الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

حياة عثمان رضي الله عنه مع القرآن الكريم

بقلم: د. علي الصلابي

الحلقة الثالثة

كان المنهج التَّربويُّ الّذي تربَّى عليه عثمان بن عفَّان وكلُّ الصَّحابة الكرام هو القرآن الكريم ، المنزَّل من عند ربِّ العالمين ، فهو المصدر الوحيد للتَّلقِّي ؛ لذلك حرص الحبيب المصطفى على توحيد مصدر التَّلقِّي وتفرُّده ، وأن يكون القران الكريم وحده هو المنهج الّذي يتربَّى عليه الفرد المسلم ، والأسرة المسلمة ، والجماعة المسلمة، فكانت للايات الكريمة الّتي سمعها عثمان رضي الله عنه من رسول الله (ص) مباشرةً أثرها في صياغة شخصيَّة ذي النُّورين الإسلاميَّة ، فقد طهَّرت قلبه ، وزكَّت نفسه ، وتفاعلت معها روحه ، فتحوَّل إلى إنسانٍ جديدٍ بقيمه ، ومشاعره ، وأهدافه ، وسلوكه ، وتطلُّعاته، وقد تعلَّق عثمان رضي الله عنه بالقران الكريم ، وحدَّثنا أبو عبد الرَّحمن السُّلمي كيف تعلَّمه من رسول الله (ص) ، وله أقوالٌ تدلُّ على حبِّه الشَّديد للعيش مع كتاب الله تعالى ، فعن أبي عبد الرحمن السُّلمي قال : حدَّثنا الّذين كانوا يقرئوننا القران ـ كعثمان بن عفَّان ، وعبد الله بن مسعودٍ ، وغيرهما : أنَّهم كانوا إذا تعلَّموا من النَّبيِّ (ص) عشر آيات ، لم يتجاوزوها حتَّى يتعلموا ما فيها من العلم ، والعمل ، قالوا : فتعلَّمنا القرآن ، والعلم ، والعمل جميعاً ، ولهذا كانوا يبقون مدَّةً في حفظ السُّورة، وذلك : أن الله تعالى قال : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ *} [ص : 29] وقد روى عثمان رضي الله عنه عن رسول الله (ص) قوله : « خيركم من تعلَّم القران وعلَّمه » .
وقد عرض القرآن الكريم كاملاً على رسول الله (ص) قبل وفاته ، ومن أشهر تلاميذ عثمان في تعلُّمِ القرآن الكريم ، أبو عبد الرحمن السُّلمي ، والمغيرة بن أبي شهابٍ ، وأبو الأسود ، وزِرّ بن حُبَيْش، وقد حفظ لنا التَّاريخ بعض أقوال عثمان رضي الله عنه في القرآن الكريم حيث قال: لو طهرت قلوبنا؛ لما شبعت من كلام الله عزَّ وجلَّ، وقال: إني لأكره أن يأتي عليَّ يوم لا أنظر فيه إلى عهد الله. ـ يعني المصحف ـ وقال: حُبِّب إليَّ من الدُّنيا ثلاثٌ: إشباع الجيعان، وكسوة العريان، وتلاوة القرآن. وقال: أربعةٌ ظاهرهنَّ فضيلة، وباطنهنَّ فريضةٌ: مخالطة الصَّالحين فضيلةٌ ، والاقتداء بهم فريضة ، وتلاوة القران فضيلةٌ ، والعمل به فريضةٌ ، وزيارة القبور فضيلةٌ ، والاستعداد للموت فريضةٌ ، وعيادة المريض فضيلةٌ ، واتخاذ الوصيَّة فريضةٌ .
وقال رضي الله عنه : أضيع الأشياء عشرة : عالمٌ لا يُسألُ عنه ، وعلمٌ لا يُعمل به، ورأيٌ صوابٌ لا يُقبل ، وسلاحٌ لا يستعمل ، ومسجدٌ لا يُصلَّى فيه ، ومصحفٌ لا يقرأ فيه ، ومالٌ لا ينفق منه ، وخيلٌ لا تُركب ، وعلم الزُّهد في بطن من يريد الدُّنيا ، وعمرٌ طويلٌ لا يتزوَّد صاحبه فيه لسفره.
وكان رضي الله عنه حافظاً لكتاب الله ، وكان حجره لا يكاد يفارق المصحف ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنَّه مباركٌ جاء به مباركٌ. وما مات عثمان حتَّى خرق مصحفه من كثرة ما يديم النَّظر فيه ، وقالت امرأة عثمان يوم الدَّار : اقتلوه ، أو دعوه، فوالله لقد كان يحيي اللَّيل بالقران في ركعة.
وقد ذكر عنه أنَّه قرأ القرآن ليلةً في ركعةٍ لم يصلِّ غيرها. وقد تحقَّق فيه قول الله تعالى : {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ *} [ الزمر : 9 ] .
لقد تشرَّب عثمان رضي الله عنه بالمنهج القرآنيِّ ، وتتلمذ على يدي رسول الله (ص) ، وعرف من خلال القرآن الكريم من هو الإله الّذي يجب أن يعبده ، وكان النَّبيُّ (ص) يغرس في نفسه معاني تلك الآيات العظيمة ، فقد حرص (ص) أن يربِّي أصحابه على التصوُّر الصَّحيح عن ربِّهم ، وعن حقِّه عليهم ، مدركاً : أنَّ هذا التصوُّر سيورث التَّصديق ، واليقين عندما تصفو النُّفوس وتستقيم الفطرة ، فأصبحت نظرة ذي النُّورين إلى الله ـ عزَّ وجل ـ ، والكون ، والحياة ، والجنَّة ، والنَّار ، والقضاء ، والقدر ، وحقيقة الإنسان ، وصراعه مع الشَّيطان مستمدةً من القران الكريم ، وهدي النَّبيِّ (ص) .
فالله سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن النَّقائص ، موصوفٌ بالكمالات ، الّتي لا تتناهى فهو سبحانه ( واحدٌ لا شريك له ، ولم يتَّخذ صاحبةً ولا ولداً ) .
وأنَّه سبحانه حدَّد مضمون هذه العبوديَّة ، وهذا التَّوحيد في القرآن الكريم . وأمَّا نظرته للكون ، فقد استمدَّها من قول الله تعالى : {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ *وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ *ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ *فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *} [فصلت : 9 ـ 12 ] .
وأمَّا هذه الحياة مهما طالت ؛ فهي إلى زوالٍ ، وأنَّ متاعها مهما عظم ؛ فإنَّه قليلٌ حقيرٌ ، قال الله تعالى : {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ *} [يونس : 24 ] .
وأمَّا نظرته إلى الجنَّة ، فقد استمدَّها من خلال الآيات الكريمة ، فأصبح هذا التصوُّر رادعاً له في حياته عن أيِّ انحرافٍ عن شريعة الله ، فيرى المتتبِّع لسيرة ذي النُّورين عمق استيعابه لفقه القدوم على الله عزَّ وجلَّ ، وشدَّة خوفه من عذاب الله ، وعقابه ، وسنرى ذلك في صفحات هذا البحث بإذن الله تعالى .
وأمَّا مفهوم القضاء ، والقدر ، فقد استمدَّه من كتاب الله ، وتعليم رسول الله (ص) له ، فقد رسخ مفهوم القضاء والقدر في قلبه ، واستوعب مراتبه في كتاب الله تعالى ، فكان على يقينٍ بأنَّ علم الله محيطٌ بكلِّ شيءٍ ، قال الله تعالى : {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ *} [يونس : 61 ] .
وأنَّ الله تعالى قد كتب كلَّ شيءٍ كائنٍ ، قال تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ *} [يس : 12 ] .
وأنَّ مشيئة الله نافذةٌ ، وقدرته تامَّةٌ ، قال تعالى : {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا *} [ فاطر : 44 ] .
وأن الله خالقٌ لكلِّ شيءٍ {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ *} [الأنعام : 102 ] .
وقد ترتَّب على الفهم الصَّحيح والاعتقاد الرَّاسخ في قلبه لحقيقة القضاء والقدر، ثمارٌ نافعةٌ ، ومفيدةٌ ، ظهرت في حياته ، وسنراها ـ بإذن الله تعالى ـ في هذا الكتاب، وعرف من خلال القران الكريم حقيقة نفسه ، وبني الإنسان ، وأنَّ حقيقة خلقه ترجع إلى أصلين : الأصل البعيد ، وهو الخلقة الأولى من طينٍ ، حين سوَّاه ، ونفخ فيه الرُّوح . والأصل القريب ، وهو خلقه من نطفةٍ ، قال الله تعالى : {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ *ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ *} [السَّجدة : 7 ـ 9 ] .
وعرف : أنَّ هذا الإنسان خلقه الله بيده ، وأكرمه بالصُّورة الحسنة ، والقامة المعتدلة ، ومنحه العقل ، والنُّطق ، والتَّمييز ، وسخَّر له ما في السَّموات والأرض، وفضَّله على كثير من خلقه ، وكرَّمه بإرساله الرُّسل له ، وأنَّ من أروع مظاهر تكريم المولى ـ عزَّ وجلَّ ـ للإنسان أن جعله أهلاً لحبِّه ، ورضاه ، ويكون ذلك باتِّباع النَّبيِّ (ص) الّذي دعا النَّاس إلى الإسلام ؛ لكي يحيوا حياةً طيِّبةً في الدُّنيا ، ويظفروا بالنَّعيم المقيم في الاخرة ، قال الله تعالى : {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [النحل : 97 ] .
وعرف عثمان رضي الله عنه من خلال القران الكريم حقيقة الصِّراع بين الإنسان والشَّيطان ، وأنَّ هذا العدوَّ يأتي للإنسان من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله يوسوس له بالمعصية ، ويستثير فيه كوامن الشَّهوات ، فكان مستعيناً بالله على عدوِّه إبليس ، وانتصر عليه في حياته .
وتعلَّم من قصَّة ادم مع الشَّيطان في القران الكريم : أنَّ ادم هو أصل البشر ، وجوهر الإسلام الطَّاعة المطلقة لله ، وأنَّ الإنسان له قابليَّةٌ للوقوع في الخطيئة . وتعلَّم من خطيئة ادم ضرورة توكُّل المسلم على ربِّه ، وأهميَّة التَّوبة . والاستغفار في حياة المؤمن ، وضرورة الاحتراز من الحسد ، والكبر ، وأهمّيَّة التَّخاطب بأحسن الكلام مع الصَّحابة لقول الله تعالى : {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِيناً *} [الإسراء : 53 ] .
لقد أكرم المولى ـ عزَّ وجل ـ عثمان بن عفَّان رضي الله عنه بالإسلام فعاش به، وجاهد به من أجل نشره ، واستمدَّ أصوله ، وفروعه من كتاب الله ، وهدي النَّبيِّ (ص) وأصبح من أئمَّة الهدى ؛ الّذين يرسمون للنَّاس خطَّ سيرهم ، ويتأسَّى النَّاس بأقوالهم ، وأفعالهم في هذه الحياة ، ولا ننسى : أنَّ عثمان بن عفَّان كان من كُتَّاب الوحي لرسول الله (ص).

يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022