ أعزَّ بمكَّة مني ، وأكثر عشيرةً ، وأمنع : عثمان بن عفَّان . فدعا رسول الله (ﷺ) عثمان رضي الله عنه فقال : اذهب إلى قريش فخبرهم أنَّا لم نأت لقتال أحدٍ ، وإنَّما جئنا زوَّاراً لهذا البيت ، معظِّمين لحرمته ، معنا الهديُ ، ننحره ، وننصرف . فخرج عثمان بن عفَّان رضي الله عنه حتَّى أتى بلدح، فوجد قريشاً هناك ، فقالوا : أين تريد ؟ قال : بعثني رسول الله (ﷺ) إليكم ، يدعوكم إلى الله ، وإلى الإسلام ، تدخلون في دين الله كافَّةً ، فإنَّ الله مظهر دينه ، ومعزُّ نبيِّه ، وأخرى: تكفُّون ويلي هذا منه غيركم ، فإن ظفروا بمحمَّد ؛ فذلك ما أردتم ، وإن ظفر محمَّدٌ كنتم بالخيار أن تدخلوا فيما دخل فيه النَّاس ، أو تقاتلوا، وأنتم وافرون جامُّون ، إنَّ الحرب قد نهكتكم ، وأذهبت بالأماثل منكم ... فجعل عثمان يكلِّمهم ، فيأتيهم بما لا يريدون ، ويقولون : قد سمعنا ما تقول ، ولا كان هذا أبداً ، ولا دخلها علينا عنوةً ، فارجع إلى صاحبك ، فأخبره ، أنَّه لا يصل إلينا . فقام إليهم أبان بن سعيد ابن العاص ، فرحَّب به ، وأجاره ، وقال : لا تقصر عن حاجتك ، ثمَّ نزل عن فرسٍ كان عليه ، فحمل عثمان على السَّرج ، وردفه وراءه ، فدخل عثمان مكَّة ، فأتى أشرافهم رجلاً رجلاً : أبا سفيان بن حرب ، وصفوان بن أميَّة ، وغيرهم ممن لقي ببلده ، ومنهم من لحقي بمكَّة ، فجعلوا يردُّون عليه : إنَّ محمداً لا يدخلها علينا أبداً.
وعرض المشركون على عثمان رضي الله عنه أن يطوف بالبيت ، فأبى، وقام عثمان بتبليغ رسالة رسول الله (ﷺ) إلى المستضعفين بمكَّة ، وبشَّرهم بقرب الفرج ، والمخرج، وأخذ منهم رسالةً شفهيَّة إلى رسول الله (ﷺ) جاء فيها : اقرأ على رسول الله (ﷺ) منَّا السَّلام ، إنَّ الّذي أنزله بالحديبية لقادر على أن يدخله بطن مكَّة. وتسرَّبت شائعة إلى المسلمين ، مفادها : أنَّ عثمان قتل ، فدعا رسول الله أصحابه إلى مبايعته على قتال المشركين ، ومناجزتهم ، فاستجاب الصَّحابة وبايعوه على الموت، سوى الجدِّ بن قيس ، وذلك لنفاقه، وفي روايةٍ ، أنَّ البيعة كانت على الصَّبر، وفي روايةٍ : على عدم الفرار، ولا تعارض في ذلك ؛ لأنَّ المبايعة على الموت تعني : الصَّبر ، وعدم الفرار، وكان أوَّل من بايعه على ذلك أبو سنان عبد الله بن وهب الأسدي، فخرج النَّاس بعده يبايعون على بيعته ، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرَّات، في أوَّل الناس ، وأوسطهم ، وآخرهم ، وقال النَّبيُّ (ﷺ) بيده اليمنى : ( هذه يد عثمان ) فضرب بها على يده، وكان عدد الصَّحابة الّذين أخذ منهم الرَّسول المبايعة تحت الشَّجرة ألفاً وأربعمئة صحابيٍّ.

وقد تحدَّث القرآن الكريم عن أهل بيعة الرِّضوان ، وورد فضلهم في نصوصٍ كثيرةٍ من الآيات القرانيَّة ، والأحاديث النَّبويَّة ، منها :
1ـ قال الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا *} [الفتح : 10 ] .
2ـ قال تعالى : {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا * لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا *} [الفتح: 17 ـ 18] .
3ـ قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال لنا رسول الله (ﷺ) يوم الحديبية : « أنتم خير أهل الأرض » وكنَّا ألفاً وأربعمئةٍ ، ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشَّجرة. هذا الحديث صريحٌ في فضل أصحاب الشَّجرة ، فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعةٌ بمكَّة ، وبالمدينة ، وبغيرهما ... وتمسَّك به بعض الشِّيعة في تفضيل عليٍّ على عثمان؛ لأنَّ علياً كان من جملة من خوطب بذلك ، وممن بايع تحت الشَّجرة ، وكان عثمان حينئذٍ غائباً ، وهذا التمسُّك باطلٌ ؛ لأنَّ النَّبيِّ (ﷺ) بايع عنه، فاستوى معهم عثمان في الخيريَّة المذكورة ، ولم يقصد في الحديث إلى تفضيل بعضهم على بعضٍ.
وفي الحديبية ذكر المحبُّ الطَّبريُّ اختصاص عثمان بعدَّة أمورٍ ، منها : اختصاصه بإقامة يد النَّبيِّ الكريمة مقام يد عثمان لمَّا بايع الصَّحابة ، وعثمان غائبٌ ، واختصاصه بتبليغ رسالة رسول الله (ﷺ) إلى من بمكَّة أسيراً من المسلمين ، وذكر شهادة النَّبيِّ لعثمان بموافقته في ترك الطَّواف لمَّا أرسله في تلك الرِّسالة، فعن إياس بن سلمة عن أبيه : أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) بايع عثمان إحدى يديه على الأخرى ، فقال الناس : هنيئاً لأبي عبد الله الطَّواف بالبيت امناً ، فقال النَّبيِّ (ﷺ) : « لو مكث كذا ما طاف حتَّى أطوف ».
وقد اتُّهم عثمان ظلماً بأنَّه لم يبايع رسول الله (ﷺ) بيعة الرِّضوان ، وكان متغيِّباً عنها ! ! فهذه من الاتِّهامات الّتي أُلصِقت بعثمان في أحضان فتنةٍ أريد بها تقويض أركان الخلافة خاصَّةً، وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله تعالى. وعن أنسٍ، قال: لمَّا أمر رسول الله (ﷺ) ببيعة الرِّضوان كان عثمان بن عفَّان بعثه رسول الله إلى أهل مكَّة ، فبايعه النَّاس ، فقال : إنَّ عثمان في حاجة الله ، وحاجة رسوله ، فضرب بإحدى يديه على الأرض فكانت يد رسول الله (ﷺ) لعثمان خيراً من أيديهم لأنفسهم.

يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022