كرم وجود أمير المؤمنين الحسن بن علي (رضي الله عنهما)
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة:السابعة والعشرون
رجب 1441 ه/ مارس 2020م
من الأخلاق القرآنية والتي تتصف بها النفوس الكريمة التي تجسدت في شخصية الحسن بن علي رضي الله عنه، خلق الكرم والجود، وكثرة الإنفاق في سبيل الله تعالى، وكان تنويه القرآن الكريم بأهل الكرم عظيماً، وقد كان هذا التنويه من أول القرآن الكريم حيث يقول سبحانه في مستهل ثاني سورة بعد البسملة: ((ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) ثم وصفهم بقوله: ((أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (البقرة، آية: 1 ـ 5) وقد تأثر أمير المؤمنين الحسن بالقيم القرآنية والنبوية والتربية العملية في حضن أمير المؤمنين علي وانعكس ذلك على نفسيته وترك لنا آثاراً بارزة دالة على تأصل خلق الجود والكرم والإنفاق في شخصيته العظيمة، فقد كان على جانب عظيم من السخاء والجود، وكيف لا يكون كذلك وقد شبَّ وكبر في بيت أكرم الكرماء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وقد تسلسلت إليه هذه الخلة الكريمة وتشربتها نفسه في طفولته، وأخبار كرمه وجوده أصبحت مضرب الأمثال، وقدوة العظماء من الرجال .
منها: قال محمد بن سيرين: ربما أجاز الحسن بن علي الرجل الواحد بمائة ألف ، وقال سعيد بن عبد العزيز، سمع الحسن رجلاً إلى جانبه يدعو الله أن يملكه عشرة آلاف درهم فقام إلى منزله فبعث إليه ، وذكروا أنه رأى غلاماً في حائط من حوائط المدينة يأكل من رغيف لقمة، ويطعم كلباً هناك لقمة، فقال له: ما حملك على هذا؟ فقال: إني استحيي من أن آكل ولا أطعمه، فقال له الحسن: لا تبرح مكانك حتى آتيك فذهب إلى سيده فاشتراه، واشترى الحائط الذي هو فيه، فأعتقه وملَّكه الحائط، فقال له الغلام: يا مولاي قد وهبت الحائط للذي وهبتني له ، وقال أبو هارون العبدي: انطلقنا حجاجاً فدخلنا المدينة، فدخلنا على الحسن بن علي، فحدثناه بمسيرتنا، وحالنا، فلما خرجنا بعث إلى كل واحد منا بأربعمائة، فرجعنا، فأخبرناه بيسارنا، فقال: لا تردوا على معروفي فلو كنت في غير هذه الحال لكان هذا لكم يسيراً، أما إني مزودكم، إن الله يباهي ملائكته بعباده يوم عرفة ، فهذا الحسن بن علي رضي الله عنه قد أعطى أولئك الحجاج ذلك المال مع ظهور يسارهم، فكيف الحال لو كانوا محتاجين، وحينما أظهروا له عدم حاجتهم لم يقبل منهم رد ذلك المال، وهذا دليل على قوة الدافع في نفسه نحو السخاء والجود، ولم ينس أن يزودهم بما هو خير من ذلك حيث ذكّرهم بفضل يوم عرفة الذي يباهي الله تعالى به ملائكته عليهم السلام ، وعن عبد الله بن عبيد الله بن عمير قال قال: ابن عباس عن الحسن بن علي: ولقد قاسم الله ماله ثلاث مرات، حتى إنه يعطي الخف ويمسك النعل .
وهذا مثال عزيز في الكرم، حيث قسم الحسن بن علي رضي الله عنه ماله قسمين ثلاث مرات، فكان يتصدق بنصف ماله، ولقد كان دقيقاً في محاسبته نفسه وكأنه يؤدي واجباً من الواجبات، حيث كان يعطي الخف ويمسك النعل مع أن أحدهما لا يغني عن الآخر وأنه في عمله هذا قد جعل من نفسه قدوة للمسلمين في أعمال الخير والإحسان . فقد كان رضي الله عنه من أسخى أهل زمانه ، وعد رضي الله عنه من الأجواد ، ومن أخبار جوده أن معاوية بن أبي سفيان بعث إليه بمائة ألف فقسمها بين جلسائه، فأصاب كل واحد منهم عشرة آلاف ، ومن أخبار كرمه أنه دخل على أسامة بن زيد وهو يجود بنفسه ويقول واكرباه واحزناه فقال له الحسن، وما الذي أحزنك يا عم، فقال له أي ابن رسول الله عليَّ دين مقداره ستون ألف درهم ولا أتمكن من رده فقال الحسن رضي الله عنه، سأردها عنك، فقال له أسامة فك الله رهانك يا ابن النبي أن الله أعلم حيث يجعل رسالته . وكان الناس يشهدون للحسن رضي الله عنه بكرمه ودليل ذلك أن إعرابياً قدم إلى المدينة يستعطي الناس فقيل له عليك بالحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أو عبد الله بن جعفر أو سعيد بن العاص، فلقي سعيد بن العاص، فأكرمه وأعطاه ما أراد ، ومن كرم الحسن رضي الله عنه أنه قيل له من أحسن الناس عيشاً؟ فقال من أشرك الناس في عيشه وقيل له من شر الناس؟ فقال: من لا يعيش في عيشه أحد
ولقد سئل الحسن بن علي رضي الله عنه لأي شئ نراك لا ترد سائلاً وإن كنت على فاقة، فقال: إني لله سائلاً وفيه راغب وإن الله تعالى عودني عادة، عودني أن يفيض نعمه عليّ وعودته أن أفيض نعمه على الناس، فأخشى أن قطعت عادتي أن يمنعني عادته ، وكان الحسن رضي الله عنه في سخاءه وإيثاره لا يميز بين غني وفقير، أو صغير وكبير، أو قريب أو بعيد لأن النفس التي ترتاح للبذل والعطاء، وجبلت على الكرم والسخاء لذتها في إسعاد الناس ابتغاء مرضاة الله وطلباً للمثوبة والأجر تجد راحتها في ذلك. وكأن الشاعر حافظ إبراهيم كان يعني الحسن عندما قال:
إني لتطربني الخلالُ كريمةً
طرب الغريب بأوبة وتلاق
ويهزُّني ذكرُ المروءة والندى
بين الشمائل هِزة المشتاق
فإذا رُزِقتَ خليقة محمودة
فقد اصطفاك مقسِّم الأرزاق
فالناس هذا حظه مال، وذا
علم، وذاك مكارم الأخلاق
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه خطب الناس ثم قال: إن ابن أخيكم الحسن بن علي قد جمع مالاً، وهو يريد أن يقسمه بينكم، فحضر الناس فقام الحسن فقال: إنما جمعته للفقراء، فقام نصف الناس، ثم كان أول من أخذ منه الأشعث بن قيس ، ومن سيرة الحسن بن علي نتعلم أن بداية انطلاق النفس إلى رضاء الله، وتخلُّصها من جواذب الأرض، وتطهيرها من الشح بدوام الإنفاق في سبيل الله حتى يصير سجية من سجاياها، فتزهد في المال ويخرج حبه من القلوب فلا يفرح صاحبه بزيادته ولا يحزن على نقصانه مصداقاً لقوله تعالى: ((لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)) (الحديد، آية: 23). كما أن للصدقة أثر عظيم في تزكية النفوس فإن لها فوائد أخرى عظيمة في الدنيا والآخرة منها:
- فهي أفضل استثمار للمال:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلَّوه حتى يكون مثل الجبل .
- وهي حجاب من النار:
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة استتري من النار ولو بشق تمرة، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان
- وهي ظل لصاحبها يوم القيامة:
عن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول كل امرئ في ظل صدقته حتى يُقضي بين الناس .
- والصدقة تدفع العذاب وقد ترد الحقوق بين الناس:
عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، إنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير . قال ابن حجر: وفي هذا الحديث: أن الصدقة تدفع العذاب، وأنها تكفر الذنوب بين المخلوقين .
وأما في الدنيا ففوائدها كثيرة ومجزية وجاءت الأحاديث التي تؤيد تلك الفوائد، فهي دواء للمرضى، وتدفع البلاء، وتيسر الأمور، تجلب الرزق، تقي مصارع السوء، وتطفئ غضب الرب، وتزيل أثر الذنوب .إن للإنفاق في سبيل الله علاقة وثيقة بالسير إلى الله فهو وسيلة مؤثرة غاية التأثير كما أنه من الوسائل المحورية في إحياء القلب وإيقاظ الإيمان، ولنا في جود وكرم وإنفاق الحسن بن علي أسوة وقدوة حسنة. فإن الإنفاق في سبيل الله من أعظم أبواب الجنة وهو مفتوح للمؤسرين أكثر من غيرهم، دخل من خلاله سادات الأمة الجنة، مثل عثمان وعبد الرحمن بن عوف والحسن وغيرهم، فعلى أغنياء المسلمين في العصر الحديث أن يقتحموا هذا الباب فيدعموا قضايا الإسلام العادلة ومشاريع الدعوة إليه بما يستطيعون فيكسبون رضا الله ودخول الجنة والمساهمة في نصرة دين الله وإغاثة المحتاجين ولا يبخلوا فيضيق الله عليهم.
يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf