الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

استشهاد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ووصيته؛ دروس وعبر

الحلقة: التاسعة عشر

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رجب 1441 ه/ مارس 2020م

تركت معركة النهروان في نفوس الخوارج جرحاً غائراً لم تزده الأيام والليالي إلا إيلاماً وحسرة، فاتفق نفر منهم على أن يفتكوا بعلي رضي الله عنه ويثأروا لمن قتل من أخوانهم في النهروان، واستطاع عبد الرحمن بن ملجم أن يقتل أمير المؤمنين علي بالغدر وهذا محمد بن الحنفية يروي لنا قصة مقتل أمير المؤمنين، فقد قال: كنت والله إني لأصلي تلك الليلة التي ضرب فيها علي في المسجد الأعظم في رجال كثير من أهل المصر، يصلون قريباً من السدة، ما هم إلا قيام وركوع وسجود، وما يسأمون من أول الليل إلى آخره، إذ خرج علي لصلاة الغداة، فجعل ينادي: أيها الناس، الصلاة الصلاة، فما أدري أخرج من السدة، فتكلم بهذه الكلمات أم لا؟، فنظرت إلى بريق، وسمعت: الحكم لله يا علي لا لك ولا لأصحابك، فرأيت سيفاً، ثم رأيت ثانياً، ثم سمعت علياً يقول: لا يفوتنكم الرجل وشد الناس عليه من كل جانب، قال: فلم أبرح حتى أخذ ابن ملجم وأدخل على علي، فدخلت فيما دخل من الناس، فسمعت علياً يقول: النفس بالنفس، أنا إن مت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي ، وذكر أن الناس دخلوا على الحسن فزعين لما حدث من أمر علي، فبينما هم عنده وابن ملجم مكتوف بين يديه، إذ نادته أم كلثوم بنت علي وهي تبكي: أي عدو الله لا بأس على أبي، والله مخزيك، قال: فعلى من تبكين؟ والله لقد اشتريته بألف، وسممته بألف، ولو كانت هذه الضربة على جميع أهل المصر ما بقي منهم أحد ، وقد جمع الأطباء لعلي رضي الله عنه يوم جرح وكان أبصرهم بالطب أثير بن عمر السكوني، وكان صاحب كسرى يتطبب فأخذ أثير رئة شاه حارة، فتتبع عرقاً منها، فاستخرجه، فأدخله في جراحة علي، ثم نفخ العرق واستخرجه فإذا عليه بياض الدماغ وإذا الضربة قد وصلت إلى أم رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين أعهد عهدك فإنك ميت ، وذكر أن جندب بن عبد الله دخل على علي فسأله، فقال: يا أمير المؤمنين إن فقدناك ـ ولا نفقدك ـ فنبايع الحسن؟ قال ما آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر ، ومن هذا الأثر يظهر إيمان أمير المؤمنين علي بحق الأمة في اختيار خليفتها.
1 ـ وصية أمير المؤمنين علي للحسن والحسين رضي الله عنهم:
دعا أمير المؤمنين حسن وحسيناً، فقال: أوصيكما بتقوى الله، وألا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تبكيا على شئ زُوِي عنكما، وقولا الحق، وأرحما اليتيم وأغيثا الملهوف، واصنعا للآخرة وكونا للظالم خصماً وللمظلوم ناصراً، واعملا بما في الكتاب ولا تأخذكما في الله لومة لائم، ثم نظر إلى محمد بن الحنفية، فقال: هل حفظت ما أوصيت به أخويك ، قال: نعم، قال: فإني أوصيك بمثله وأوصيك بتوقير أخويك، لعظيم حقهما عليك، فاتبع أمرهما، فلا تقطع أمراً دونهما ثم قال: أوصيكما به، فإنه ابن أبيكما، وقد علمتما أن أبيكما كان يحبه، وقال للحسن: أوصيك أي بني بتقوى الله واقام الصلاة لوقتها، وإيتاء الزكاة عند محلها، وحسن الوضوء فإنه لا صلاة إلا بطهور، ولا تقبل صلاة من مانع زكاة، وأوصيك بغفر الذنب، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، والحلم عند الجهل، والتفقه في الدين، والتثبت في الأمر، والتعهد للقرآن، وحسن الجوار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الفواحش ، فلما حضرته الوفاة أوصى فكانت وصيته: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون.
ثم أن صلاتي ونسكى ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، ثم أوصيك يا حسن وجميع أهلي وولدي وأهلي بتقوى الله ربكم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون فاعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا، فإني سمعت أبا القاسم يقول: إن صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام انظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوهم يهون الله عليكم الحساب، الله الله في الأيتام، فلا تعنوا أفواههم ولا يضيعن بحضرتكم الله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم صلى الله عليه وسلم ما زال يوصي به حتى ظننا أنه سيورثه، الله الله في القرآن، فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم، والله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم، والله الله في بيت ربكم فلا تخلّوه ما بقيتم، فإنه إن ترك لم يناظر، والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، والله في الزكاة فإنها تطفئ غضب الرب، والله الله في ذمة نبيكم فلا يظلمن بين أظهركم، والله الله في أصحاب نبيكم فإن الله أوصى بهم، والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم، والله في ما ملكت أيمانكم. الصلاة الصلاة لا تخافن في الله لومة لائم، يكفيكم من أرادكم وبغى عليكم وقولوا لله حسناً كما أمركم الله، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى الأمر شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم. وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب، حفظكم الله من أهل بيت وحفظ فيكم نبيكم. استودعكم الله وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض رضي الله عنه ، وجاء في رواية أخرى: ..
يا بَنَّي: أوصيكم بتقوى الله في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر والعدل على الصديق والعدو، والعمل في النشاط والكسل، والرضى عن الله في الشدة والرخاء يا بني ما شر بعده الجنة بشر، ولا خير بعده نار بخير، وكل نعيم دون الجنة حقير، وكل بلاء دون النار عافية، يا بني من أبصر عيب نفسه شغل عن عيب غيره، ومن رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته ومن سل سيف بغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئراً وقع فيها، ومن هتك حجاب أخيه كشف عورات نفسه، ونسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر على الناس ذل ومن خالط الأنذال احتقر، ومن دخل مداخل السوء اتهم، ومن جالس العلماء وقّر، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شئ عرف به، ومن كثر كلامه كثر خطأه، ومن كثر خطأه قل حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار. يا بني، الأدب خير ميراث، وحسن الخلق خير قرين، يا بني العافية عشرة أجزاء: تسعة منها في الصمت إلا من ذكر الله، وواحدة في ترك مجالسة السفهاء يا بني زينة الفقر الصبر، وزينة الغنى الشكر، يا بني لا شرف أعلى من الإسلام، ولا كرم أعز من التقوى، ولا معقل أحرز من الورع ولا شفيع أنجح من التوبة، ولا لباس أجمل من العافية، الحرص مفتاح التعب ومطية النصب التدبير قبل العمل يؤمنك الندم، فبئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد، طوبى لمن أخلص لله علمه وعمله وحبه وبغضه وأخذه وتركه، وكلامه وصمته وقوله وفعله .
2 ـ نهي أمير المؤمنين علي عن المثلة بقاتله:
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: احبسوا الرجل فإن مت فاقتلوه وإن أعش فالجروح قصاص . وفي رواية أخرى قال: أطعموه وأسقوه وأحسنوا إساره، فإن صححت فأنا ولي دمي أعفو إن شئت وإن شئت استقدت ، وفي رواية أخرى زيادة، وهي قوله إن مت فاقتلوه قتلتي ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ، وقد كان علي نهى الحسن عن المُثْلة، وقال يا بني عبد المطلب، لا ألفيتكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون: قتل أمير المؤمنين، قتل أمير المؤمنين، ألا لا يُقتَلنَّ. أنظر يا حسن، إن من ضربته هذه فاضربه ضربة بضربة، ولا تمثل بالرجل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إياكم والمثلة ولو أنها بالكلب العقور . وقد جاء في شأن وصية أمير المؤمنين بأمر قاتله روايات كثيرة تتفاوت منها الصحيح ومنها الضعيف، فالرواية التي فيها أمر علي رضي الله عنه بإحراق الشقي بعد قتله إسنادها ضعيف، والروايات الأخرى تسير في إتجاه واحد فكلها فيها أمر علي رضي الله عنه بقتل الرجل إن مات من ضربته ونهاهم عما سوى ذلك، فهذه الروايات يعضد بعضها، وتنهض للاحتجاج بها هذا من جهة، كما أن أمير المؤمنين لم يجعله مرتداً، فيأمر بقتله، بل نهاهم عن ذلك لما همّ بعض المسلمين بقتله وقال: لا تقتلوا الرجل، فإن برئت فالجروح قصاص، وإن مت فاقتلوه ، وتذكر الرواية التاريخية المشهورة: فلما قبض علي رضي الله عنه بعث الحسن إلى ابن ملجم، فقال للحسن، هل لك في خصلة؟ إني والله ما أعطيت الله عهداً إلا وفيت به، إني كنت قد أعطيت الله عهداً عند الحطيم أن أقتل علياً ومعاوية أو أموت دونهما، فإن شئت خليت بيني وبينه، ولك الله علي إن لم أقتله ـ أو قتلته ثم بقيت، أن آتيك حتى أضع يدي في يدك.
فقال له الحسن: أما والله حتى تعاين النار ثم قدمه فقتله ثم إن الناس أخذوه، فأحرقوه بالنار، ولكن هذه الرواية منقطعة ،
والصحيح من الروايات والذي يليق بالحسن والحسين وأبناء أهل البيت أنهم التزموا بوصية أمير المؤمنين علي في معاملة عبد الرحمن بن مُلْجم وفيها يظهر خلق الإسلام العظيم في النهي في المثلة والالتزام بالقصاص الشرعي. ولا تثبت الرواية التي تقول: فلما دفن اضروا ابن ملجم، فاجتمع الناس، وجاءوا بالنفط والبواري، فقال محمد بن الحنفية، والحسين، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، دعُونا نشتفّ منه، فقطع عبد الله يديه ورجليه، فلم يجزع ولم يتكلّم، فكحَلَ عينيه، فلم يجزع، وجعل يقول إنك لتكحُل عيني عمّك وجعل يقرأ ((إقرأ بسم ربك الذي خلق)) (العلق، آية: 1) حتى ختمها، وإن عينيه لتسيلان ثم أمر به فعولج عن لسانه ليُقْطع فجزع، فقيل له في ذلك. فقال: ما ذاك بجزع ولكنّي أكره أن أبقى في الدنيا فُواقاً لا أذكر الله فقطعوا لسانه، ثمّ أحرقوه، وكان أسمر، حسن الوجه، أفلج، شعره من شحمة أذنيه، وفي جبهته أثر السجود .
وابن ملجم عند الروافض أشقى الخلق في الآخرة، وهو عندنا أهل السنة ممن نرجو له النّار، ونجوِّز أن الله يتجاوز عنه، لا كما يقول الخوارج والروافض فيه، وحكمه حكم قاتل عثمان وقاتل الزبير، وقاتل طلحة، وقاتل سعيد بن جبير، وقاتل عمّار وقاتل خارجة، وقاتل الحسين، فكل هؤلاء نبرأ منهم ونبغضهم في الله، ونكل أمورهم إلى الله عز وجل.

3 ـ خطبة الحسن بن علي رضي الله عنهما بعد مقتل أبيه:
عن عمر بن حُبشي قال: خطبنا الحسن بن علي بعد قتل علي رضي الله عنه، فقال: لقد فارقكم رجل أمس ما سبقه الأولون بعلم ولا أدركه الآخرون، إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعثه ويعطيه الراية فلا ينصرف ، حتى يُفتح له ما ترك من صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه كان يرصدها لخادم أهله .
4 ـ استقبال معاوية خبر مقتل علي رضي الله عنهما:
ولما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال: ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم ، وكان معاوية يكتب فيما ينزل به يسأل له علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذلك، فلما بلغه قتله قال: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب، فقال له أخوه عتبة: لا يسمع هذا منك أهل الشام، فقال له: دعني عنك ، ولنتعرف على شخصية علي عندما طلب معاوية رضي الله عنه في خلافته من ضرار الصُّدائي أن يصف له علياً، فقال أعفني يا أمير المؤمنين قال: لتصفنَّه، قال: أما إذ لا بد من وصفه فكان والله بعيد المدى، شديد القُوى، يقول فُصلاً ويحكم عدلاً يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه ويستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته وكان غزير العبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قُصر ومن الطعام ما خشن، وكان فينا كأحَدِنا، يجيبنا إذا سألناه وينبئنا إذا استنبأناه ونحن والله ـ مع تقريبه إيانا وقربه منا ـ لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظِّم أهل الدين ويُقرِّب المساكين، ولا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف في عدله، وأشهد أنه قد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سُدُولَه وغارت نجومه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غُرِّي غيري، إليّ تعرّضت أم إلى تشوَّفتِ: هيهات هيهات، قد باينتك ثلاثاً لا رجع فيها فعمرك قصير، وخطرك قليل، آه من قلة الزاد وبُعد السفر، ووحشة الطريق، فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال حزن من ذبح ولدها وهو في حجرها ،
وعن عمر بن عبد العزيز قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمت عليه وجلست، فبينما أنا جالس إذ أتى بعلي ومعاوية فأدخلا بيتاً وأجيف الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج علي وهو يقول: قضي لي ورب الكعبة، ثم ما كان بأسرع من خرج معاوية وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة . وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي أنه قال له رجل: إني أبغض معاوية فقال له ولم؟ قال: لأنه قاتل علياً، فقال له أبو زرعة: ويحك إن رب معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فايش دخولك أنت بينهما؟ رضي الله عنهما .

يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022