صفات أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنهما:
علم غزير ومعرفة واسعة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة: الرابعة والعشرون
رجب 1441 ه/ مارس 2020م
إن شخصية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه تعتبر شخصية قياديّة، وقد اتصف رضي الله عنه بصفات القائد الرّباني، فمن أهم هذه الصِّفات: إيمانه العظيم بالله واليوم الآخر، والعلم الشرعيُّ، والثقة بالله، والقدوة، والصِّدق، والكفاءة، والشَّجاعة، والمروءة، والزُّهد، وحب التضحية، والتّواضع، وقبول النصيحة، والحلم والصَّبر، وعلو الهمَّة، والحزم، والإدارة القويَّة، والعدل، والقدرة على حلِّ المشكلات، وغير ذلك من الصِّفات، وبسبب ما أودع الله فيه من صفات القيادة الربانية استطاع أن يقدم مشروعه الإصلاحي مع قدرته على التنفيذ والتغلب على العوائق في الطريق وتوّجت جهوده الفذة بوحدة الأمة ومن أهم تلك الصِّفات التّي نحاول تسليط الأضواء عليها هي:
العلم:
تربى الحسن في بيت النبوة، فتأثر بجده صلى الله عليه وسلم ووالدته السيدة فاطمة في طفولته واستفاد من والده العلم الغزير، فقد اهتم به اهتماماً كبيراً، وكان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يعلم الناس كتاب الله ومن بينهم أبنائه ومنهم أمير المؤمنين الحسن والحسين فتعلموا منه منهجه لبيان الحكم الشرعي وطريقته في الاستنباط والتي كانت ملامحها، الالتزام بظاهر القرآن الكريم، حمل المطلق على المقيد، وحمل المجمل على المفسر، والعلم بالناسخ والمنسوخ، والنظر في لغة العرب، وفهم النص بنص آخر، والسؤال عن مشكله، والعلم بمناسبة الآيات، وتخصيص العام، ومعرفة عادات العرب وأحوالهم، وقوة الفهم وسعة الإدراك، وكان القرآن الكريم لذلك الجيل ومنهم الحسن بن علي هو المنهج التربوي ومع هدي النبي صلى الله عليه وسلم فكانت للآيات القرآنية الكريمة التي سمعها من والده أمير المؤمنين علي أثرها في علمه وصياغة شخصيته، فقد تطهر قلبه وزكت نفسه، وتفاعلت معه روحه، فأبصر الحقائق الكبرى في عالم الوجود، وكان من شيوخه الذين حفظ عليهم القرآن الكريم عبد الله بن حبيب بن ربيعة أبو عبد الرحمن السلُّمي، مقري الكوفة وكان لأبيه صحبة روى عن علي رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وقد أخذ القراءة عنه عاصم وعطاء والحسن والحسين رضي الله عنهم وكان يقرئ عشرين آية بالغداة وعشرين آية بالعشي وكان فقيهاً وتوفي في الكوفة في خلافة عبد الملك بن مروان وكان ثقة كثير الحديث ، وعن عبد الله بن المبارك عن عطاء بن السائب قال: دخلنا على أبي عبد الرحمن السُّلمي ـ وهو يقضي أي ينزع في المسجد، فقلنا له: لو تحولت إلى الفرش فإنه أوثر . قال: حدثني فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال أحدكم في صلاة ما دام في مصلآّه ينتظر الصلاة ،وفي رواية ابن سعد: الملائكة تقول: اللهم اغفر له، اللهم أرحمه. قال أبو عبد الرحمن السُّلمي: فأريد أن أموت وأنا في مسجدي ، وكان منهجه رحمه الله في تعليم القرآن الكريم منهج الصحابة الكرام، فعن أبي عبد الرحمن السُّلمي قال: حدّثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ـ كعثمان بن عفّان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما: أنَّهم كانوا إذا تعلَّموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات، لم يتجاوزها حتى يتعلموا ما فيها من العلم، والعمل، قالوا: فتعلَّمنا القرآن والعلم، والعمل جميعاً، ولهذا كانوا يبقون مدّة في حفظ السُّورة ، ويعتبر أبو عبد الرحمن السُّلمي شيخ الحسن بن علي في القرآن الكريم من أشهر تلاميذ عثمان بن عفان رضي الله عنه وقد سار الحسن بن علي على نفس الطريقة في حفظ وفهم والعمل بالقرآن الكريم.
- نظرة أمير المؤمنين الحسن لله والكون والحياة والجنة والنار:
قد عرف الحسن من خلال القرآن الكريم وتربية والده أمير المؤنين علي من هو الإله الذي يجب أن يعبده، فأصبحت نظرة الحسن بن علي إلى الله -عز وجل ـ
والكون، والحياة، والجنّة والنَّار، والقضاء والقدر، وحقيقة الإنسان، وصراعه مع الشيطان مستمدة من القرآن الكريم وهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
- فالله سبحانه وتعالى منَّزهُ عن النقائص، موصوف بالكمالات التي تتناهى فهو سبحانه واحد لا شريك له، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً.
- وأنَّه سبحانه حدّد مضمون هذه العبودية، وهذا التّوحيد في القرآن الكريم .
- وأما نظرته للكون، فقد استمدّها من قول الله تعالى: ((قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)) (فصلت، آية: 9 ـ 12).
- وأما هذه الحياة مهما طالت، فهي إلى زوال، وأنّ متاعها مهما عظم، فإنه قليل حقير، قال تعالى: ((إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) (يونس، آية: 24).
- وأما نظرته إلى الجنة، فقد استمدها من خلال الآيات الكريمة فأصبح هذا التصور مهيمناً على نفسه، فيرى المتتبِّع لسيرة الحسن بن علي رضي الله عنه عمق استيعابه لفقه القدوم على الله عز وجل، وشدّة خوفه من عذاب الله، وعقابه وأما مفهوم القضاء والقدر فقد استمدَّه من كتاب الله، وتعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم له، فقد رسخ مفهوم القضاء والقدر في قلبه كما قال تعالى: ((قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)) (التوبة، آية 51).
- وعرف الحسن بن علي رضي الله عنه من خلال القرآن الكريم حقيقة الصِّراع بين الإنسان والشيطان، وأن هذا العدوّ يأتي للإنسان من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله يوسوس له بالمعصية، ويستثير فيه كوامن الشهوات، فكان مستعيناً بالله على عدوِّه إبليس وانتصر عليه في حياته.
- وتعلّم من خطئية آدم ضرورة توكُّل المسلم على ربِّه، وأهمية التوبة، والاستغفار في حياة المؤمن، وضرورة الاحتراز من الحسد، والكبر، وأهمية التخاطب بأحسن الكلام مع الصَّحابة لقول الله تعالى: ((وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا)) (الاسراء، آية: 53).
لقد أكرم المولى ـ عز وجل ـ الحسن بن علي رضي الله عنه بالعيش مع القرآن الكريم، فعاش به، واستمد أصوله، وفروعه من كتاب الله، وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح من أئمة الهدى، الذين يرسمون للنَّاس خطَّ سيرهم، ويتأسَّى النَّاس بأقوالهم، وأفعالهم في هذه الحياة، وكان رضي الله عنه من أهل القرآن ولذلك كانت خطبه بالقرآن الكريم فقد روي عنه رضي الله عنه بأنه خطب يوم الجمعة فقرأ سورة إبراهيم على المنبر حتى ختمها وقد كان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قرأ سورة ق حتى ختمها،. فقد روى مسلم عن أم هشام بنت حارثة قالت: ما أخذت "ق، والقرآن المجيد" إلا من لسان رسول الله يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس ، وروى عن ابن ماجة عن أبي بن كعب قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة "تبارك" وهو قائم، فذكرنا بأيام الله، وأبو الدرداء أو أبو ذر يغمزني فقال: متى أنزلت هذه السورة؟ فإني لم أسمعها إلى الآن، فأشار إليه أن سكت ، ولهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يخطب بالقرآن ، ولذلك كان الحسن بن علي رضي الله عنه يوجِّه الناس بآيات القرآن الكريم ويتلوها عليهم، ملتزماً بالمنهج النبوي في قراءته للقرآن بإتقان وتركيز وتدبر وخشوع، وتحسين للصوت، فتهتز لها القلوب وتذرف لها الدموع. وإذا حاولنا أن نتأمل في سورة إبراهيم عليه السلام التي قرأها على المنبر كاملة نلاحظ بأن أهم مواضيعها هي:
ـ إثبات أصول العقيدة من الإيمان بالله وبالرسل وبالبعث والجزاء وإقرار التوحيد، والتعريف بالإله الحق خالق السَّماوات والأرض، وبيان الهدف من إنزال القرآن الكريم، وهو إخراج الناس من الظلمات إلى النُّور، واتَّحاد مهمة الرُّسل ودعوتهم في أصول الاعتقاد والفضائل وعبادة الله والإنقاذ من الضلال.
ـ الوعد والوعيد: ذمَّ الكافرين ووعيدهم على كفرهم وتهديدهم بالعذاب الشديد، ووعد المؤمنين على أعمالهم الطِّيِّبة بالجنان (الآية 2، والآية 23، والآيات 28 ـ 31).
ـ الحديث عن إرسال الرُّسل بلغات أقوامهم، لتسهيل البيان والتفاهم (الآية: 4).
ـ تسلية الرّسول صلى الله عليه وسلم ببيان ما حدث للرُّسل السابقين مع أقوامهم: قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم، والتذكير بعقابهم، كما في الآيات (9 ـ 12) والآيات (13 ـ 18).
ـ ابتداء من بين قصص بعض الأنبياء المتقدمين عليهم السّلام بمحاورة موسى لقومه ودعوته إيَّاهم لعبادة الله تعالى (الآيات 5 ـ 8).
ـ ابتداء من بين قصص بعض الأنبياء المتقدمين عليهم السّلام بمحاورة موسى لقومه ودعوته إيَّاهم لعبادة الله تعالى (الآيات 5 ـ 8).
ـ دعوات إبراهيم عليه السَّلام بعد بناء البيت الحرام لأهل مكة بالأمان والرّزق وتعلُّق القلوب بالبيت الحرام، وتجنيبه وذريَّته عبادة الأصنام، وشكره ربه على ما وهبه من الأولاد بعد الكبر، وتوفيقه وذريّته لإقامة الصَّلاة، وطلبه المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين (الآيات 53 ـ 41).
ـ بيان مشهد من مشاهد الحوار بين أهل النار في عالم الآخرة (الآيات 19 ـ 23).
ـ ضرب الأمثال لكلمة الحق والإيمان وكلمة الباطل والضَّلال بالشجرة الطيبة والشَّجرة الخبيثة (الآيات 24 ـ 27).
ـ التذكير بأهوال القيامة وتهديد الظالمين وبيان ألوان عذابهم (الآيات: 42 ـ 52).
ـ بيان الحكمة من تأخير العذاب ليوم القيامة، وهو ما ختمت به السورة (الآيات: 51 ـ 52).
هذه أهم المواضيع التي اشتملت عليها سورة إبراهيم عليه السلام والتي خطب بها الحسن بن علي رضي الله عنه على المنبر لخطبة الجمعة، كما كان الحسن بن علي رضي الله عنه إذا أوى إلى فراشه قرأ سورة الكهف، وقد استهلت السورة ببيان وصف القرآن بأنه قيم مستقيم لا اختلاف فيه ولا تناقض في لفظه ومعناه، وأنه جاء للتبشير ثم لفت النظر إلى ما في الأرض من زينة وجمال وعجائب تدل دلالة واضحة على قدرة الله تعالى، وتحدثت السورة عن ثلاث قصص من روائع قصص القرآن الكريم وهي قصة أصحاب الكهف، وقصة موسى مع الخضر، وقصة ذي القرنين، أما قصة سورة الكهف (9 ـ 26) فهي مثال عالٍ، ورمز سام للتضحية بالوطن والأهل والأقارب والأصدقاء والأموال في سبيل العقيدة الصحيحة وإتباع الهدى، فقد فرّ هؤلاء الشباب الفتية المؤمنون بدينهم من بطش الملك الوثني واحتموا في غار في الجبل، فأنامهم الله ثلاثة مائة وتسع سنين سنة قمرية، ثم بعثهم ليقيم دليلاً حسياً للناس على قدرته على البعث واتبع الله تعالى القصة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتواضع ومجالسة الفقراء المؤمنين وعدم الفرار إلى مجالسة الأغنياء لدعوتهم إلى الدين: ((وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)) (الكهف، الآية: 28). ثم هدد الله تعالى الكفار بعد إظهار الحق، وذكر ما أعده لهم من العذاب الشديد في الآخرة ((وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ)) (الكهف، الآية: 29) وقارن ذلك بما أعده سبحانه من جنات عدن للمؤمنين الصالحين (30 ـ 31).
وأما قصة موسى مع الخضر في الآيات (60 ـ 78) فكانت مثلاً للعلماء في التواضع أثناء طلب العلم، وأنه قد يكون عند العبد الصالح من العلوم في غير أصول الدين وفروعه ما ليس عند الأنبياء، بدليل قصة خرق السفينة، وحادثة قتل الغلام، وبناء الجدار، وأما قصة ذي القرنين في الآيات (83 ـ 99) فهي عبرة للحكام والسلاطين، إذ أن هذا الملك تمكن من السيطرة على العالم، ومشارق الأرض ومغاربها، وبنائه السد العظيم بسبب ما اتصف به من التقوى والعدل والصلاح.
وتخللت هذه القصة أمثلة ثلاثة بارزة رائعة مستمدة من الواقع، لإظهار أن الحق لا يقترن بالسلطة والغنى، وإنما يرتبط بالإيمان، وأول هذه الأمثلة قصة أصحاب الجنتين (32 ـ 44) للمقارنة بين الغني المغتر بماله، والفقير المعتز بإيمانه، لبيان حال فقراء المؤمنين وحال أغنياء المشركين. وثانيها: مثل الحياة الدنيا (45 ـ 46) لإنذار الناس بفنائها وزوالها. وأردف ذلك بإيراد بعض مشاهد القيامة الرهيبة من تسيير الجبال، وحشر الناس في صعيد واحد، ومفجأة الناس بصحائف أعمالهم (47 ـ 49) وثالثها: قصة إبليس وإبائه السجود لآدم (50 ـ 53) للموازنة بين التكبر والغرور، وما أدى إليه من طرد وحرمان وتحذير الناس من شر الشيطان، وبين العبودية لله والتواضع، وما حقق من رضوان الله تعالى، وأردف ذلك بيان عناية القرآن بضرب الأمثال للناس للعظة والذكر وإيضاح مهام الرسل للتبشير والإنذار والتحذير من الأعراض عن آيات الله (54 ـ 57) وختمت السورة بموضوعات ثلاثة: أولها ـ إعلان تبديد أعمال الكفار وضياع ثمرتها في الآخرة (100 ـ 106) وثانيها ـ تبشير المؤمنين الذين عملوا الصالحات بالنعيم الأبدي (107 ـ 108) وثالثها ـ أن علم الله تعالى لا يحده حدود ولا نهاية
(109 ـ 110) وكانت آخر آية في السورة وبعدما بين المولى عز وجل كمال كلامه، أمر تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بالتواضع فقال ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) (الكهف، آية: 110) أي قل يا محمد لهم: ما أنا إلا بشر مثلكم في البشرية، ليس لي صفة الملَكية أو الألوهية، ولا علم لي إلا ما علمني الله، إلا أن الله تعالى أوحى إلي أنه لا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد، فلا شريك له في ألوهيته، فمعبودكم الذي يجب أن تعبدوه هو معبود واحد لا شريك له ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) أي فمن آمن بلقاء الله، وطمع في ثواب الله على طاعته، فليتقرب إليه بصالح الأعمال، وليخلص له العبادة، وليجتنب الشرك بعبادة الله أحداً من مخلوقاته، سواء أكان شركاً ظاهراً كعبادة الأوثان أو إدعاء غير الله تعالى أو النذر للمخلوقين أو اعتقاد أن الخلق ينفعون أو يغيرون بما لا يقدر عليه إلا الله أو صرف أنواع العبودية من خوف أو رجاء أو حب لغير الله مما لا ينبغي إلا لله، أم شركاً خفياً كفعل شئ رياء أو سمعة وشهرة ، والرياء هو الشرك الأصغر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء
وقد جمعت الآية الكريمة شرطي قبول الأعمال، إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قوله: ((فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا)) والإخلاص لله وهو قوله: ((وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)).
إن هذه المعاني الكريمة والآيات العزيزة كان الحسن بن علي يقرأها كل يوم بتمعن وتدبر، فكانت لها تأثيرها على نفسه وفي حياته، كما كان للحسن بن علي رضي الله عنه اهتمام بالسيرة النبوية الشريفة، فقد كانت من ثقافة ذلك الجيل تعلم السيرة النبوية، فقد قال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدها علينا ويقول هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها وقال علي بن الحسن: كنا نُعلم مغازي رسول الله كما نعلم السورة من القرآن ، وأما السنة النبوية، فقد كان والده أمير المؤمنين علي أكثر الخلفاء الراشدين رواية لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا راجع إلى تأخر وفاته عن بقية الخلفاء، وكثرة الرواة عنه، وانتشار طلبة العلم من التابعين الذين كانوا يكثرون السؤال، ووقوع الأحاديث التي تقتضي البلاغ والرواية، في أمور أخرى فنقلوا عنه ما بلغهم بأمانه ونزاهة وقد استفاد منه ابنه الحسن استفادة عظيمة أما من جده صلى الله عليه وسلم فقد توفي صلى الله عليه وسلم، والحسن صغير كما هو معلوم، فعقل عن رسول الله أحاديث وأموراً ذكرها منسوبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد بينتها فيما مضى. وكان الحسن رضي الله عنه يحث أولاده على طلب العلم، فقد دعا بنيه وبني أخيه فقال: يا بنيَّ وبني أخي إنكم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين فتعلّموا العلم فمن لم يستطع منكم أن يرويه أو يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته .وكان رضي الله عنه خطيباً مفوهاً، فقد قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه للحسن ذات يوم: قم فاخطب الناس يا حسن. قال: إني أهابك أن أخطب وأنا أراك فتغيب عنه حيث يسمع كلامه ولا يراه، فقام الحسن فحمد الله وأثنى عليه وتكلم ، ثم نزل فقال علي: ((ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (آل عمران، آية: 34). وقد ورث الحسن من جده صلى الله عليه وسلم ووالده رضي الله عنهم الخطابة والفصاحة والبلاغة وقوة البيان، وقد ذكرت كتب التاريخ: أن علياً رضي الله عنه سأل ابنه ـ يعني الحسن ـ عن أشياء عن المُروءة، فقال: يا بُنيّ ما السَّدادُ؟ قال: يا أبتي السَّدادُ دفع المنكر بالمعروف. قال: فما الشرف؟ قال: اصطناع العشيرة وحمل الجريرة. قال: فما المروءة؟ قال: العفاف وإصلاح المرءِ مالَه. قال: فما الدِّقَّةُ ؟ قال: النظر في اليسير ومنع الحقير . قال: فما اللُّؤْم؟ قال: إحراز المرءِ نفسه وبذله يحْرسَه قال: فما السماحة؟ قال: البذل في العسر واليسر. قال: فما الشُّح؟ قال: أن ترى ما في يديك شرفاً وما أنفقته تلفاً. قال: فما الإخاء؟ قال: الوفاء في الشدة والرخاء. قال: فما الجُبن؟ قال: الجرأة على الصديق والنّكول على العدو. قال: فما الغنيمة؟ قال: الرغبة في التقوى، والزهادة في الدنيا هي الغنيمة الباردة قال: فما الحلم؟ قال: كظم الغيظ ومَلْكُ النفس. قال فما الغنى؟ قال: رضا النفس بما قسم الله لها وإن قلَّ، فإنما الغنى غنى النفس قال: فما الفقر؟ قال: شره النفس في كل شئ. قال: فما الذلُّ؟ قال: الفزع عند المصدوقة . قال فما الجرأة؟ قال: موافقة الأقران. قال فما الكُلْفة؟ قال: كلامك فيما لا يَعْنِيك.
قال: فما المجد؟ قال: أن تعطي في الغُرم وأن تعفو عن الجُرم. قال فما العقل؟ قال: قال: حفظ القلب كلَّ ما استرعيته. قال: فما الخُرقُ ؟ قال: معاداتك إمامك ورفعك عليه كلامك. قال: فما الثناء. قال: إتيان الجميل وترك القبيح. قال: فما الحزم؟ قال: طول الأناة والرفق بالولاة، والاحتراس من الناس بسوء الظن هو الحزم. قال فما الشَّرف؟ قال: قال: موافقة الأخوان، وحفظ الجيران قال: فما السَّفَهُ؟ قال اتباعُ الدُّناة، ومصاحبة الغُواة. قال: فما الغفلة؟ قال: تركُك المسجد وطاعتك المفسد. قال فما الحرمان؟ قال: تركك حظَّك وقد عُرض عليك. قال: فما السَّيِدُ؟ قال: الأحمق في المال، المتهاون بعرضه، يُشْتَمُ فلا يجيب، المحتزن بأمر العشيرة هو السيد. ثم قال عليُّ: يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا عقل كالتدبير، ولا حسب كحسن الخلق، ولا ورع كالكفِّ، ولا عبادة كالتفكر، ولا إيمان كالحياء، ورأس الإيمان الصبر، وآفة الحديث الكذب، وآفة العلم النسيان، وآفة الحلم السفه، وآفة العبادة الفترة، وآفة الظَّرف الصَّلف، وآفة الشجاعة البغي، وآفة السماحة المن، وآفة الجمال الخيلاء وآفة الحبِّ الفخر. ثم قال علي: يا بُنيَّ، لا تستخفَّنَّ برجل تراه أبداً فإن كان أكبر منك فعُدَّ أنه أبوك، وإن كان مثلك فهو أخوك، وإن كان أصغر منك، فاحسب أنه ابنك. فهذا ما ساءل عليُّ ابنه عن أشياء من المروءة. قال القاضي أبو الفرج.
ففي هذا الخبر من الحكمة وجزيل الفائدة ما ينتفع به من راعاه وحفظه ووعاه، وعمل به، وأدّب نفسه بالعمل عليه، وهذبها بالرجوع إليه، وتتوفر فائدته بالوقوف عنده، وفيما رواه أمير المؤمنين وأضعافه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما لا غنى لكل لبيب عليم ومدره حكيم عن حفظه وتأمُّله، والمسعود من هُدى لتقبُّله والمجدود من وفق لامتثاله وتقبله .وقد علق ابن كثير على هذا الأثر فقال: ولكنَّ هذا الأثر وما فيه من الحديث المرفوع ضعيف ومثل هذه الألفاظ في عبارتها ما يدل ما في بعضها من النّكارة على أنه ليس بمحفوظ والله أعلم . وما دامت الأمور التي ذكرتها مع الكتاب والسنة لا تتعارض ولا تبنى عليها عقيدة أو عبادة وإنما تدعو إلى مكارم الأخلاق، فلا مانع من الاستئناس بها. وقد سأل أمير المؤمنين علي ابنه الحسن كم بين الإيمان واليقين؟ فقال الحسن رضي الله عنه: أربع أصابع. فقال أمير المؤمنين علي وكيف؟ فقال الحسن: الإيمان كل ما سمعته أذناك وصدقه قلبك. واليقين ما رأته عيناك، فأيقن به قلبك وليس بين العين والأذن إلا أربع أصابع . ومن أقواله: حسن السؤال نصف العلم ، وسئل عن الصمت فقال: هو ستر العين أو زين العرض وفاعله في راحة وجليسه في أمان ، ومن علمه أنه أوصى بتعلم اللغة العربية .
وتأكيده على تعلم اللغة العربية تأكيد على ضرورة تطبيق القواعد العلمية في القراءة وخاصة قراءة الآيات القرآنية، لأن اللغة العربية هي اللغة التي أنزل الله بها القرآن كتابة ولفظاً وخاطب بها شرائع دينه وفرائض ملته وبها بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم رسالته وعلم بها سنته النبوية الشريفة المطهرة وبها ألفت الكتب الدينية والكتب العلمية وكتب الحكمة. فلا بد للناشئ من تعلمها، وإلا كان جاهلاً بالدين منقوصاً في العلم، إضافة إلى ما تمتاز به هذه اللغة من الفصاحة والبيان والطلاوة على اللسان والحلاوة في الإسماع والآذان . ومن الأمور التي تؤكد تمكن الحسن بن علي من اللغة العربية، فقد كان يعد من فصحاء العرب، فقد قال عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن بن علي رضي الله عنهما ، وقد كان للحسن بن علي تلاميذ نجباء منهم ابنه الحسن، والمسيب بن نجبة، وسويد بن غفلة، والعلاء بن عبد الرحمن، والشعبي، وهبيرة بن يريم والأصبغ بن نباته، وجابر بن خالد، وأبو الحوراء، وعيسى بن مأمون بن زرارة ويقال ابن المأموم وأبو يحي عمير بن سعيد النّخعي، وأبو مريم قيس الثقفي، وطحرب العجلي، وإسحاق بن يسار والد محمد بن إسحاق وسفيان بن الليل، وعمر بن قيس الكوفيون . ويظهر غزارة علمه، ودقة فقهه في علم المصالح والمفاسد، ومعرفته العميقة بمقاصد الشريعة في تقديمه وحدة الأمة وحفظ الدماء على المصلحة الخاصة من ملك الدنيا عندما تنازل لمعاوية.
يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf