زهد أمير المؤمنين الحسن بن علي (رضي الله عنهما)
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة: السادسة والعشرون
رجب 1441 ه/ مارس 2020م
فهم الحسن رضي الله عنه من خلال معايشته للقرآن الكريم وملازمته لوالده أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار ابتلاء واختبار، فقد تربى على كتاب الله واستوعب الآيات التي تحدثت عن الدنيا وأخبرتنا بخستها وقلتها وانقطاعها وسرعة فنائها وكان رضي الله عنه يقرأ كل يوم سورة الكهف ويمر على قوله تعالى: ((وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)) (الكهف، آية: 45، 46) فهذا المثل يدل على حقارة الدنيا وقلة بقائها، ومصير ما فيها من النعيم والترف إلى الهلاك، ولما بين تعالى أن الدنيا سريعة الانقراض والزوال، بين أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا في عرف الناس، وكل ما كان من زينة الدنيا فهو سريع الانقضاء والانقراض، فيقبح بالعاقل الافتخار به أو الفرح بسببه ((وأما َالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)) أي أن أعمال الخير وأفعال الطاعات، كالصلوات والصدقات، والجهاد في سبيل الله، ومساعدة الفقراء والأذكار أفضل ثواباً، وأعظم قربة عند الله، وأبقى أثراً، إذ ثوابها عائد على صاحبها، وخير أملاً حيث ينال صاحبها في الآخرة كل ما كان يؤمله في الدنيا ، وتربى الحسن بن علي على منهج جده صلى الله عليه وسلم الذي كان أعرف الخلق بالدنيا ومقدارها، إذ هو القائل صلى الله عليه وسلم، لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً شربة ماء ، وقال صلى الله عليه وسلم: ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليمِّ فلينظر بما ترجع ، وقال صلى الله عليه وسلم، الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، وقد تأثر أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنه بالتربية القرآنية والنبوية، فكان من أصدق النَّماذج الإسلامية في الزهد، فقد ضرب لنا أروع الأمثلة في الزهد وإليك التفصيل.
إن حرص المرء على الشرف والملك أشد من حرصه على المال كما أن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها، والرياسة على الناس، والعلو في الأرض أضرُّ على العبد من طلب المال، وضرره أعظم والزهد فيه أصعب، فإن المال يبذل في طلب الرياسة والشرف، والحرص على الشرف على قسمين:
أحداهما: طلب الشرف بالولاية السلطان والمال، وهذا خطر جدّاً، وهو في الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزّها. قال تعالى: ((تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) (القصص، آية: 83). وقلَّ من يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات فَيُوَفَّقُ، بل يُوَكلُ إلى نفسه ، كما قال: صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمُرة رضي الله عنه: يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أُعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعمت المرضعة ، وبئست الفاطمة إن حبَّ المال والرياسة والحرص عليهما يفسد دين المرء، حتى لا يبقى منه إلا ما شاء الله فقد قال صلى الله عليه وسلم، ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه . وأصل محبة المال والشرف حبُّ الدنيا، وأصل حبَّ الدنيا إتباع الهوى ، قال وهب بن مُنبِّه: من إتباع الهوى الرغبة في الدنيا، ومن الرغبة فيها حبُّ المال والشرف، ومن حب المال والشرف استحلال المحارم
ولذلك قال تعالى: ((فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)) (النازعات، آية: 37 ـ 41). كما أن النفس تحب الرفعة والعُلُوَّ على أبناء جنسها ومن هنا نشأ الكبُر والحسد، ولكنَّ العاقل ينافس في العلو الدائم الباقي الذي فيه رضوان الله وقربه وجواره، ويرغب عن العلوِّ الثاني الذي الفاني الزائل الذي يعقبه غضب الله وسخطه وانحطاط العبد وسفوله وبعده عن الله وطرده عنه، فهذا العلو الثاني الذي يُذَمُّ وهو العتو والتكبر في الأرض بغير الحقِّ. وأما العلوُّ الأول والحرص عليه، فهو محمود قال الله تعالى: ((وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)) (المطففين، آية: 26). وقال في الآخرة، وقال وهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل . ففي درجات الآخرة الباقية يُشرعُ التنافس وطلب العلوِّ في منازلها والحرص على ذلك بالسِّعي في أسبابه، وأن لا يقنع الإنسان منها بالدون مع قدرته على العلوِّ، ـ وأما العلوُّ الفاني، المنقطع الذي يُعقب صاحبه غداً حسرة وندامة وذلة وهواناً وصغاراً فهو الذي يُنْشَرُ الزهد فيه والإعراض عنه ، وهذا الفقه العظيم والفهم العميق نتعلمه من سيرة الحسن بن علي رضي الله عنه فقد ترك الملك والسلطان رغبة فيما عند الله وحقناً لدماء المسلمين، فقد تركها وهو في قوة ومنعة فقد قال: كانت جماجم العرب بيدي، يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت فتركتها ابتغاء وجه الله . وقال في رواية أخرى: ولكن خشيت أن يجئ يوم القيامة سبعون ألفاً أو ثمانون ألفاً، أو أكثر أو أقلُّ، كلهم تنضح أوداجهم دماً، كلهم يستعدي الله فيم هُرِيق دمه ، لقد بايع الحسن بن علي بعد وفاة علي تسعون ألفاً ، فزهد في الخلافة، فلم يُردها وسلّمها لمعاوية وقال: لا يهرق علي يدي محجمة دم . وقال في رواية: ما أحببتَ أن ألي من أمة محمد مثقال حبة من خردل يهراق فيه محجمة من دم، قد علمت ما ينفعني ممّا يضرني، فالحقوا بطيَّتكم .
يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf