من فقه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) ٣
الحلقة الواحدة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخر 1441 ه/ يناير 2020م
2- حد الزنى:
أ- قصة رجم:
قال الشعبي: كان لشراحة زوج غائب بالشام ، وإنها حملت ، فجاء بها مولاها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال: إن هذه زنت واعترفت ، فجلدها يوم الخميس مئة جلدة ، ورجمها يوم الجمعة ، وحفر لها إلى السرة، وأنا شاهد ، ثم قال: إن الرجم سنة سنها رسول الله ﷺ ، ولو كان شهد على هذا أحد لكان أول من يرمي الشاهد بشهادته ، ثم يتبع شهادته حجره ، ولكنها أقرت ، فأنا أول من يرميها ، فرماها بحجر ، ثم رمى الناس وأنا منهم ، فكنت والله فيمن قتلها.
وفي لفظ لأحمد والبخاري: أن علياً قال: جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله ﷺ. وهذا الحكم القضائي اجتهاد لعلي ، وهو مختلف فيه بين الفقهاء ، وقال الجمهور بعدم الجمع بين الجلد والرجم، وجاء في رواية: فحفر لها حفرة بالسوق فدار الناس عليها ، أو قال: بها ، فضربهم بالدرة، ثم قال: ليس هكذا الرجم؛ إنكم إن تفعلوا هذا يفتك بعضكم بعضاً ، ولكن صفوا كصفوفكم للصلاة ، ثم قال: أيها الناس ، إن أول الناس يرجم الزاني الإمام ، إذا كان الاعتراف ، وإذا شهد أربعة شهداء على الزنى أول الناس يرجم الشهود بشهادتهم عليه ، ثم الإمام ، ثم الناس ، ثم رماها بحجر وكبر ، ثم أمر الصف الأول فقال: ارموا ، ثم قال: انصرفوا ، وكذلك صفاً صفاً حتى قتلوها.
ب- تأجيل رجم الحامل: المرأة الحامل إذا ثبت عليها الزنى لا يقام عليها الحد حتى تضع حملها عند علي، فعنه رضي الله عنه قال: إن خادماً للنبي ﷺ فجرت ، فأمرني أن أقيم عليها الحد ، فوجدتها لم تجف من دمها ، فأتيته فذكرت له ، فقال: «إذا جفت من دمها فأقم عليها الحد ، أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم»، وقد قام بهذا الحكم في خلافته.
ج- المستكرهة على الزنى:
لا حد على المستكرهة على الزنى عند علي ، ولها مهر المثل بذلك، فقد قال: «في البكر تستكره نفسها أن للبكر مثل صداق إحدى نسائها ، وللثيب مثل صداق مثلها».
د- زنى المضطرة:
إذا اضطرت امرأة على الزنى لإنقاذ حياتها من الموت ، فلم يدفع إلا بها ، سقط عنها الحد عند علي، فقد جاء في رواية: أن امرأة أتت عمر فقالت: إني زنيت فارجمني ، فرددها حتى شهدت أربع شهادات ، فأمر برجمها ، فقال علي: يا أمير المؤمنين: ردها فاسألها ما زناها لعل لها عذراً؟ فردَّها فقال: ما زناكِ؟ قالت: كان لأهلي إبل فخرجت في إبل أهلي فكان لنا خليط، فخرج في إبله فحملت معي ماء ولم يكن في إبلي لبن ، وحمل الخليط ماء وكان في إبله لبن ، فنفذ مائي فاستسقيت فأبى أن يسقيني ، حتى أمكنه من نفسي ، فأبيت حتى كادت نفسي تخرج أعطيته ، فقال علي: الله أكبر ، فمن اضطر غير باع ولا عاد ، أرى لها عذراً، وزيد في رواية: فأعطاها عمر شيئاً وتركها.
وقد ذكر الفقهاء هذه الحادثة ضمن الإكراه على الزنى ، فلم يختلفوا في سقوط الحد بالإكراه، ولكن الإكراه غير الاضطرار؛ لأن الاضطرار فيه الإقدام على الفعل اختياراً أمام الإكراه فلا إقدام فيه ، وإنما يساق إلى الفعل جبراً، بدليل أن الله تعالى ذكر الإكراه مستقلاً عن الاضطرار كما في قوله تعالى: ﴿ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ﴾ [النحل: 106]، وقوله تعالى: ﴿ وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ﴾ [النور: 33] ، وقوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [البقرة: 173].
وقد استدل علي رضي الله عنه بالآية الأخيرة، ووجه الدلالة: أن الاضطرار لإنقاذ الحياة يرفع العقوبة الأخروية عن المضطر ، فهو يسقط العقوبة الدنيوية من باب أولى في حقوق الله تعالى، ويؤخذ من هذه المسألة: عمل علي بقاعدة الضرورات تبيح المحظورات.
هـ- درء الحدود بالشبهات:
تدرأ الحدود بالشبهات عند علي ، فعن الضحاك بن مزاحم عن علي قال: إذا بلغ في الحدود لعل وعسى؛ فالحد معطل. وعن علي أن امرأة أتته فقالت: إني زنيت ، فقال: لعلك أتيت وأنت نائمة في فراشك أو أكرهت؟ قالت: أتيت طائعة غير مكرهة ، قال: لعلك غصبت على نفسك ، قالت: ما غصبت ، فحبسها فلما ولدت وشب ابنها جَلَدَها، لأنها لم تكن متزوجة ولذلك جلدت.
و- زنى النصرانية:
إذا زنت النصرانية فلا تحدّ بل تدفع إلى أهل دينها يقيمون عليها حسب دينهم عند علي، فعن قابوس بن مخارق: أن محمد بن أبي بكر كتب إلى علي يسأله عن مسلم زنى بنصرانية ، فكتب إليه علي: أما المسلم فأقم عليه الحد وادفع النصرانية إلى أهل دينها، إن حد الزنى أمر تعبدي فيه التطهير من الإثم وذلك لا يناسب الخارج عن ملة الإسلام.
ز- الحد كفارة لذنب من أقيم عليه عند علي: فعن أبي ليلى عن رجل من هذيل قال وعداده من قريش: سمعت علياً يقول: من عمل سوءاً فأقيم عليه الحد فهو كفارة، وفي رواية عنه أيضاً: كنت مع علي حين رجم شراحة ، فقلت: لقد ماتت هذه على شر حالها ، فضربني بقضيب أو بسوط كان في يده حتى أوجعني فقلت: لقد أوجعتني ، قال: وإن أوجعتك ، قال: فقال: إنها لن تسأل عن ذنبها هذا أبداً كالدين. ودليل ما ذهب إليه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: حديث عبادة بن الصامت حيث قال: كنا مع رسول الله ﷺ في مجلس فقال: «ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به ، فهو كفارة له ، ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه ، فأمرهُ إلى الله ، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه».
إن من مقاصد الشريعة حفظ العرض والنسب ، فعدم حفظه يترتب عليه مفاسد حاصلة بسبب إهماله؛ منها: انتهاكه ومعلوم ما يحصل من جراء ذلك من الحروب والتقاتل والفساد ، واختلاط الأنساب ، وقطع النسل؛ لأن الزاني ليس له قصد في الولد ، وإنما قصده اللذة الحاضرة ، فلو لم تحفظ الفرج لعزف الناس عن النكاح ، وانتشار الفساد الخلقي وظهور جريمة الزنى ، وما ينشأ عنها من مفاسد خلقية وصحية ، ونزول المصائب وحلول الكوارث والمحن ، ولو لم يرد في ذلك إلا قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاءَ سَبِيلاً ﴾ [الإسراء: 32] لكان كافياً. لذلك جاءت الشريعة الغراء بالتشريعات اللازمة لحفظ الأعراض والأنساب وقام الخلفاء الراشدون بتنفيذها.
3- حد الخمر:
أ- شرب الخمر في رمضان:
عن عطاء عن أبيه: أن علياً ضرب النجاشي الحارثي الشاعر ، شرب الخمر في رمضان ، فضربه ثمانين ، ثم حبسه ، فأخرجه الغد فضربه العشرين ، ثم قال له: إنما جلدتك هذه العشرين بجرأتك على الله تعالى ، وإفطارك في رمضان.
ب- حكم الموت بإقامة حد الخمر:
عن علي ، قال: ما من رجل أقمت عليه حداً ، فمات فأجد في نفسي إلا الخمر ، فإنه لو مات لوديته ، لأن النبي ﷺ لم يَسُنَّه.
وقد جاءت الأحكام الشرعية بالمحافظة على العقل الذي ميـز الله به الإنسان وكرمه ، فحرمت الخمر التي تذهب بالعقل وتغيبه ، كما قال تعالى: إلى قوله: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ... فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 90 - 91]. وقال رسول الله ﷺ : «كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام» ، ولذلك شرع إقامة الحد على السكران ، وحرمَ المخدرات والمُفَتِّرات التي تؤثر على سلامة العقل.
إن حفظ العقل مقصود في الشرع لما يترتب عليه من حفظ باقي الضرورات ، ولما يترتب على إهماله من مفاسد لا تعد ولا تحصى.
4- حد السرقة:
أ- اشتراط الحرز:
يشترط لقطع يد السارق أن يسرق المال من حرز مثله عند علي؛ فعن ضمرة قال: قال علي: لا يقطع السارق حتى يخرج المتاع من البيت.
ب- سرقة ما فيه شبهة ملك:
لا تقطع يد سارق سرق من مال له فيه شبهة ملك؛ كأن يكون له نصيب فيه عند علي، فعن زيد بن دثار قال: أتي علي برجل سرق من الخمس ، فقال: له فيه نصيب ، فلم يقطعه ، وعن الشعبي عن علي: أنه كان يقول: ليس على من سرق من بيت المال قطع.
ج- سرقة الحر:
من سرق حراً صغيراً فإنه تقطع يده عند علي ، فعن ابن جريج: أن علياً قطع البائع - بائع الحر - وقال: لا يكون الحر عبداً، لأن الإنسان أقوم وأثمن من المال ، فهو الأولى أن يقطع فيه.
د- سرقة العبد مولاه:
لا تقطع يد عبد سرق من سيده عن علي ، فعن الحكم: أن علياً قال: إذا سرق عبد من مالي لم أقطعه.
هـ- إثبات السرقة:
تثبت السرقة عند أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بشهادة شاهدين ، أو الاعتراف مرتين ، نقل ذلك عنه ابن قدامة، وعن عكرمة بن خالد قال: كان علي لا يقطع سارقاً حتى يأتي بالشهداء فيوقفهم عليه ويسجنه؛ فإن شهدوا عليه قطعه ، وإن نكلوا تركه ، فأتي مرة بسارق فسجنه ، حتى إذا كان الغد دعا به وبالشاهدين فقيل: تغيب أحد الشاهدين ، فخلى سبيل السارق ولم يقطعه، وعن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه: أن رَجلاً أتى إلى علي فقال: إني سرقت ، فانتهره وسبه فقال: إني سرقت ، فقال علي: اقطعوا قد شهد على نفسه مرتين ، فلقد رأيتها في عنقه.
و- كشف السارق قبل أن يسرق:
لا تقطع يد السارق عند كشفه قبل أن يخرج المتاع من الحرز عند علي ، فعن الحارث عن علي قال: أتي برجل قد نقب فأخذ على تلك الحال فلم يقطعه، وفي لفظ بزيادة: وعزره أسواطاً
ز- تكرار السرقة:
من سرق قطعت يده اليمنى ، ثم إن سرق مرة ثانية قطعت رجله اليسرى ، فإن سرق ثالثة ورابعة يعزر ولا تقطع يده الأخرى أو رجله الثانية عند علي ، نقل ذلك عنه ابن المنذر وغيره، وعن عبد الله بن سلمة: أن علياً أتي بسارق فقطع يده ، ثم أتي به فقطع رجله ، ثم أتي به فقال: أقطع يده؟ فبأي شيء يتمسح وبأي شيء يأكل؟ ثم قال: أقطع رجله؟ على أي شيء يمشي؟ إني لأستحيي من الله ، قال: ثم ضربه وخلده السجن، وعن المغيرة والشعبي قالا: كان علي يقول: إذا سرق السارق مراراً قطعت يده ورجله ، ثم إن عاد استودعته السجن ، وعن الشعبي قال: كان علي لا يقطع إلا اليد والرجل ، وإن سرق بعد ذلك سجن ونكل ، وأنه كان يقول: إني لأستحيي من الله أن لا أدع له يداً يأكل بها ويستنجي.
ح- قطع اليد وتعليقها:
يستحب أن يحسم اليد ويعلق المقطوع في عنق المحدود عند علي، فعن حجية بن عدي: كان علي يقطع ويحسم ويحبس ، فإذا برؤوا أرسل إليهم فأخرجهم ، ثم قال: ارفعوا أيديكم إلى الله فيرفعونها ، فيقول: من قطعكم؟ فيقولون: علي ، فيقول: ولم؟ فيقولون: سرقنا ، فيقول: اللهم اشهد ، اللهم اشهد. وحسم اليد ، فلكي لا ينزف الدم ويسرع البرء إليها ومخافة سريان الجرح إلى الجسم وتلفه.
إن من مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ أموال الناس التي هي قوام حياتهم ، وقد حرم الإسلام كل وسيلة لأخذ المال بغير حق شرعي ، وحرم السرقة وأوجب الحد على من ثبتت عليه تلك الجريمة ، قال تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 38] ، وقام الخلفاء الراشدون بالإشراف على تنفيذ تلك الأحكام.
ثالثاً: في القصاص والجنايات:
جاءت شريعة الإسلام بأحكام القصاص للمحافظة على النفس ودرء المفاسد الناشئة عن شيوع القتل وسفك الدماء المحرمة ، كما قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ [البقرة: 178] ، وقال تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الألباب: 179] ، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾ [الإسراء: 33] ، وهذه بعض المسائل المتعلقة بأحكام القتل والقصاص والجنايات.
أ- الاشتراك في القتل العمد:
إذا اجتمع جماعة على قتل شخص عمداً؛ فإنهم يقتلون به جميعاً عند علي، وقد روى عنه أنه قتل ثلاثة قتلوا رجلاً.
ب- من أمر عبده بالقتل:
إذا أمر السيد عبده أن يقتل رجلاً فقتله؛ يقتل السيد عند علي ، ويحبس العبد ، نقل ذلك عن ابن المنذر وغيره، وعن خلاس عن علي في رجل أمر عبده أن يقتل رجلاً قال: إنما هو بمنزلة سوطه أو سيفه، وفي رواية: إذا أمر الرجل عبده أن يقتل رجلاً فإنما هو كسيفه أو كسوطه ، يقتل المولى ويحبس العبد.
ج- المقتول في الزحام:
من قتل في الزحام ولم يعلم قاتله؛ فإن ديته على بيت مال المسلمين عند علي، وعن يزيد بن مذكور الهمداني: أن رجلاً قتل يوم الجمعة في المسجد في الزحام ، فجعل علي ديته من بيت المال.
د- جنابة السائق والقائد والراكب:
في المسألة روايتان فعن علي: الرواية الأولى: سائق الدابة وقائدها وراكبها ضامنون إذا وطئت الدابـة ، أو ضربت برجلها أحداً ، أو شيئـاً عند علي لنسبـة التقصير وعدم التحرز والتثبت إليهم، فعن خلاس عن علي: أنه كان يضمن القائد والسائق والراكب، والحجة في ذلك: أن الراكب مباشر للقتل لأن الدابة كالالة في يده ، أما السائق ، القائد فهما متسببان ، يضمنون لعدم تحرزهم من الوقوع في الجناية ، وعدم تثبتهم من السوق والقود والركوب بصورة تمنع وقوع الجناية، والرواية الثانية: لا ضمان عليهم إذا ثبت عدم التقصير منهم عند علي ، إذ روى عنه أنه قال: إذا قال: الطريق؛ فأسمع فلا ضمان عليه، وعن علي أنه قال: إذا كان الطريق واسعاً فلا ضمان عليه. والحجة: أن وسع الطريق وتنبيه المارة هو التحرز والتثبت ، فإذا لم يبال المارة فهو تقصيرهم ، فإن أصيبوا فقد جنوا على أنفسهم؛ فلا ضمان لهم ، ولا منافاة بين الروايتين ؛ لأن الأولى مع ثبوت التقصير ، والثانية مع عدمه، وثبوت التقصير على المارة.
هـ- ما أنشئت بتعدٍّ فأحدثت تلفاً:
من حفر بئراً أو وضع شيئاً أو بناه في مكان لا حق له فيه فسببت تلف إنسان ، كأن يقع في البئر أو يعثر بما وضعه فيموت فهو ضامن عند علي، فقد قال رضي الله عنه: من حفر بئراً أو عرض عوداً فأصاب إنساناً فهو ضامن.
و- الخطأ في الشهادة:
الخطأ في الشهادة يوجب الضمان عند علي؛ فمن شهد على غيره خطأ في حد أو قصاص فأدى إلى تلف عضو أو نفس؛ ضمن الدية عنده. فقد روي عن علي من طرق متعددة: أنه شهد رجلان بسرقة على رجل ، فقطعَّ علي يده، ثم جاء الغد برجل فقال: أخطأنا بالأول ، هو هذا الاخر ، فأبطل شهادتهما على الاخر ، وأغرمهما دية الأول، وفي رواية فقال: لو كنتما تعمدتماه لقطعتكما ، فأبطل شهادتهما عن الاخر وأغرمهما دية الأول، والحجة في ذلك: أنهم تسببوا في الإتلاف ، والتسبب موجب للضمان كحافر البئر في الطريق.
ز- اشتراك جماعة في قتل بعضهم بعضاً خطأ:
إذا اشترك جماعة في قتل بعضهم بعضاً خطأ؛ توزعت المسؤولية الجنائية على جميعهم كل واحد بقدر فعلـه مطروحاً منـه ما جناه الميت على نفسه ، فعن خلاس قـال: استأجر رجل أربعة رجال ليحفروا له بئراً ، فحفروها ، فانخسفت بهم البئر فمات أحدهم ،فرفع ذلك إلى علي بن أبي طالب ، فضمن الثلاثة ثلاثة أرباع الدية ،وطرح عنه ربع الدية.
ح- من استخدم صغيراً أو عبداً بغير إذن:
من استخدم صغيراً بغير إذن وليه ، أو عبداً بغير إذن مولاه في عمل ، أو حمله على دابة فمات إثر ذلك؛ فهو ضامن عند علي ، فعن الحكم قال: قال علي: من استعمل مملوك قوم صغيراً أو كبيراً فهو ضامن، وقال علي: من استعان صغيراً حراً.. فهو ضامن ، ومن استعان كبيراً لم يضمن.
ط- الفعل المعنوي:
الفعل المعنوي كالإخافة والترويع وما شابهها إذا سبب قتل إنسان أو عطبه توجب المسؤولية الجنائية عند علي، فعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: رجل نادى صبياً على جدار أن استأخر؛ فخرَّ فمات؟ قال: يروون عن علي أنه قال: يغرمه ويقول: أفزعه، وإيجاب المسؤولية على الفعل المعنوي إجمالاً هو قول جمهور العلماء.
ي- جناية الطبيب:
إذا خالف الطبيب أو البيطري شروط المعالجة ، فعطب الإنسان أو الحيوان فهو ضامن، فعن الضحاك بن مزاحم قال: خطب علي الناس فقال: يا معشر الأطباء البياطرة والمطببين! من عالج منكم إنساناً أو دابة فليأخذ لنفسه البراءة ، فإنه إن عالج شيئاً ولم يأخذ لنفسه البراءة فعطب فهو ضامن، وعن مجاهد: أن علياً قال في الطبيب: إن لم يشهد على ما يعالج فلا يلومن إلا نفسه ، يقول: يضمن.
ك- الميت من القصاص والحد:
إذا أقيم حد أو قصاص على مستحق فمات؛ فلا ضمان على المقتص عند علي، فقد قال رضي الله عنه: من مات بقصاص بكتاب الله فلا دية له، وقال: من مات في حد فإنما قتله الحد ، فلا عقل له مات في حد من حدود الله، وقال أيضاً: اذا أقيم على الرجل الحد في الزنى ، أو السرقة ، أو قذف ، فمات فلا دية له، والحجة في ذلك ، أن القصاص واجب والواجب غير مشروط بالسلامة فيه ، فلا ضمان في أدائه إذا لم يحصل فيه تقصير أو إهمال.
ل- قاطع طريق ألقي القبض عليه:
إذا لم يأخذ مالاً ولم يقتل نـفساً حبس حتى يتوب ، وإذا أخذ مالاً ولم يقتل نفساً قطعت يـداه ، ورجلاه من خلاف ، إذا قتل وأخـذ المال قطعت يـداه ورجـلاه من خلاف ، ثم صلب حتى يموت ، وإن تاب قبـل أن يؤخذ؛ ضمن الأموال واقتص منه ولم يحد.
وقد تاب الحارث بن بدر قبل القدرة عليه ، وكان قاطعاً للطريق ، فقبل علي توبته وأسقط حد الحرابة عنه؛ لأنه تاب قبل القدرة عليه.
م- قاتل اعترف بالقتل لدفع التهمة عن متهم بريء:
أتي برجل إلى أمير المؤمنين علي من خربة بيده سكين ملطخة بدم ، وبين يديه قتيل يتشحط في دمه ، فسأله ، فقال: أنا قتلته ، قال: اذهبوا به فاقتلوه ، فلما ذهب به أقبل رجل مسرعاً ، فقال: يا قوم لا تعجلوا ردوه إلى علي ، فردوه ، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين ما هذا صاحبه ، أنا قتلته ، فقال علي للأول: ما حملك على أن قلت: أنا قاتله ، ولم تقتله؟ قال: يا أمير المؤمنين ، وما أستطيع أن أصنع، وقد وقف العسس على الرجل يتشخط في دمه ، وأنا واقف بين يدي سكين ، وفيها أثر الدم ، وقد أخذت في الخربة ، فخفت ألا يقبل مني ، وأن يكون قسامة، فأعترف بما لم أصنع ، وأحتسبت نفسي عند الله ، فقال علي: بئس ما صنعت ، فكيف كان حديثك؟ قال: إني رجل قصاب ، خرجت إلى حانوتي في الغلس ، فذبحت البقرة وسلختها ، فبينما أنا أسلخها ، والسكين في يدي أخذني البول ، فأتيت خربة كانت بقربي ، فدخلتها لقضاء حاجتي ، وعدت أريد حانوتي ، فإذا أنا بهذا المقتول يتشخط في دمه ، فراعني أمره ، ووقفت أنظر إليه ، والسكين في يدي ، فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا علي ، فأخذوني ، فقال الناس: هذا قتل هذا ، ما له من قاتل سواه ، فأيقنت أنك لا تترك قولهم بقولي ، فأعترفت بما لم أجنه. فقال علي للمقر الثاني: فأنت كيف كانت قصتك ، فقال: أغواني إبليس فقتلت الرجل طمعاً في ماله ، ثم سمعت حس العسس فخرجت من الخربة ، واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصفها ، فاستترت منه ببعض الخربة ، حتى أتى العسس فأخذوه وأتوك به ، فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضاً ، فاعترفت بالحق ، فقال علي للحسن: ما الحكمُ في هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين ، إن كان قد قتل نفساً فقد أحيا نفساً ، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32] ، فخلى علي عنهما ، وأخرج دية القتيل من بيت المال، ولعله فعل ذلك بعد إسقاط أولياء القتيل حقهم بالقصاص.
ن- امرأة قتلت زوجها يوم زفافها بحضور صديقها:
حدث في عهد علي رضي الله عنه: أن امرأة قتلت زوجها يوم زفافها بحضور صديقها ، فكانت العقوبة القتل قصاصاً من الجناة.
س- بدل الإبل في دفع الدية ، وكيف تدفع الدية؟
الأبل أصل في الدية ، ويجوز دفع بدلها إذا لم يتوافر الإبل عند علي ، فعن عامر عن علي وعبد الله وزيـد قالوا: الدية مئـة من بعير، وعن الحسن: أن عليـاً قضى بالدية اثني عشر ألفاً، أي درهم من الفضة ، وأما كيفية دفع الدية ، فدية الخطأ وشبه العمد على العاقلة تدفعها مقسطاً على ثلاث سنين عند علي، والحجة في ذلك: ما روي عن المغيرة في شعبة قال: قضى رسول الله ﷺ بالدية على العاقلة، وأما تقسيطها ، فلأنها كثيرة يصعب أداؤها حالاً فقسمت على ثلاث سنين بناء على التيسير الذي أمر به الإسلام.
ع- دية الكتابي:
دية الكتابي من اليهود والنصارى مثل دية المسلم، فعن الحكم بن عتيبة أن علياً قال: دية اليهودي والنصراني وكل ذمي مثل دية المسلم.
ف- دية الصُّلب:
دية العمود الفقري دية كاملة عند علي إذا كسر وفقد صاحبه القوة على الجماع، فقد قال علي رضي الله عنه إذا كسر الصلب ومنع الجماع ففيه الدية.
ص- عين الأعور:
إذا فقأ إنسان عين الأعور؛ فإن فيها الدية كاملة أو يقتص الأعور لنفسه فيفقأ عيناً للجاني ويأخذ نصف الدية عند علي. نقل ذلك ابن قدامة؛ لأن عين الأعور تعادل عيني البصير في منفعة البصر ، لذلك فيها الدية كاملة.
ق- دية الأصابع:
دية كل أصبع من الأصابع عشر دية النفس عند علي؛ أي: عشر من الإبل ، فعن عاصم بن ضمرة عن علي قال: في الأصبع عشر الدية، وفي رواية: في الأصبع عشر العشر.
رابعاً: في التعزير:
كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) يؤدب العاصي ويردعه عن معصيته بالتعزير إذا لم يترتب على معصيته حد ، ولما كانت عقوبة التعزير على المعصية غير محددة ، فإن أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) يذهب إلى الملاءمة بين العقوبة والمعصية فكلما تعاظمت المعصية كانت العقوبة أعظم ، ولقد تعددت وسائل التعزير عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) حسب نوع المعصية وحال العاصي، ومنها على سبيل المثال:
1- الضرب باليد:
ومثال ذلك: لما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطوف بالبيت ، وعلي رضي الله عنه ، يطوف معه ، إذ عرض رجل لعمر فقال: يا أمير المؤمنين خذ حقي من علي بن أبي طالب ، فقال: وما باله؟ قال: لطم عيني ، فوقف عمر ، حتى لحق به علي فقال: ألطمت عين هذا يا أبا الحسن؟ قال: نعم ، يا أمير المؤمنين ، قال: ولم؟ قال: لأني رأيته يتأمل حرم المؤمنين في الطواف ، فقال عمر: أحسنت يا أبا الحسن.
2- الجلد دون الحد:
وكان أكثر ما يعزر به ، ومن ذلك جلده للنجاشي الشاعر الذي شرب الخمر ، وأفطر في رمضان ، فقال له: إنما جلدتك هذه العشرين لجرأتك على الله ، وإفطارك في رمضان.
3- التشهير:
لجأ علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) إلى التشهير بالعاصي وتعريف الناس به ، كما فعل بشاهد الزور ، وفي ذلك مصلحة للمجتمع ، لئلا يستشهد فتضيع الحقوق ، عن علي بن الحسين قال: كان علي إذا أخذ شاهد زور بعثه إلى عشيرته فقال: إن هذا شاهد زور ، فاعرفوه ، وعرفوه ، ثم خلى سبيله. وعن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أخذ شاهد الزور فعزره ، وطاف به في حيه وشهره ، ونهى أن يستشهد به.
4- الحبس:
كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يعاقب بالحبس أحياناً ، ومن ذلك حبسه للنجاشي الشاعر ، الذي يشرب الخمر ، وأفطر في رمضان.
5- التقييد في الحبس:
كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقيد الدعار، بالحبس بقيود لها أقفال ، ويوكل بهم من يحلّها لهم وقت الصلاة من أحد الجانبين.
6- الغمس في الأقذار:
وجد رجل تحت فراش امرأة ، فأتي به علي ، فقال رضي الله عنه: اذهبوا به فقلبوه ظهراً لبطن في مكان منتن ، فإنه كان في مكان شر منه.
7- القتل:
قد يصل التعزير عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى القتل، إذا كانت الجريمة قد تعاظمت ، وكان لها أثرها البالغ الأهمية ، كوضع الأحاديث على لسان رسول الله ﷺ ، لأن هذا العمل يؤدي إلى إدخال شيء في الدين ما ليس منه ، وانحراف الناس عن دينهم الذي ارتضى الله لهم، لذا فقد كان يقول: من كذب على النبي ﷺ يضرب عنقه.
8- إتلاف أداة الجريمة وما يتبعها:
فقد ورد عن ربيعة بن زكار قال: نظر علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى قرية فقال: ما هذه القرية؟ قالوا: قرية تدعى زرارة، يلحم فيها ويباع فيها الخمر ، فأتاها بالنيران فقال: أضرموها فيها ، فإن الخبيث يأكل بعضه بعضاً ، فاحترقت، فقد أحرق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في هذه القرية الخمر وما يتبعه من مواد وأدوات تستخدم لصناعته.
لقد أثر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في المؤسسة القضائية باجتهاداته في مجال القصاص والحدود والجنائيات والتعزير، كما أنه رضي الله عنه ساهم في تطوير المدارس الفقهية الإسلامية باجتهاداته الدالة على سعة اطلاعه وغزارة علمه وعمق فقهه وفهمه ، واستيعابه لمقاصد الشريعة الغراء.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf