مشاهد من صحبة عثمان بن عفان رضي الله عنه للنَّبيِّ (ﷺ) في المدينة
بقلم الدكتور علي الصلابي
الحلقة الرابعة
ربيع الآخر ١٤٤١ه/ ديسمبر ٢٠١٩م
إنَّ الرَّافد القويَّ الّذي أثَّر في شخصية عثمان رضي الله عنه وصقل مواهبه، وفجَّر طاقته ، وهذَّب نفسه هو مصاحبته لرسول الله (ﷺ) وتتلمذه على يديه في مدرسة النُّبوَّة ؛ ذلك أنَّ عثمان رضي الله عنه لازم الرَّسول (ﷺ) في مكَّة بعد إسلامه كما لازمه في المدينة بعد هجرته ، فقد نظَّم عثمان نفسه ، وحرص على التَّلمذة في حلقات مدرسة النبوَّة في فروعٍ شتَّى من المعارف ، والعلوم على يدي معلِّم البشريَّة ، وهاديها ، والّذي أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبه ، فحرص على تعلُّم القرآن الكريم ، والسُّنَّة المطهَّرة من سيِّد الخلق أجمعين ، وهذا عثمان يحدِّثنا عن ملازمته لرسول الله (ﷺ) ، فيقول :
( إنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ بعث محمَّداً بالحقِّ وأنزل عليه الكتاب ، فكنت ممَّن استجاب لله ، ولرسوله ، وآمن ، فهاجرت الهجرتين الأوليين ، ونلت صهر رسول الله ، ورأيت هَدْيه) لقد تربَّى عثمان رضي الله عنه على المنهج القرآنيِّ ، وكان المربي له رسول الله (ﷺ) ، وكانت نقطة البدء في تربية عثمان لقاءه برسول الله (ﷺ) ، فحدث له تحوُّلٌ غريبٌ ، واهتداءٌ مفاجىءٌ بمجرَّد اتِّصاله بالنَّبيِّ (ﷺ)؛ فخرج من دائرة الظَّلام إلى دائرة النُّور، واكتسب الإيمان، وطرح الكفر، وقوي على تحمُّل الشَّدائد، والمصائب في سبيل الإسلام، وعقيدته السَّمحة.
كانت شخصية رسول الله (ﷺ) تملك قوى الجذب ، والتَّأثير في الآخرين ، فقد صنعه الله على عينه ، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض ، والعظمة دائماً تُحبُّ ، وتُحاط من النَّاس بالإعجاب ، ويلتفُّ حولها المعجبون ، يلتصقون بها التصاقاً بدافع الإعجاب ، والحبِّ ، ولكنَّ رسول الله (ﷺ) يضيف إلى عظمته تلك : أنَّه رسول الله ، متلقِّي الوحي من الله ، ومبلِّغه إلى النَّاس ، وذلك بُعْدٌ آخر ، له أثره في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه ، فهو لا يحبُّه لذاته فقط ، كما يحبُّ العظماء من الناس ، ولكن أيضاً لتلك النَّفحة الربَّانيَّة الّتي تشمله من عند الله ، فهو معه في حضرة الوحي الإلهيِّ المكرم ، ومن ثمَّ يلتقي في شخص الرَّسول (ﷺ) : البشر العظيم ، والرَّسول العظيم ، ثمَّ يصبحان شيئاً واحداً في النِّهاية، غير متميِّز البداية ، ولا النِّهاية ؛ حبٌّ عميقٌ شاملٌ للرَّسول البشر ، أو للبشر الرَّسول، ويرتبط حبُّ الله بحبِّ رسوله ، ويمتزجان في نفسه ، فيصبحان في مشاعره هما نقطة ارتكاز المشاعر كلِّها ، ومحور الحركة الشُّعورية ، والسُّلوكيَّة كلِّها كذلك .
كان هذا الحبُّ الّذي حرَّك الرَّعيل الأوَّل من الصَّحابة هو مفتاح التَّربية الإسلاميَّة، ونقطة ارتكازها ، ومنطلقها الّذي تنطلق منه ، لقد حصل لعثمان رضي الله عنه وللصَّحابة ببركة صحبتهم لرسول الله (ﷺ) ، وتربيتهم على يديه أحوالٌ إيمانيَّةٌ عاليةٌ، ولقد تتلمذ عثمان رضي الله عنه على يدي رسول الله (ﷺ) ، فتعلَّم منه القران الكريم، والسُّنَّة النَّبويَّة ، وأحكام التِّلاوة ، وتزكية النُّفوس ، قال تعالى : {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *} [ آل عمران : 164 ].
وحرص على التبحُّر في الهدي النَّبويِّ الكريم خلال ملازمته لرسول الله (ﷺ) في غزواته ، وسلمه ، وقد أمدَّته تلك المعايشة بخبرةٍ ، ودربةٍ ، ودرايةٍ بشؤون الحرب، ومعرفةٍ بطبائع النُّفوس ، وغرائزها ، وسنبيِّن بعض مواقفه ومشاهده في الميادين الجهاديَّة ، والسِّياسيَّة ، والاجتماعيَّة ، والاقتصاديَّة مع رسول الله (ﷺ) في العهد المدنيِّ .
عثمان رضي الله عنه في ميادين الجهاد مع رسول الله :
شرع رسول الله (ﷺ) بعد استقراره بالمدينة في تثبيت دعائم الدَّولة الإسلاميَّة، فآخى بين المهاجرين ، والأنصار ، فكلُّ مهاجريٍّ يتَّخذ أخاً له من الأنصار ، فكان نصيب عثمان بن عفَّان في المؤاخاة أوس بن ثابت، ثمَّ أقام النَّبيُّ (ﷺ) المسجد ، وأبرم المعاهدة مع اليهود ، وبدأت حركة السَّرايا ، واهتمَّ بالبناء الاقتصاديِّ، والتَّعليميِّ ، والتَّربويِّ في المجتمع الجديد ، وكان عثمان رضي الله عنه من أعمدة الدَّولة الإسلاميَّة ، فلم يبخل بمشورةٍ ، أو مالٍ ، أو رأيٍ ، وشهد المشاهد كلَّها إلا غزوة بدر.
عثمان وغزوة بدر
لمَّا خرج المسلمون لغزوة بدر كانت زوجة عثمان السَّيدة رقيَّة بنت رسول الله (ﷺ) مريضةً بمرض الحصبة ، ولزمت الفراش ، في الوقت الّذي دعا فيه رسول الله (ﷺ) للخروج لملاقاة القافلة، وسارع عثمان رضي الله عنه للخروج مع رسول الله (ﷺ) ، إلا أنَّه تلقَّى أمراً بالبقاء إلى جانب رقيَّة رضي الله عنها لتمريضها ، وامتثل لهذا الأمر بنفسٍ راضيةٍ ، وبقي إلى جوار زوجته الصَّابرة الطَّاهرة رُقيَّة ابنة رسول الله (ﷺ) ؛ إذ اشتد بها المرض ، وطاف بها شبح الموت ، كانت رقيَّة رضي الله عنها تجود بأنفاسها ، وهي تتلهَّف لرؤية أبيها الّذي خرج إلى بدرٍ ، ورؤية أختها زينب في مكَّة، وجعل عثمان رضي الله عنه يرنو إليها من خلال دموعه، والحزن يعتصر قلبه، وودَّعت نبض الحياة وهي تشهد أن لا إله إلا الله ، وأنَّ محمَّداً رسول الله، ولحقت بالرَّفيق الأعلى ، ولم ترَ أباها رسول الله (ﷺ) ، حيث كان ببدرٍ مع أصحابه الكرام ، يُعلون كلمة الله ، فلم يشهد دفنها رضي الله عنها وجُهِّزت رقيَّة ثمَّ حُمل جثمانها الطَّاهر على الأعناق ، وقد سار خلفه زوجها عثمان وهو حزينٌ ، حتَّى إذا بلغت الجنازة البقيع؛ دفنت رقيَّة هناك ، وقد انهمرت دموع المشيِّعين ، وسوِّي التُّراب على قبر رقيَّة بنت رسول الله (ﷺ) ، وفيما هم عائدون إذا بزيد بن حارثة قد أقبل على ناقة رسول الله (ﷺ) يبشِّر بسلامة رسول الله (ﷺ) ، وقتل المشركين ، وأسر أبطالهم ، وتلقَّى المسلمون في المدينة هذه الأنباء بوجوهٍ مستبشرةٍ بنصر الله لعباده المؤمنين ، وكان من بين المستبشرين وجه عثمان الّذي لم يستطع أن يخفي ألامه لفقده رقيَّة رضي الله عنها .
وبعد عودة الرسول (ﷺ) علم بوفاة رقيَّة رضي الله عنها فخرج إلى البقيع ، ووقف على قبر ابنته يدعو لها بالغفران.
لم يكن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه ممَّن تخلَّفوا عن بدرٍ لتقاعسٍ منه ، أو هروبٍ ينشده كما يزعم أصحاب الأهواء ممَّن طعن عليه بتغيُّبه عن بدرٍ ، فهو لم يقصد مخالفة الرَّسول (ﷺ) ؛ لأنَّ الفضل الّذي حازه أهل بدر في شهود بدرٍ طاعةً للرَّسول ، ومتابعةً له ؛ حازه عثمان رضي الله عنه ، حيث خرج فيمن خرج مع رسول الله فردَّه (ﷺ) للقيام على ابنته ، فكان في أجلِّ فرضٍ لطاعته لرسول الله بتخلُّفه عن بدرٍ ، وقد ضرب له بسهمه ، وأجره ، فشاركهم في الغنيمة ، والفضل ، والأجر لطاعته لله ، ورسوله وانقياده لهما، فعن عثمان بن عبد الله بن موهبٍ ، قال : جاء رجلٌ من مصر حجَّ البيت فقال : يا بن عمر ! إنِّي سائلك عن شيءٍ ، فحدِّثني أنشدك الله بحرمة هذا البيت ! هل تعلم أنَّ عثمان تغيَّب عن بدرٍ فلم يشهدها ؟ فقال :
نعم ، ولكن أمَّا تغيُّبه عن بدرٍ فإنَّه كانت تحته بنت رسول الله (ﷺ) ، فمرضت رضي الله عنها فقال له رسول الله (ﷺ) : لك أجر رجلٍ شهد بدراً ، وسهمه. وعن أبي وائلٍ عن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه أنَّه قال : أمَّا يوم بدرٍ ؛ فقد تخلَّفت على بنت رسول الله ، وقد ضرب رسول الله لي فيها بسهم . وقال زائدة في حديثه : ومن ضرب له رسول الله (ﷺ) فيها بسهمٍ ؛ فقد شهد. وقد عُدَّ عثمان رضي الله عنه من البدريِّين بالاتِّفاق.
عثمان ، وغزوة أحدٍ :
في غزوة أحدٍ منح الله عزَّ وجلَّ النَّصر للمسلمين في أوَّل المعركة ، وأخذت سيوف المسلمين تعمل عملها في رقاب المشركين ، وكانت الهزيمة لا شكَّ فيها ، وقُتل أصحاب لواء المشركين واحداً واحداً ، ولم يقدر أحدٌ أن يدنو من اللِّواء ، وانهزم المشركون ، وولولت النِّسوة بعد أن كنَّ يغنِّين بحماسٍ ، ويضربن بالدُّفوف ، فألقين بالدُّفوف ، وانصرفن مذعوراتٍ إلى الجبل كاشفاتٍ سيقانهنَّ .. ولكن مال ميزان المعركة فجأةً ، وكان سبب ذلك : أنَّ الرُّماة الّذين أوكل إليهم النَّبيِّ مكاناً على سفح الجبل ، لا يغادرونه مهما كانت نتيجة المعركة قد تخلَّوا إلا قليلاً عن أماكنهم، ونزلوا إلى السَّاحة يطلبون الغنائم لمَّا نظروا المسلمين يجمعونها، وانتهز خالد بن الوليد قائد سلاح الفرسان القرشيِّ فرصة خلوِّ الجبل من الرُّماة ، وقلَّة من به منهم ، فكرَّ بالخيل، ومعه عكرمة بن أبي جهل ، فقتلوا بقيَّة الرُّماة ومعهم أميرهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه الّذي ثبت هو وطائفةٌ قليلةٌ معه ، وفي غفلة المسلمين ، وأثناء انشغالهم بالغنائم أطبق خالدٌ ومن معه عليهم ، فأعملوا فيهم القتل، فاضطرب أمر المسلمين اضطراباً شديداً ، وانهزمت طائفةٌ من المسلمين إلى قرب المدينة منهم عثمان بن عفَّان ، ولم يرجعوا حتَّى انفضَّ القتال ، وفرقةٌ صاروا حيارى لمَّا سمعوا : أن النَّبيَّ (ﷺ) قد قتل، وفرقةٌ ثبتت مع النَّبيِّ (ﷺ) .
أمَّا الفرقة الّتي انهزمت ، وفرَّت ، فلقد أنزل الله فيها قراناً يُتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ *} [آل عمران : 155 ] . غير أنَّ أصحاب الأهواء لا يرون إلا ما تهوى أنفسهم ، فلم يروا من المتراجعين ، إلا عثمان رضي الله عنه فكانوا يتَّهمونه دون سائر المتراجعين من الصَّحابة ،وهل يبقى وحده ؟ ولو فعل ؛ لخاطر بنفسه، وبعد أن عفا الله عن المتراجعين ، فالحكم واضحٌ جليٌّ ، لا لبس فيه ، ولا غموض . فلا مؤاخذة بعد ذلك على عثمان بن عفان رضي الله عنه, فيكفي : أنَّ الله عفا عنه بنصِّ القرآن الكريم ، وحياته الجهادية بمجموعها تشهد له على شجاعته رضي الله عنه .
عثمان في غزوة غطفان ( ذي إمر ) :
ندب رسول الله (ﷺ) المسلمين للخروج إلى غطفان ، فخرجوا في أربعمئة رجلٍ، ومعهم بعض الجياد ، واستخلف على المدينة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه فأصاب المسلمون رجلاً منهم (بذي القُصَّة) يقال له: جبار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله (ﷺ)، فأخبره مِنْ خَبرهم ، وقال : لن يلاقوك، لمَّا سمعوا بمسيرك ؛ هربوا في رؤوس الجبال ، وأنا سائر معك ، فدعاه رسول الله (ﷺ) إلى الإسلام ، فأسلم ، وضمَّه رسول الله (ﷺ) إلى بلالٍ ، ولم يلاق رسول الله (ﷺ) أحداً ، ثمَّ أقبل رسول الله (ﷺ) إلى المدينة ولم يلقَ كيداً ، وكانت غيبته إحدى عشرة ليلةً.
عثمان في غزوة ذات الرِّقاع :
بلغ رسول الله (ﷺ) : أنَّ جمعاً من غطفان من ثعلبة وأنمار يريدون غزو المدينة، فخرج في أربعمئةٍ من أصحابه ؛ حتَّى قدم صراراً ، وكان رسول الله (ﷺ) قد استخلف على المدينة قبل خروجه عثمان بن عفَّان ، ولقي المسلمون جمعاً غفيراً من غطفان ، وتقارب النَّاس ، ولم يكن بينهم حربٌ ، وقد خاف النَّاس بعضهم بعضاً ، حتَّى صلَّى رسول الله (ﷺ) بالنَّاس صلاة الخوف ، ثمَّ انصرف بالنَّاس ، وقد غاب عن المدينة خمسة عشر يوماً .
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf