الحسن بن علي في عهد والده علي بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ صور من موقعة الجمل
الحلقة: السادسة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رجب 1441 ه/ مارس 2020م
تمت بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة بطريقة الاختيار وذلك بعد أن استشهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه على أيدي الخارجين المارقين الشذاذ الذين جاءوا من الآفاق، ومن أمصار مختلفة، وقبائل متباينة لا سابقة لهم، ولا أثر خير في الدين، فبعد أن قتلوه رضي الله عنه ظلماً وزوراً وعدواناً يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ، قام كل من بقي بالمدينة من أصحاب رسول الله بمبايعة علي رضي الله عنه بالخلافة وذلك لأنه لم يكن أحد أفضل منه على الإطلاق في ذلك الوقت، فلم يدع الإمامة لنفسه أحد بعد عثمان رضي الله عنه ولم يكن أبو السبطين رضي الله عنه حريصاً عليها، ولذلك لم يقبلها إلا بعد إلحاح شديد ممن بقي من الصحابة بالمدينة وخوفاً من ازدياد الفتن وانتشارها ومع ذلك لم يسلم من نقد بعض الجهال أثر تلك الفتن كموقعة الجمل وصفين التي أوقد نارها وأنشبها الحاقدون على الإسلام كابن سبأ وأتباعه الذين استخفهم، فأطاعوه لفسقهم ولزيغ قلوبهم عن الحق والهدى، وقد روى الكيفية التي تم بها اختيار علي رضي الله عنه للخلافة بعض أهل العلم ،وقد ذكرت تلك الروايات بالتفصيل في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد انعقد أجماع أهل السنة والجماعة على أن علياً رضي الله عنه كان متعيناً للخلافة بعد عثمان رضي الله عنه لبيعة المهاجرين والأنصار له لما رأوا لفضله على من بقي من الصحابة، وأنه أقدمهم إسلاماً، وأوفرهم علماً، وأقربهم بالنبي صلى الله عليه وسلم نسباً، وأشجعهم نفساً، وأحبهم إلى الله ورسوله وأكثرهم مناقب وأفضلهم سوابق وأرفعهم درجة وأشرفهم منزلة وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هدياً وسمتاً فكان رضي الله عنه متعيناً للخلافة دون غيره، وقد قام من بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعقد البيعة به بالخلافة بالإجماع فكان حينئذ إماماً حقاً وجب على سائل الناس طاعته وحرم الخروج عليه ومخالفته، وقد نقل الإجماع على خلافته كثير من أهل العلم منهم، ابن سعد ، وابن قدامة ، وأبو الحسن الأشعري ، وأبو نعيم الأصبهاني ، وأبو منصور البغدادي ، والزهري ، وعبد الملك الجويني ، وأبو عبد الله بن بطة ،والغزالي ،وأبو بكر بن العربي ، وابن تيمية ، وابن حجر ، والذي نستفيده من هذه النقول المتقدمة للإجماع أن خلافة علي رضي الله عنه محل إجماع على أحقيتها وصحتها في وقت زمانها وذلك بعد قتل عثمان رضي الله عنه حيث لم يبق على الأرض أحق بها منه رضي الله عنه، فقد جاءت علي رضي الله عنه على قدر في وقتها ومحلها .
1 ـ خروج أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى الكوفة:
لم يكن بعض الصحابة رضي الله عنهم في المدينة يؤيدون خروج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من المدينة، وقد تبين ذلك حينما همَّ عليَّ بالنهوض إلى الشام ليزور أهلها وينظر ما هو رأي معاوية ما هو صانع ، فقد كان يرى أن المدينة لم تعد تمتلك المقومات التي تملكها بعض الأمصار في تلك المرحلة فقال: إن الرجل والأموال بالعراق ، فلما علم أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه بهذا الميل قال للخليفة: يا أمير المؤمنين، لو أقمت بهذه البلاد لأنها الدرع الحصينة، ومهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها قبره ومنبره ومادة الإسلام، فإن استقامة لك العرب كنت كمن كان، وإن تشعب عليك قوم رميتهم بأعدائهم وإن ألجئت حينئذ إلى السير سرت وقد أعذرت .. ، فأخذ الخليفة بما أشار عليه أبي أيوب. وعزم المقامة بالمدينة وبعث العمال على الأمصار ، ولكن حصلت كثير من المستجدات السياسية التي أرغمت الخليفة على مغادرة المدينة، وقرّر الخروج للتوجه إلى الكوفة ليكون قريباً من أهل الشام ،
وأثناء استعداده للخروج، بلغه خروج عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة فاستنفر أهل المدينة ودعاهم إلى نصرته وحدث تثاقل من بعض أهل المدينة بسبب وجود الغوغاء في جيش علي، وطريقة التعامل معهم، فكثير من أهل المدينة يرون أن الفتنة لا زالت مستمرة، فلا بد من التروي حتى تتجلى الأمور أكثر، وهم يقولون لا والله ما ندري كيف نصنع، فإن هذا الأمر لمشتبه علينا ونحن مقيمون حتى يضيئ لنا ويسفر، وروى الطبري أن علي رضي الله عنه خرج في تعبئته التي كانت تعبئ بها إلى الشام وخرج معه النشطة من الكوفيين والبصريين متخفين في سبعمائة رجل ، والأدلة على تثاقل الكثير من أهل المدينة عن إجابة دعوة أمير المؤمنين للخروج كثير منهم، خطب الخليفة التي شكا فيها من هذا التثاقل .
2 ـ نصيحة الحسن بن علي لوالده:
خرج أمير المؤمنين من المدينة، وعندما بلغ الربذة عسكر فيها بمن معه، ووفد عليه عدد من المسلمين بلغوا المائتين ، وفي الربذة قام إليه ابنه الحسن رضي الله عنهما وهو باك لا يخفي حزنه وتأثره على ما أصاب المسلمين من تفرق واختلاف، وقال الحسن لوالده: قد أمرتني فعصيتك، فتقتل غداً بمضيعة لا ناصر لك، فقال علي: إنك لا تزال تخن خنين الجارية ، وما الذي أمرته فعصيته؟، قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان رضي الله عنه أن تخرج من المدينة، فيقتل ولست بها، ثم أمرتك يوم قتل أن لا تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر، ثم أمرتك حين فعلا هذان الرجلان، ما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا، فإن كان الفساد كان على يدي غيرك، فعصيتني في ذلك كله. قال: أي بني، أما قولك: لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان، فوا الله لقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما قولك: لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار، فإن الأمر أمر أهل المدينة وكرهنا أن يضيع هذا الأمر، وأما قولك حين خرج طلحة والزبير، فإن ذلك كان وهناً على أهل الإسلام، والله ما زلت مقهوراً مذ وليت، منقوصاً لا أصل إلى شئ مما ينبغي، وأما قولك: اجلس في بيتك فكيف لي بما قد لزمني أو مِنُ تريدني؟ أتريدني أن أكون مثل الضبع التي يحاط بها، ويقال: دباب دباب ، ليست هاهنا حتى يحل عرقوباها ثم نخرج، وإذا لم أنظر فيما لزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه، فكف عنك أي بني.
ومن هذه الحادثة نلاحظ حسن تربية أمير المؤمنين علي لأبنه، وكيف أعطاه مجالاً ليعبر عن ما في نفسه بدون ضغوط ثم رد أمير المؤمنين على كل اعتراض، كما تبين ميل الحسن رضي الله عنه المبكر للسلم والابتعاد عن استخدام القوة مهما كلف الأمر، أما أمير المؤمنين علي، فقد كان حازماً ـ والحق معه ـ في هذه المشكلة وواضح ولم يستطيع أحد أن يثنيه عن عزمه وكان متريثاً في تنفيذ القصاص على قتلة عثمان فقد كان ينتظر حتى يستتب له الأمر، ثم ينظر في شأن قتلة عثمان فحين طالب الزبير وطلحة ومن معهم بإقامة حد القصاص عليهم اعتذر لهم بأنهم كثير وأنهم قوة لا يستهان بها، وطلب منهم أن يصبروا حتى تستقر الأوضاع وتهدأ الأمور، فتؤخذ الحقوق، لئن الظروف لم تكن مواتية من جلب المصالح وقد ألمح أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى اختيار أهون الشرين حين قال: هذا الذي ندعوكم إليه من إقرار ـ قتلة عثمان ـ وهو خير من شر منه ـ القتال والفرقة ، لقد رأى أمير المؤمنين أن المصلحة تقتضي تأخير القصاص لا تركه، فأخر القصاص من أجل هذا، وكان رضي الله عنه ينتظر بقتلة عثمان أن يستوثق الأمن وتجتمع الكلمة ويرفع الطلب من أولياء الدم، فيحضر الطالب للدم والمطلوب، وتقع الدعوة ويكون الجواب، وتقوم البينة ويجري القضاء في مجلس الحكم ،ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة وتشتيت الكلمة ، وأما ما أثير عن وجود قتلة عثمان في جيش أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وكيف يرضى أن يكون هؤلاء في جيشه، فقد أجاب الإمام الطحاوي عن ذلك بقوله: وكان في عسكر علي رضي الله عنه من أولئك
الطغاة الخوارج الذين قتلوا عثمان من لم يعرف بعينه ومن تنتصر له قبيلته ومن لم تقم عليه حجة بما فعله، ومن في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره كله ، وعلى كل حال، كان موقفه منهم موقف المحتاط منهم، المتبرئ من فعلهم، وكان راغباً في الإستغناء عنهم بل الإقتصاص منهم، لو وجد إلى ذلك سبيلاً وقد فصلت ذلك في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
3 ـ أثر الحسن بن علي في استنفار أهل الكوفة:
كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يمارس صلاحياته كخليفة وكان فيه من العزم والحزم بحيث لا يستطيع أحد أن يثنيه عن عزمه، فأرسل علي رضي الله عنه من الربذة يستنفر أهل الكوفة ويدعوهم إلى نصرته، وكان الرسولان محمد بن أبي بكر الصديق، ومحمد بن جعفر ولكنهما لم ينجحا في مهمتهما، إذ أن أبا موسى الأشعري والى الكوفة من قبل علي، ثبط الناس ونهاهم عن الخروج والقتال في الفتنة وأسمعهم ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من التحذير من الإشتراك في الفتنة ،فأرسل علي بعد ذلك هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، ففشل في مهمته، لتأثير أبي موسى عليهم ، فبعث عبد الله بن عباس فأبطوا عليه، فأتبعه بعمار بن ياسر والحسن بن علي، وعزل أبا موس الأشعري واستعمل قرظة بن كعب بدلا منه وكان للقعقاع بن عمرو دور كبير في إقناع أهل الكوفة، قام فيهم وقال: أني لكم ناصح وعليكم شفيق، وأحب أن ترشدوا، ولأقولن لكم قولا هو الحق، ... والقول الذي هو القول إنه لا بد من إمارة تنظم الناس وتنزع الظالم، وتعز المظلوم، وهذا علي يلي ما ولي، وقد أنصف في الدعاء، وإنما يدعوا إلى الإصلاح، فانفروا وكونوا في هذا الأمر بمرأ ومسمع ومسمع ، وكان للحسن بن علي أثر واضح، فقد قام خطيباً في الناس وقال: أيها الناس، أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لأن يليه أولو النهى ، أمثل في العاجلة وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم ، ولبى كثير من أهل الكوفة وخرجوا مع عمار والحسن إلى علي ما بين ستة إلى سبعة ألف رجل، ثم انضم إليهم من أهل البصرة ألفان من عبد القيس ثم توافدت عليه القبائل إلى أن بلغ جيشه عند حدوث المعركة اثني عشر ألف رجل تقريباً ، وعندما التقى أهل الكوفة بأمير المؤمنين علي بذي قار قال لهم: يا أهل الكوفة، أنتم وليتم شوكة العجم وملوكهم وفضضتم جموعهم، حتى صارت إليكم مواريثهم، فأعنتم حوزتكم واغتنم الناس على عودهم وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن يرجعوا فذلك ما نريد وأن يلجوا داويناهم بالرفق وبايناهم حتى يبدؤونا بظلم، ولن ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله ولا قوة إلا بالله .
4 ـ محاولات الصلح:
كان علي رضي الله عنه حريصاً على أن يقضي على هذه الفرقة والفتنة بالوسائل السلمية وتجنيب المسلمين شر القتال والصدام المسلح بكل ما أوتي من قوة وجهد، وكذلك الحال بالنسبة لطلحة والزبير، وقد اشترك في محاولات الصلح عدد من الصحابة وكبار التابعين، وكان من أشهرها محاولة القعقاع بن عمرو، فقد حاور طلحة والزبير والسيدة عائشة، وقد تأثروا بما طرح وسألت السيدة عائشة القعقاع عن رأيه في أمر قتلة عثمان، فقال: هذا أمر دواءه التسكين، ولا بد من التأني في الاقتصاص من قتلة عثمان، وإن أنتم بايعتم علياً واتفقتم معه، كان هذا علامة خير، وتباشير رحمة، وقدرة على الأخذ بثأر عثمان، وإن أنتم أبيتم ذلك، وأصررتم على المكابرة والقتال كان هذا علامة شر، وذهاباً لهذا الملك، فآثروا العافية ترزقونها وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولاً، ولا تعرضونا للبلاء، فتتعرضوا له، فيصرعنا الله وإياكم وأيم والله إني لأقول هذا وأدعوكم إليه، وإني لخائف ألا يتم، حتى يأخذ الله حجته من هذه الأمة التي قل متاعها، ونزل بها ما نزل، فإن ما نزل بها أمر عظيم، وليس كقتل الرجل الرجل ولا قتل النفر الرجل، ولا قتل القبيلة القبيلة، اقتنعوا بكلام القعقاع المقنع الصادق المخلص، ووافقوا على دعوته إلى الصلح، وقالوا له أحسنت وأصبت المقالة، فارجع فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر إن شاء الله، وعاد القعقاع إلى علي في "ذي قار"، وقد نجح في مهمته، وأخبر علياً بما جرى معهم، فأعجب علي بذلك، وأوشك القوم على الصلح، كرهه من كرهه ورضيه من رضيه .
5 ـ دور السبائية في نشوب القتال في معركة الجمل:
لما عاد القعقاع وأخبر أمير المؤمنين علي بما فعل، أرسل علي رضي الله عنه رسولين إلى عائشة والزبير ومن معه يستوثق فيه مما جاء به القعقاع بن عمرو، فجاءا علياً، بأنه على ما فارقنا عليه القعقاع فأقدم، فارتحل علي حتى نزل بحيالهم، فنزلت القبائل إلى قبائلهم مضر إلى مضر وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن، وهم لا يشكون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج إلى بعض، ولا يذكرون ولا ينوون إلا الصلح . وكان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لما نوى الرحيل قد أعلن قراره الخطير: ألا وأني راحل غداً فارتحلوا يقصد إلى البصرة، ألا ولا يرتحلن غداً أحدٌ أعان على عثمان بشئ في شئ من أمور الناس ، وكان في معسكر علي رضي الله عنه من أولئك الطغاة والخوارج الذي قتلوا عثمان من لم يعرف بعينه ومن تنتصر له قبيلته، ومن لم تقم عليه حجة بما فعله، ومن في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره ، وحرص أتباع ابن سبأ على إشعال الفتنة وتأجيج نيرانها حتى يفلتوا من القصاص ، فلما نزل الناس منازلهم واطمأنوا خرج علي وخرج طلحة والزبير، فتوافقوا وتكلموا فيما اختلفوا فيه، فلم يجدوا أمراً هو أمثل من الصلح، وترك الحرب حين رأوا أن الأمر أخذ في الانقشاع، فافترقوا على ذلك، ورجع علي إلى عسكره، ورجع طلحة والزبير إلى عسكرهما، وأرسل طلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه ما عدا أولئك الذين حاصروا عثمان رضي الله عنه ـ فبات الناس على نية الصلح والعافية وهم لا يشكون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض وبعضهم يخرج إلى بعض، ولا ينوون إلا الصلح، وبات الذين أثاروا الفتنة بشر ليلة باتوها قط، إذ أشرفوا على الهلاك، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلهم، وقال قائلهم: أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما، وأما علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم وذلك حين طلب من الناس أن يرتحلوا في الغد ولا يرتحل معه أحد أعان على عثمان بشئ ـ ورأي الناس فينا والله واحد، وأن يصطلحوا مع علي فعلى دماءنا ، وتكلم ابن السوداء ـ عبد الله بن سبأ وهو المشير فيهم ـ فقال: إن عزكم في خلطة الناس فصانعوهم وإذا التقى الناس غداً فانشبوا القتال، ولا تفرغوهم للنظر، وإذا أنتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع، ويشغل الله علياً وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون، فابصروا الرأي وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون فاجتمعوا على هذا الرأي بإنشاب الحرب في السر، فغدوا في الغلس وعليهم ظلمة، وما يشعر بهم جيرانهم فخرج مضريهم إلى مضريهم وربيعيهم إلى ربيعيهم، ويمانيهم إلى يمانيهم فوضعوا فيهم السيوف، فثار أهل البصرة، وثار كل قوم في وجوه الذين باغتوهم، فخرج الزبير وطلحة في وجوه الناس واندلع القتال ،وقد تحدثت عن جولات معركة الجمل بالتفصيل في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فقد كان أثر السبئية في معركة الجمل مما يكاد يجمع عليه العلماء، سوى أسموهم المفسدين أو بأوباش الطائفتين أو أسماهم البعض بقتلة، أو نبذوهم بالسفهاء، أو بالغوغاء، أو أطلقوا عليهم صراحة السبئية وهذه بعض النصوص التي تؤكد ذلك.
أـ جاء في أخبار البصرة لعمر بن شبة أن الذي نسب إليهم قتل عثمان خشوا أن يصطلح الفريقان على قتلهم، فانشبوا الحرب بينهم حتى كان ما كان .
ب ـ قال الإمام الطحاوي: فجرت فتنة الجمل على غير اختيار من علي ولا من طلحة وإنما أثارها المفسدون بغير اختيار السابقين .
ت ـ وقال الباقلاني: .. وتم الصلح والتفرق على الرضا، فخاف قتلة عثمان من التمكن منهم، والإحاطة بهم، فاجتمعوا، وتشاوروا واختلفوا، ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فرقتين ويبدأوا بالحرب سحرة في المعسكرين ويختلطوا، ويصيح الفريق الذي في معسكر علي: غدر طلحة والزبير، ويصيح الفريق الذي في طلحة والزبير: غدر علي، فتم لهم ذلك على ما دبروه ونشب الحرب، فكان كل فريق منهم دافعاً لمكروه عن نفسه ومانعاً من الإشاطة بدمه، وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى إذا وقع، والامتناع منهم على هذا السبيل، فهذا هو الصحيح المشهور، وإليه تميل، وبه نقول .
ث ـ ونقل القاضي عبد الجبار: أقوال العلماء، باتفاق رأي علي وطلحة والزبير وعائشة ـ رضوان الله عليهم ـ على الصلح، وترك الحرب، واستقبال النظر في الأمر، وأنَّ من كان في المعسكر من أعداء عثمان كرهوا ذلك، وخافوا أن تتفرغ الجماعة لهم، فدبّروا في إلقاء ما هو معروف، وتمّ ذلك .
جـ ـ ويقول القاضي أبو بكر بن العربي: وقدم عليّ على البصرة، وتدانوا ليتراءوا، فلم يتركهم أصحاب الأهواء وبادروا بإراقة الدماء واشتجر الحرب، وكثرت الغوغاء على البوغاء، كل ذلك حتى لا يقع برهان، ولا يقف الحال على بيان، ويخفي قتلة عثمان، وإنّ واحداً في الجيش يفسد تدبيره، فكيف بألف .
ح ـ ويقول ابن حزم: ... وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا، فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة والتدبير عليهم، فبيتوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم، فدفع القوم عن أنفسهم حتى خالطوا عسكر عليّ، فدفع أهله عن أنفسهم كل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بدأتها القتال، واختلط الأمر اختلاطاً، لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه، والفسقة من قتلة عثمان لا يفترون من شنّ الحرب واضرامها، فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها، مدافعة عن نفسها، ورجع الزبير وترك الحرب بحالها، وأتى طلحة سهم غارب، وهو قائم لا يدري حقيقة ذلك الاختلاط، فصادف جرحاً في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فانصرف ومات من وقته ـ رضي الله عنه ـ وقتل الزبير بوادي السباع ـ بعد انسحابه من المعركة ـ على أقل من يوم من البصرة، فهكذا كان الأمر .
خ ـ ويقول الذهبي .. كان وقعة الجمل أثارها سفهاء الفريقين . ويقول: إن الفريقين اصطلحا وليس لعلي ولا لطلحة قصد القتال، بل، ليتكلموا في اجتماع الكلمة، فترامى أوباش الطائفتين بالنيل وشبت نار الحرب، وثارت النفوس . وفي دول الإسلام: والتحم القتال من الغوغاء: وخرج الأمر عن علي وطلحة والزبير . يقول الدكتور سليمان بن حمد العودة: ولنا بعد ذلك أن نقول: وما المانع أن تكون رواية الطبري المصرّحة بدور السبئية في الجمل، تفسر هذا التعميم وتحدد تلك المسميات التي وردت في نقولات هؤلاؤء العلماء؟ وحتى ولو لم تكن هذه الطوائف الغوغائية ذات صلة مباشرة بالسبئية ولم تكن لها أهداف كأهدافهم، فأي مانع يمنع القول أن هذه شكلت أرضية استغلها ابن سبأ وأعوانه "السبئية" كما هي العادة في بعض الحركات الغوغائية التي تستغل من قبل المفسدين .وقد كان الحسن رضي الله عنه يوم الجمل على الميمنة وقيل على الميسرة، وكان يكره القتال ويشير على أبيه بتركه .
6 ـ عدد القتلى في الجمل:
أسفرت هذه الحرب الضروس عن عدد من القتلى اختلف في تقديره الروايات، وذكر المسعودي أن هذا الاختلاف في تقدير عدد القتلى مرجعه إلى أهواء الرواة ، وقد أورد خليفة بن خياط بياناً بأسماء من حفظ من قتلى يوم الجمل، فكانوا قريباً من المائة ، فلو فرضنا أن عددهم كان مائتين وليس مائة، فإن هذا يعني أن قتلى معركة الجمل لا يتجاوز المائتين. وهذا هو الرقم، الذي ترجح لدى الدكتور خالد بن محمد الغيث في رسالته استشهاد عثمان ووقعة الجمل في مرويات سيف بن عمر في تاريخ الطبري دراسة نقدية ، وأما ما ذكره أبو مخنف الرافضي الشيعي في كون القتلى يصل عددهم إلى عشرين ألفاً ، فهذا مبالغ فيه، وقد أساء هذا الكذّاب من حيث يظن أنه أحسن، إذ ذكر أن العشرين ألفاً من أهل البصرة فقط ، وأما سيف فيذكر أنهم عشرة آلاف نصفهم من أصحاب علي رضي الله عنه ونصفهم من أصحاب عائشة رضي الله عنها، وفي رواية أخرى قال: وقيل خمسة عشرة آلاف، خمسة آلاف من أهل الكوفة، وعشرة آلاف من أهل البصرة، نصفهم قتل في المعركة الأولى ونصفهم في الجولة الثانية ، والروايتان ضعيفتان للانقطاع غيره، وفيها مبالغة أيضاً، ويذكر عمر بن شبه أن القتلى يزيدون على ستة آلاف، إلا أن الرواية ضعيفة سنداً ، وأما اليعقوبي، فقد جاوز هؤلاء جميعاً، إذ وضع عدد القتلى نيفاً وثلاثين ألفاً ، وهذه الأرقام مبالغاً فيها جداً وقد ذكرت في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أسباب المبالغة.
7 ـ نداء أمير المؤمنين بعد الحرب:
ما إن بدأت الحرب تضع أوزارها، حتى نادى منادي علي: أن لا يجهزوا على جريح، ولا يتبعوا مدبراً، ولا يدخلون داراً ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن وليس لجيشه من غنيمة إلا ما حمل إلى ميدان المعركة من سلاح وكراع وليس لهم ما وراء ذلك من شئ، ونادى منادي أمير المؤمنين فيمن حاربه من أهل البصرة من وجد شيئاً من متاعه عند أحد من جنده، فله أن يأخذه .
8 ـ تفقده للقتلى وترحمه عليهم:
بعد انتهاء المعركة خرج أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يتفقد القتلى في نفر من أصحابه، فأبصر محمد بن طلحة السجاد، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أما والله لقد كان شاباً صالحاً، ثم قعد كئيباً حزيناً .. ودعا للقتلى بالمغفرة وترحم عليهم وأثنى على عدد منهم بالخير والصلاح
9 ـ تأثره من مقتل طلحة رضي الله عنه:
وإن علياً لما دار بين القتلى رأى طلحة مقتولاً فجعل يمسح عن وجهه التراب ثم قال: عزيز عليّ أبا محمد أن أراك مُجندلاً في الأودية، ثم قال: إلى الله أشكو عُجري وبُجري وترحم عليه وقال: ليتني مت قبل هذا بعشرين سنة .
10 ـ وقفه من قاتل الزبير رضي الله عنه:
لما غدر عمرو بن جرموز بالزبير وقتله إحتز رأسه وذهب به إلى علي ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده فاستأذن فقال علي: بشرّ قاتل ابن صفية بالنار، ثم قال علي: سمعت رسول الله يقول لكل نبي حواري وحواريّ الزبير ، ولما رأى علي سيف الزبير قال: إن هذا السيف طالما فرج الكرب عن وجه رسول الله وفي رواية: منع أمير المؤمنين ابن جرموز بالدخول عليه، وقال للآذان بشر قاتل ابن صفية بالنار ، ويقال ابن عمرو بن جرموز قتل نفسه في عهد علي، وقيل بل عاش إلى أن تأمر مصعب بن الزبير على العراق فاختفى منه، فقيل لمصعب: إن عمرو بن جرموز هاهنا وهو مختف، فهل لك فيه؟ فقال: مروه فليظهر فهو آمن، والله ما كنت لأقيد للزبير منه فهو أحقر من أن أجعله عدلاً للزبير ، وكان أمير المؤمنين قد وضع الأسرى في مساء يوم الجمل في موضع خاص، فلما صلى الغداة طلب موسى بن طلحة بن عبيد الله، فقربه ورحب به وأجلسه بجواره وسأله عن أحواله وأحوال أخوته، ثم قال له: إنا لم نقبض أرضكم هذه ونحن نريد أن نأخذها إنما أخذناها مخافة أن ينتهبها الناس، ودفع له غلتها وقال: يا ابن أخي وأننا في الحاجة إذا كانت لك وكذلك فعل مع أخيه عمران بن طلحة فبايعاه، فلما رأى الأسارى ذلك دخلوا على علي رضي الله عنه يبايعونه، فبايعهم وبايع الآخرين على راياتهم قبيلة قبيلة ،
كما سأل عن مروان بن الحكم وقال: يعطفني عليه رحم ماسة وهو مع ذلك سيد من شباب قريش، وقد أرسل مروان إلى الحسن والحسين وابن عباس رضي الله عنهم ليكلموا عليا فقال علي هو آمن فليتوجه حيث شاء، ولكن مروان إزاء هذا الكرم والنبل، لم تطاوعه نفسه أن يذهب حتى بايعه ، كما أن مروان بن الحكم أثنى على فعال أمير المؤمنين علي وقال لأبنه الحسن: ما رأيت أكرم غلبة من أبيك، ما كان إلا أن ولينا يوم الجمل حتى ناد مناديه: ألا يتبع مدبر، ولا يذفف على جريح
11 ـ أمير المؤمنين علي يرد عائشة إلى مأمنها معززة مكرمة:
جهز أمير المؤمنين علي عائشة بكل شئ ينبغي لها من مركب وزاد أو متاع، وأخرج معها من نجا ممن خرج معها إلا من أحب المقام، واختر لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات وقال: تجهز يا محمد ابن الحنفية: فبلغها، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه جاءها حتى وقف لها، وحضر الناس، فخرجت على الناس، وودعوها وودعتهم وقالت: يا بني تعتب بعضنا على بعض استبطاء واستزادة ولا يعتدن أحداً منك على أحد بشئ بلغه من ذلك، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها وإنه عندي على معتبتي من الأخيار، وقال علي: يا أيها الناس، صدقت والله وبرت ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وخرجت يوم السبت لغرة رجب سنة ستة وثلاثين، وشيعها علي أميالاً وسرح بنيه معها يوماً .
12 ـ ندمهم على ما حصل منهم:
قال ابن تيميه: .. وهكذا عامة السابقين، ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير وعلي وغيرهم، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في القتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم .
أـ فأمير المؤمنين علي ورد عنه، عندما نظر وقد أخذت السيوف مأخذها من الرجال فقال: لوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة .
ب ـ وروى نعيم بن حماد، بسنده إلى الحسن بن علي، إنه قال لسليمان بن صرد، لقد رأيت علياً حين اشتد القتال وهو يلوذ بي، ويقول: يا حسن: لوددت مت قبل هذا بعشرين سنة .
ت ـ وعن حسن بن علي قال: أراد أمير المؤمنين علي أمراً، فتتابعت الأمور، فلم يجد منزعاً .
ث ـ وعن سليمان بن صرد، عن حسن بن علي سمع علي يقول: ـ حين نظر إلى السيوف قد أخذت القوم ـ يا حسن أكل هذا فينا؟ ليتني مت قبل هذا بعشرين أو أربعين سنة .
خ ـ قال ابن تيمية: فإن عائشة لم تقاتل، ولم تخرج لقتال وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنت أن خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانت إذا خرجت خروجها تبكي حتى تبل خمارها وهكذا عامّة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير وعلي وغيرهم، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في القتال، ولكن وقع القتال بغير اختيارهم .
د ـ قال الذهبي ولا ريب أن عائشة ندمت ندمة كلية على مسيرها إلى البصرة وحضورها يوم الجمل، وما ظنت أن الأمر يبلغ ما بلغ ، ومن أراد التوسع والمزيد من معركة الجمل التي حضرها الحسن بن علي رضي الله عنه فليراجع كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
س ـ وقبل أن نودع الأحداث المؤلمة في الجمل نقف عند درس مهم نستخلصه منها: وهو أننا لا بد أن نعمل حساب لكيد الأعداء ومكرهم في سبيل إفشال إي جهد مخلص لتوحيد الصف أو فيه خطر على مصالحهم، فيجب في مثل هذه الحالة إننا إذا اتفقنا على الأفكار العامة أن نرسم الخطط ونضع التدابير اللازمة، لتنفيذ ما اتفقنا عليه وتفويت الفرصة على الأعداء في إفشاله وإلا تترك الفرحة بجمع الكلمة تنسينا خطر الأعداء وما يمكن أن يقوموا به بالإضرار بالإسلام والمسلمين، وقد استفاد الحسن من هذا الدرس وطبقه في مشروعه الإصلاح الذي سيأتي تفصيله بإذن الله.
يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf