صفات أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله عنهما: عبادات وورع وتقوى
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة: الخامسة والعشرون
رجب 1441 ه/ مارس 2020م
كان الحسن بن علي رضي الله عنه من المجتهدين في العبادة ومارس مفهوم العبادة الشامل في حياته، فقد رضع لبان العبادة مع ما رضعه من معدن النبوة، وتربية الزهراء التي جاءت إلى أبيها عليه الصلاة والسلام لتطلب خادماً، فدلها على ما هو أفضل من ذلك ألا وهو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، وقال لها ولزوجها في الليل وهما في الفراش: ألا تقومان تصليان؟ فأطل على الحياة في بيت الزهد والعبادة، والورع والتقى، والحلم والصبر، وانغمس في هذه المفاهيم والمثل والمبادئ حتى غدا مثالاً من مثلها، ومثالاً بها يضرب، يشهد له بذلك معاصروه من الصحابة الأبرار.
- ـ ومن عاشره من الأخيار، فقد كان عابداً بمعرفة، مقبلاً على الله بيقين، مدبراً عن الدنيا وشواغلها برضى واطمئنان، ولهذا كان إذا توضأ وفرغ من الوضوء تغير لونه، فقيل له في ذلك فقال: حق من أراد أن يدخل على ذي العرش أن يتغير لونه ، وقد ذكر ابن سعد قوله: ما رأيت أخوف من الحسن بن علي وعمر بن عبد العزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما ، فكلما اقترب العبد من مولاه، وتعرف على أسمائه وصفاته، ونعوت كماله، ازدادت هيبته وإجلاله وخوفه منه فهو سبحانه وتعالى يداول الأيام بين الناس قال تعالى: ((قُل اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) (آل عمران، آية: 26). يقلب الدول، فيذهب بدولة، ويأتي بأخرى والرسل من الملائكة ـ عليهم السلام ـ بين صاعد إليه بالأمر، ونازل من عنده به، وأوامره متعاقبة على تعاقب الآيات، نافذة بحسب إرادته، فما شاء كان كما يشاء في الوقت الذي يشاء على الوجه الذي يشاء من غير زيادة ولا نقصان، ولا تقدم ولا تأخر، وأمره وسلطانه نافذ في السماوات وأقطارها، وفي الأرض وما عليها وفي البحار، وفي الجو وفي سائر أجزاء العالم وذراته، يقلبها، ويصرفها ويحدث فيها ما يشاء ، قال تعالى: ((يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)) (السجدة، آية: 5).
فهو سبحانه لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماوات، ولا في قرار البحار، ولا تحت أطباق الجبال، قال تعالى: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) (الأنعام، آية: 59)، فاستشعار عظمة الله وجلاله، ومعرفة أسمائه وصفاته تولد عند العبد خشية وخوفاً ومهابة من هذا الإله العظيم الذي يخضع له كل شئ ((وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ)) (الرعد، آية: 15).
- وكان الحسن بن علي رضي الله عنه إذا صَلَّى الغَداةَ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس في مصلاَّه يذكر الله حتى ترتفع الشمس، ويجلس إليه من يجلس من سادات الناس يتحدّثون عنده، ثم يقوم فيدخل على أمهات المؤمنين فيُسلِّم عليهن، وربما أتحفنه، ثم ينصرف إلى منزله .
إن من السعداء الذين تصلِّي عليهم الملائكة أولئك الذين يجلسون بعد أداء الصلاة في مصلاَّهم، ومما يدل على ذلك ما يلي: روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الملائكة تصلِّي على أحدكم ما دام في مصلآَّه الذي صلّى فيه، ما لم يحدث . اللهم أغفر له، اللهم أرحمه ، وإن جلس ينتظر الصلاة صلّت عليه الملائكة، وصلاتهم عليه: اللهم أغفر له، اللهم أرحمه . وروى الإمام أحمد عن عطاء بن السائب قال: دخلت على أبي عبد الرحمن السلمي، وقد صلّى الفجر، وهو جالس، فقلت: لو قمت إلى فراشك كان أوطأ لك. فقال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من صلّى الفجر ثم جلس في مُصلاّه صلت عليه الملائكة، وصلاتهم عليه: اللهمَّ أغفر له، اللهم أرحمه. ومن ينتظر الصلاة صلّت عليه الملائكة، وصلاتهم عليه: اللهم أغفر له، اللهم أرحمه .
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: ـ هل المكوث في المنزل بعد صلاة الفجر لقراءة القرآن حتى تطلع الشمس، ثم يصلّي ركعتي الشروق، له نفس الأجر الذي يحصل بالمكوث في المسجد؟ فأجاب: هذا العمل فيه خير كثير وأجر عظيم، لكن ظاهر الأحاديث الواردة في ذلك أنه لا يحصل له نفس الأجر الذي وعد به إلا من جلس في مصلاّه في المسجد، لكن لو صلّى في بيته صلاة الفجر لمرض أو خوف، ثم جلس في مصلاّه، يذكر الله أو يقرأ القرآن حتى ترتفع الشمس، ثم يصلي ركعتين فإنه يحصل له ما ورد في الأحاديث لكونه معذوراً حين صلّى في بيته، وهكذا المرأة إذا جلست في مصلاّها بعد صلاة الفجر تذكر الله أو تقرأ القرآن حتى ترتفع الشمس، ثم تصلي ركعتين فإنه يحصل لها ذلك الأجر الذي جاءت به الأحاديث . إن الحسن بن علي رضي الله عنه يعلمنا أهمية الذكر في البكور، ويرغبنا في ترك النوم في ذلك الوقت من خلال سيرته الربانية ولقد تحدث ابن القيم عن أهمية الذكر في البكور فقال: ومن المكروه عندهم: النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقت غنيمة، وللسير في ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود ذلك الوقت حتى تطلع الشمس، فإنه أول النهار ومفتاحه، ووقت نزول الأرزاق، وحصول القسم، وحلول البركة، ومنه ينشأ النهار، وينسحب حكم جميعه على حكم تلك الحصة، فيجب أن يكون نومها كنوم المضطر ، ولشرف هذا الوقت، ولأهميته في السير إلى الله، نجد الترغيب الشديد في إحيائه بالذكر، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة .
قال ابن رجب: لما كان الحج من أفضل الأعمال والنفوس تتوق إليه لما وضع الله في القلوب من الحنين إلى ذلك البيت المعظم وكان كثيراً من الناس يعجز عنه ولا سيما كل عام، شرع الله لعباده أعمالاً يبلغ أجرها أجر الحج، فيتعوض بذلك العاجزون في التطوع .
ويقول الأستاذ البنا: أيها الأخ العزيز، أمامك كل يوم لحظة بالغداة، ولحظة بالعشي، ولحظة في السحر، تستطيع أن تسمو فيها كلها بروحك الطهور إلى الملأ الأعلى، فتظفر بخير الدنيا والآخرة وأمامك مواسم الطاعات، وأيام العبادات، وليالي القربات التي وجهك إليها كتابك الكريم، ورسولك العظيم، فأحرص أن تكون فيها من الذاكرين لا من الغافلين ومن العاملين لا من الخاملين، واغتنم الوقت، فالوقت كالسيف، ودع التسويف فلا أضر منه .
- وكان الحسن بن علي رضي الله عنه يقول إذا طلعت الشمس: سمع سامع بحمد الله الأعظم لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، سمع سامع بحمد الله الأمجد لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير ، وقد لازم الحسن بن علي ما ثبت عن رسول الله من أوراد وأذكار وأدعية، وكان يحث الناس على الصلوات في المساجد وكان يقول من أدمن الاختلاف إلى المساجد رزقه الله احدى خصال: أخاً مستفاداً ورحمة مستترة له أو علماًَ مستطرفاً أو كلمة تدل على هدى أو يترك الذنوب خشية أو حياء ، وكان رضي الله عنه من أهل القيام، فقد كان رضي الله عنه يأخذ نصيبه من القيام في أول الليل وكان الحسين رضي الله عنه يأخذه من آخر الليل ، فقيام الليل من الوسائل المهمة في إيقاظ الإيمان، جربها الصالحون فوجدوا لها أبلغ الأثر في إحياء القلوب، وقال ابن الحاج في المدخل: وفي قيام الليل من الفوائد جملة، فمنها: أنه يحط الذنوب كما يحط الريح العاصف الورق اليابس من الشجرة، ومنها أنه ينور القلب، ومنها أن موضعه تراه الملائكة من السماء يتراءى مثل الكوكب الدري لأهل الأرض، ونفحه من نفحات قيام الليل تعود على صاحبها بالبركات والأنوار والتحف التي يعجز عنها الوصف .إن قيام الليل شرف المؤمن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزه استغناؤه عما في أيد الناس ، ومهما كثرت دعاوي المحبة طولب أصحابها بالدليل، وشهدت عليهم ساعات الليل، فالبينة على من ادعى، فأهل القيام هم الأشراف بين الناس، أما أهل النوم والغفلة ـ من أمثالنا ـ فقد فضحتهم تلك الساعات، فأسقطت ذكرهم، وأدنت شرفهم ، ومن سيرة الحسن بن علي نتعلم أهمية قيام الليل، فبالليل يتم الغرس، غرس بذور الإخلاص والصدق، وعلى قدر غرسك سيكون الخير في قلبك، وكلما ازدادت مساحته، ازداد توالي الهدايا عليه من كل جانب ((إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا)) (الأنفال، آية: 70).
إن قيام الليل من أهم صور الشكر التي كان يمارسها الحسن بن علي رضي الله عنه، فشكر الله ـ عز وجل ـ على نعمه التي لا تعد ولا تحصى غاية من غايات العبودية، والشكر عمل، والعبد الشكور هو الذي يظهر عليه أثر النعمة، وأبلغ أثر للنعمة ينبغي أن يظهر على العبد هو زيادة الذل والانكسار والتعظيم لولي النعم ، يقول تعالى: ((وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ * أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألباب)) (الزمر، آية: 8 ـ 9).
فالآيات الكريمة تتحدث عن صنفين من الناس، أنعم الله عليهما بنعمة .. الأول مرَّ بتجربة شديدة، وكان في ضيق وهم فدع الله بصدق ففرج همه، وكشف كربه، لكنه أعرض عن شكره، وعاد إلى غيِّه، أما الآخر فقد سار في طريق الشكر بطول القنوت بالليل، وـ والتضرع لله ـ عز وجل ويُعَقِّب القرآن على الحالتين بقوله تعالى: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)) (الزمر، آية: 9)، لا يستوي الذين يعلمون حق الشكر النعم والذين لا يعلمون ذلك قال الشاعر:
القانتون المخبتون لربهم
الناطقون بأصدق الأقوال
يحيون ليلهم بطاعة ربهم
بتلاوة وتضرع، وسؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم
مثل انهمال الوابل الهطّال
في الليل رهبان وعند جهادهم
لعدوهم من أشجع الأبطال
بوجهم أثر السجود لربهم
وبها أشعة نوره المتلالي
- وكان الحسن بن علي رضي الله عنه كثير الحج، فقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: ما ندمت على شئ فاتني في شبابي إلا إني لم أحج ماشياً، ولقد حج الحسن بن علي خمساً وعشرية حجة ماشياً، وإن النجائب لتُقاد معه ولقد قاسم الله ماله ثلاث مرات، حتى أنه يعطي الخف ويُمسك النعل ، فهذا مثل من لزوم ما لا يلزم شرعاً يقوم به الحسن بن علي رضي الله عنهما، حيث لازم الحج ماشياً خمساً وعشرين حجَّة، وهذا يدل على فضيلة المشي في الحج، كما يؤيد ذلك ندم ابن عباس رضي الله عنهما على عدم قيامه بذلك أيام شبابه ومداومة الحسن على ذلك على ما فيه من مشقة تدل على قوة إيمانه ورغبته الصادقة في المزيد من الأعمال الصالحة، والمقصود بالمشي من الحج من مكة إلى عرفة ثم من عرفة إلى مكة، وليس المقصود أن يحج الحاج ماشياً من بلده , ومن سيرة الحسن بن علي رضي الله عنه نتعلم أهمية السياحة إلى البيت الحرام، كلما سمحت ظروفنا وتيسر حالنا قال صلى الله عليه وسلم: تابعوا بين الحج والعمرة، فإن متابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد ، ولذلك حج الحسن ماشياً ونجائبه تقاد إلى جانبه خمساً وعشرين مرة في بعض الروايات وقال: إني استحيي من ربي عز وجل أن ألقاه ولم أمشي إلى بيته ، وكان رضي الله عنه كثير الصمت، متعبداً على منهج جده صلى الله عليه وسلم.
يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf