أم الحسن السيدة فاطمة الزهراء (رضي الله عنهما): من زواجها إلى وفاتها: أوراق عطرة في سيرتها
الحلقة الرابعة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخر 1441 ه/ فبراير 2020م
هي فاطمة بنت إمام المتقين سيد ولد آدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمها خديجة بنت خويلد، كانت تكنى بأم أبيها ، ولدت رضي الله عنها قبل البعثة سنة خمس وثلاثين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، زوجها النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب سنة اثنتين للهجرة بعد وقعة بدر وولدت له الحسن والحسين وأم كلثوم، وزينب ومحسِّن، وكانت وفاتها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر فرضي الله عنها وأرضها .
أولاً: مهرها وجهازها:
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: خُطبت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت مولاة لي: هل علمت أن فاطمة قد خطبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: لا قالت: فقد خطبت، فما يمنعك أن تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيزوجك. فقلت: وعندي شئ أتزوج به فقالت: إنك إن جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجك. قالت: فوالله ما زالت ترجيني حتى دخلت على رسول صلى الله عليه وسلم، فلما أن قعدت بين يديه أفحمت، فوالله ما استطعت أن أتكلم جلالة وهيبة. فقال: لعلك جئت تخطب فاطمة؟ فقلت: نعم، فقال: وهل عندك من شئ تستحلها؟ فقلت: لا والله يا رسول الله. فقال: ما فعلت درع سلحتكها؟ فوالذي نفس علي بيده إنها لحطمية ما قيمتها أربعمائة درهم فقلت عندي فقال: قد زوجتكها، فابعث إليها بها فاستحلها بها، فإنها كانت لصداق فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة في خميل ، وقربة ووسادة أدم حشوها إذخر ، وقد جاء في روايات الشيعة مساهمة لعثمان بن عفان رضي الله عنه في الزواج الميمون حيث قال: علي رضي الله عنه: فأخذت درعي فانطلقت به إلى السوق فبعته بأربع مائة درهم من عثمان بن عفان، فلما قبضت الدراهم منه وقبض الدرع مني قال: يا أبا الحسن، ألست أولى بالدرع منك وأنت أولى بالدراهم مني؟ فقلت: نعم قال: فإن هذا الدرع هدية مني إليك، فأخذت الدرع والدراهم وأقبلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطرحت الدرع والدراهم بين بيديه، وأخبرته بما كان من أمر عثمان فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بخير .
ثانياً: زفافها:
قالت أسماء بنت عميس: كنت في زفاف فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحنا جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الباب فقال: يا أم أيمن ادعي لي أخي فقالت: هو أخوك وتنكحه؟ قال: نعم يا أم أيمن، قالت: فجاء علي فنضح النبي صلى الله عليه وسلم من الماء ودعا له ثم قال: أدعو إلي فاطمة قالت: فجاءت تعثر من الحياء فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسكتي فقد أنكحتك أحب أهل بيتي إلي، قالت: ونضح النبي صلى الله عليه وسلم عليها من الماء ودعا لها، قالت: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى سواداً بين يديه، فقال: من هذا؟ فقالت: أنا، قال: أسماء؟ قلت: نعم، قال: أسماء بنت عميس؟ قلت: نعم، قال: جئت في زفاف بنت رسول الله تكرمه له؟ قلت: نعم، قالت: فدعا لي ، وفي هذه القصة قيمة اجتماعية رفيعة وهي التعاون بين أفراد المجتمع في المناسبات الاجتماعية المختلفة.
ثالثاً: وليمة العرس:
عن بريدة قال: لما خطب علي فاطمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لا بد للعُرس من وليمة، قال: فقال سعد عليّ كبش، وجمع له رهط من الأنصار آصعا من ذرة، فلما كان ليلة البناء، قال: يا علي لا تحدث شيئاً حتى تلقاني. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ منه ثم أفرغه على علي، فقال: اللهم بارك فيهما وبارك عليهما، وبارك في شبلهما .
رابعاً: معيشة علي وفاطمة رضي الله عنهما:
كانت معيشة علي وفاطمة رضي الله عنهما وهما من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، معيشة زهد وتقشف، وصبر وجهد، فقد أخرج هناد عن عطاء، قال: نبئت أن علياً رضي الله عنه قال: مكثنا أياماً ليس عندنا شئ، ولا عند نبي الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت، فإذا أنا بدينار مطروح على الطريق فمكثت هنيهة أوامر نفسي في أخذه أو تركه، ثم أخذته لما بنا من الجهد، فأعطيت به الضفاطين فاشتريت به دقيقاً، ثم أتيت به فاطمة فقلت: أعجني وأخبزي، فجعلت تعجن وإن قصتها لتضرب حرف الجفنة من الجهد الذي بها ـ ثم خبزت، فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: كلوا فإنه رزق رزقكموه الله عز وجل ، وعن الشعبي، قال: قال علي رضي الله عنه: تزوجت فاطمة بنت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومالي ولها فراش غير جلد كبش تنام عليه بالليل، ونعلف عليه ناضحنا بالنهار، وما لي خادم غيرها ، وعن مجاهد قال علي: جعت مرة بالمدينة جوعاً شديداً، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة، فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدراً، فظننتها تريد بلَّه ، فأتيتها فقاطعتها كلّ ذنوب ، على تمرة، فمددت ستة عشرة ذنوباً، حتى مجلت يداي ، ثم أتيت الماء فأصبت منه، ثم أتيتها فقلت يكفي هذا بين يديها ، فعدت لي ست عشرة تمرة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فأكل معي منها، في هذا الخبر بيان لشدة الحال التي مر بها والد الحسن في المدينة، ونأخذ منها صورة من السلوك المشروع في مواجهة الشدائد حيث خرج علي للعمل بيديه للكسب المشروع، ولم يجلس منتظراً ما تجود به أيدي المحسنين، وصورة أخرى من قوة التحمل حيث قام بذلك العمل الشاق وهو يعاني من شدة الجوع ما يضعف قوته، وصورة أخرى من إيثار الأحبة والوفاء لهم، فهو على ما به من شدة الجوع وبالرغم مما قام به من ذلك العمل الشاق قد احتفظ بأجرته من التمر حتى لقي النبي صلى الله عليه وسلم فأكل معه ، إن من أهم الدروس في هذه القصة هو أن فقر الإنسان أو غناه المادي لا يعبر بالضرورة على حب الله للعبد من عدمه للعبد وإنما المعيار الحقيقي هو تقوى الله عز وجل وينبغي أن يكون تقييمنا للناس على هذا الأساس.
خامساً: زهد السيدة فاطمة وصبرها:
كانت حياة والد الحسن رضي الله عنهما في غاية البساطة بعيدة عن التعقيد، وهي إلى شظف العيش أقرب منها إلى رغده ، وهذه القصة تصور لنا حال السيدة فاطمة من التعب وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منها عندما طلبت منه أن يعطيها خادماً من السبي، قال علي لفاطمة ذات يوم والله لقد سنوت ، حتى لقد اشتكيت صدري، قال: وجاء الله أباك بسبي فاذهبي، فاستخدميه ، فقالت: أنا والله قد طحنت حتى مجلت يداي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما جاء بك أي بنية. قالت: جئت لأسلم عليك واستحيت أن تسأله ورجعت فقال علي: ما فعلت؟ قالت: استحيت أن أسأله، فأتينا جميعاً، فقال علي: يا رسول الله والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: قد طحنت حتى مجلت يداي ، وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم، فرجعا فأتاهما النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخلا في قطيفتهما إذ غطت رؤوسهما تكشف أقدامهما، وإذا غطيت أقدامهما تكشفت رؤوسهما، فثارا، فقال مكانكما، ثم قال: ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ قالا: بلا. فقال: كلمات علمنيهن جبريل عليه السلام، فقال: تسبحان في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدان عشراً، وتكبران عشراً، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين وأحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين، وفي هذه القصة السالفة بعض القيم منها، إن هذه الحادثة تبين لنا كيف أدار النبي صلى الله عليه وسلم الأزمة الاقتصادية التي مرت بدولة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وذلك من خلال ترتيبه للأولويات، فسد جوع أهل الصفة ضرورة ملحة وأما حاجة علي وفاطمة للخادم، فليست بمرتبة احتياج أهل الصفة، فقدم رسول الله أهل الصفة عليهم وكانت وسائل رسول الله في حل الأزمة الاقتصادية كثيرة، ولقد تأثر والد الحسن بن علي رضي الله عنهما بهذه التربية النبوية، ويمر الزمن بأمير المؤمنين علي فيصبح خليفة المسلمين، فإذا به من آثار هذه التربية يترفع عن الدنيا وزخارفها وبيده كنوز الأرض وخيراتها، لأن ذكر الله يملأ قلبه ويغمر وجوده، ولقد حافظ على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم له وقد حدثنا عن ذلك فقال: فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن، فسأله أحد أصحابه: ولا ليلة صفين فقال: ولا ليلة صفين .
سادساً: محبة رسول الله للسيدة فاطمة وغيرته عليها:
عن ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر آخر عهده بالمدينة إتيان فاطمة، وأول من يدخل عليه إذا قدم من سفره فاطمة ، وفي رواية عن أبي ثعلبة الخشني قال: كان رسل الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من غزو أو سافر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم يأتي فاطمة، ثم يأتي أزواجه ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ولا دّلا برسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامه وقعوده من فاطمة بنت رسول الله، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها ، وفي رواية أنها كانت تقبل يديه ، وعن أسامة بن زيد قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحب أهل بيتي إليَّ فاطمة ، وقد أراد علي رضي الله عنه أن يتزوج بنت أبي جهل على فاطمة، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، إن في رواية السيدة عائشة للحديث دليل على حقيقة المحبة بين السيدتين وليست كما يدعي المغرضون ، فقال: (فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني ، وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: بني هاشم بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن لهم ثم لا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني يربني ما رابها ويؤذيني ما آذاها , وروى الترمذي بسنده إلى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن علياً ذكر بنت أبي جهل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ويتعبني ما أتعبها ، ومن مناقب السيدة فاطمة ما رواه الحاكم أيضاً بإسناده إلى بريدة رضي الله عنه قال: كان أحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ومن الرجال علي ، ولا يفهم من هذا الحديث معارضته لما ثبت في الصحيح من حديث عمرو بن العاص، أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة قال من الرجال؟ قال أبوها . فالمراد من هذا الحديث والله أعلم أن فاطمة أحب النساء إليه من أهله وعلي من رجالهم وفي ذلك يقول ابن العربي عند هذا الحديث: كان أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وأحب أزواجه إليه عائشة، وأحب أهله إليه فاطمة وعلي من رجالهم وبهذا الترتيب تأتلف الأحاديث ويرتفع عنها التعارض .
سابعاً: صدق لهجتها:
روى الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا ذكرت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة منها ألا أن يكون الذي ولدها .وفي ذلك منقبة ظاهرة لها رضي الله عنها فقد وصفتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأنها كانت تشبه النبي صلى الله عليه وسلم هيئة وطريقة وحسن حال كما كان التزامها للصدق أشبه له فرضي الله عنها وأرضاها .
ثامناً: سيادتها في الدنيا والآخرة:
جاءت الأحاديث الصحيحة عن الصادق المصدوق التي دلت على سيادتها في الدنيا والآخرة، روى الترمذي بإسناده إلى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسيا امرأة فرعون ، وروى الحاكم بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا من كان من مريم بنت عمران . وقال البخاري: باب مناقب فاطمة رضي الله عنها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة .
تاسعاً: الصديق والسيدة فاطمة وميراث النبي صلى الله عليه وسلم:
قالت عائشة رضي الله عنها: إن فاطمة والعباس رضي الله عنهما أتيا أبو بكر رضي الله عنه يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر إني سمعت رسول الله يقول: لا نورث ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم من هذا المال ، وفي رواية قال أبو بكر رضي الله عنه: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حيث توفي رسول الله، أردن أن يبعثن عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أبي بكر، ليسألنه ميراثهن من النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة رضي الله عنها لهن: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نورث ما تركنا صدقة ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقتسم ورثتي ديناراً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهي صدقة ، وهذا ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع فاطمة رضي الله عنها امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم، لذلك قال الصديق لست تاركاً شيئاً كان رسول الله يعمل به إلا عملت به ، وقال: والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضعه فيه إلا صنعته ،وقد تركت أم الحسن رضي الله عنها منازعته بعد احتجاجه بالحديث وبيانه لها، وفيه دليل على قبولها الحق وإذعانها لقوله صلى الله عليه وسلم، وقد غلا الشيعة في قصة ميراث النبي صلى الله عليه وسلم غلواً مفرطاً مجانبين الحق والصواب، وقد ناقشتهم في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وبينت فيه حقيقة ما وقع بين الصديق والسيدة فاطمة في قضية الميراث.
عاشراً: تسامح السيدة فاطمة مع أبي بكر رضي الله عنه:
وقد ثبت عن فاطمة ـ رضي الله عنها ـ أنها رضيت عن أبي بكر بعد ذلك، وماتت وهي راضية عنه، على ما روى البيهقي بسنده عن الشعبي انه قال: لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق، فاستأذن عليها، فقال علي: يا فاطمة هذا أبو بكر الصديق يستأذن عليك؟ فقالت:: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له فدخل عليها يترضاها، فقال: والله ما تركت الدار والمال، والأهل والعشيرة، إلا ابتغاء مرضاة الله، ومرضاة رسوله، ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضاها حتى رضيت ، قال ابن كثير: وهذا إسناد جيد قوي والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من علي أو ممن سمعه من علي وبهذا تندحض مطاعن الشيعة على أبي بكر التي يعلقونها على غضب فاطمة عليه، فلئن كانت غضبت في بداية الأمر فقد رضيت بعد ذلك وماتت وهي راضية عنه، ولا يسع أحد صادق في محبته لها، إلا أن يرضى عمن رضيت عنه ، ولا يعارض هذا ما ثبت في حديث عائشة: إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم هذا المال، وأني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أبو بكر أن يدفع لفاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت ، فإن هذا بحسب علم عائشة ـ رضي الله عنها، رواية الحديث وفي حديث الشعبي زيادة علم، وثبوت زيادة أبي بكر لها وكلامها له ورضاها عنه، فعائشة رضي الله عنها ـ نفت والشعبي أثبت، ومعلوم لدى العلماء أن قول المثبت مقدم على قول النافي، لأن احتمال الثبوت حصل بغير علم النافي، خصوصاً في مثل هذه المسألة، فإن عيادة أبي بكر لفاطمة ـ رضي الله عنها ـ ليست من الأحداث الكبيرة التي تشيع في الناس، ويطلع عليها الجميع، وإنما هي من الأمور العادية التي قد تخفى على من لم يشهدها، والتي لا يعبأ بنقلها لعدم الحاجة لذكرها. على أن الذي ذكره العلماء أن فاطمة ـ رضي الله عنها ـ لم تتعمد هجر أبي بكر ـ رضي الله عنه تلك الفترة أصلاً، ومثلها ينزه عن ذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجر فوق ثلاث، وإنما لم تكلمه لعدم الحاجة لذلك ، قال القرطبي صاحب المفهم في سياق شرحه لحديث عائشة المتقدم: ثم أنها (أي فاطمة) لم تلتق بأبي بكر لشغلها بمصيبتها برسول الله صلى الله عليه وسلم ولملازمتها بيتها فعبر الراوي عن ذلك بالهجران، وإلا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ، وهي أعلم الناس بما يحل من ذلك ويحرم، وأبعد الناس عن مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف لا يكون كذلك وهي بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيدة نساء أهل الجنة .
لقد انشغلت فاطمة رضي الله عنها عن كل شئ بحزنها لفقدها أكرم الخلق، وهي مصيبة تزري بكل المصائب، كما أنها انشغلت بمرضها الذي ألزمها الفراش عن أية مشاركة في أي شأن من الشئون فضلاً عن لقاء خليفة المسلمين المشغول بكل لحظة من لحظاته، بشئون الأمة، وحروب الردة وغيرها، كما أنها كانت تعلم بقرب لحوقها بأبيها فقد أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أول من يلحق به من أهله ، ومن كان في مثل علمها لا يخطر بباله أمور الدنيا، وما أحسن قول المهلب الذي نقله العيني، ولم يرو أحد أنهما التقيا وامتنعا عن التسليم وإنما لازمت بيتها، فعبر الراوي عن ذلك بالهجران ، وقد دل على ذلك زيارة أبي بكر لها وترضيته لها كما مر معنا.
الحادي عشر: وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها:
ومما يدل على أن العلاقة كانت وطيدة بين الصديق والسيدة فاطمة إلى حد أن زوجة أبي بكر أسماء بنت عميس هي التي كانت تمرض فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها في مرض موتها، وكانت معها حتى الأنفاس الأخيرة وشاركت في غسلها وترحيلها إلى مثواها الأخير، وكان علي رضي الله عنه يمرضها بنفسه وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وقد وصتها بوصايا في كفنها ودفنها وتشيع جنازتها، فعملت أسماء بها ، فقد قالت السيدة فاطمة لأسماء إني قد اسقبحت ما يصنع بالنساء أنه يطرح على المرأة الثوب فيصفها، فقالت أسماء يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أريك شيئاً رأيته بأرض الحبشة فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوباً، فقالت فاطمة ما أحسن هذا وأجمله، به تعرف المرأة من الرجال ، وعن ابن عبد البر: فاطمة رضي الله عنها أول من غطى نعشها في الإسلام، ثم زينب بنت جحش وكان الصديق دائم الاتصال بعلي من ناحية ليسأله عن أحوال بنت النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما يزعمه القوم، فمرضت، أي فاطمة رضي الله عنها وكان علي يصلي في المسجد الصلوات الخمس، فلما صلى قال له أبو بكر وعمر: كيف بنت رسول الله؟ ومن ناحية أخرى كان الصديق يسأل زوجته أسماء بنت عميس حيث كانت هي المشرفة والممرضة الحقيقية لها، ولما قبضت فاطمة من يومها، فارتجت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر وعمر يعزيان علياً ويقولان: يا أبا الحسن، لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله ،
وقد توفيت ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة، عن مالك بن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين، قال: ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء فحضرها أبو بكر وعمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، فلما وضعت ليصلى عليها، قال علي تقدم يا أبا بكر، قال أبو بكر رضي الله عنه: وأنت يا أبا الحسن؟ قال: نعم فوالله لا يصلي عليها غيرك، فصلى عليها أبو بكر رضي الله عنه ودفنت ليلاً وجاء في رواية: صلى أبو بكر الصديق رضي الله عنه على فاطمة بنت رسول الله فكبر عليها أربعاً ، وفي رواية مسلم صلى عليها علي بن أبي طالب وهي الرواية الراجحة وأما ما يوجد في بعض الكتب الشيعية من كون السيدة فاطمة أوصت علي رضي الله عنهما، بأن لا يقوم على قبرها أحد من الذين ظلموها وجحدوا حقها لأنهم أعداؤها وأعداء أبيها، فهذا من الأباطيل، ولا تصح رواياته، بل هي موضوعة، مثل التي ذكرها صاحب كتاب حياة الإمام الحسن بن علي .
وهذه أبيات رقيقة وعذبة قالها محمد إقبال في قصيدته العصماء في السيدة فاطمة رضي الله عنها:
نسب المسيح بنى لمريم سيرة ... بقيت على طول المدى ذكرها
والمجد يشرف في ثلاث مطالع ... في مهد فاطمة فما أعلاها
هي بنت من هي زوج من هي أم من ... من ذا يداني في الفخار أباها
هي ومضة من نور عين المصطفي ... هادي الشعوب إذا تروم هداها
من أيقظ الفطر النيام بروحه ... وكأنه بعد البلى أحياها
وأعاد تاريخ الحياة جديدة ... مثل العرائس في جديد حلاها
هي أسوة للأمهات وقدوة ... يترسم القمر المنير خطاها
جعلت من الصبر الجميل غذاءها ... ورأت رضى الزوج الكريم رضاها
إلى أن قال:
لولا وقوفي عند شرع المصطفى ... وحدود شرعته ونحن فداها
لمضيت للتطواف حول ضريحها ... وغمرت بالقبلات طيب ثراها
وقال في قصيدة في بيان أن السيدة فاطمة أسوة للنساء المسلمات:
وهي أم السَّيدينِ الأكرمين ... حسنٍ خيرِ حليم وحسين
ذا سراج في ظلام الحَرم ... حافظ وحدة خير الأمم
ازدرى الملك ابتغاء الألفة ... أطفأ النِّيران بين الإخوة
ذاك في الأبرار ربُّ العَلَمِ ... أسوةُ الأحرار في الخَطْب العَمي
سيرةُ الأولاد صنعُ الأمهات ... وخلالُ الخير طبع الأمَّهات
زهرةٌ في روضة الصدق البتول ... أسوة النِّسوة في الحق البتول
نُشِّئت ما بين صبر ورضا ... في الفَمِ القرآنُ والكفَّ الرَّحَي
دمعها من خشية الله جرى ... في مصلاَّها يفوق الجوهرا
يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf