من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان: (سورة التحريم)
الحلقة السابعة والأربعون
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
جمادى الأولى 1442 هــ/ ديسمبر 2020
* {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون }:
وهذا التفات في الخطاب بعد انتقال من المؤمنين إلى الكافرين.
وكأن هذا من كلام الملائكة يخاطبون أهلَ النار من الكفار؛ ليكون مشهدًا حاضرًا متصوَّرًا يراه الناس، ويرون الملائكة الغلاظ الشداد يخاطبون أهل النار حين يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } [فاطر: 37]، فيكبتونهم ويوبِّخونهم ويقطعون طريق الكلام عليهم بأن وقت المعذرة قد ذهب وولَّى: {لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ }.
* {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير }:
جاء الأمر هنا عامًّا للمؤمنين بعد أن أمر به بعض أمهات المؤمنين.
والتوبة النصوح هي: أن يترك الذنب، ويعزم على أَلَّا يعود إليه حتى يعود اللَّبَن في الضَّرْع، كما قال عمر وأُبَيٍّ ومعاذ رضي الله عنهم، فهي توبة صادقة لا تردد فيها.
وقد نُقل عن علي رضي الله عنه، وغيره أن من شروطها: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما مضى، والعزم الصادق على عدم العود، وأن يُجهد نفسه في طاعة الله كما أجهد نفسه في معصية الله، وأن يرد الحقوق إلى أهلها.
وفي هذا يقول ابن المعتز:
خلِّ الذنوبَ صغيرَها * وكـبـيــــرَهـا ذاك الـتُّــــقى
واصنع كماشٍ فوق أر * ضِ الشوكِ يحذرُ ما يرى
لا تحـقــــرنَ صغـيـــرةً * إن الجـبـالَ مـن الحَـصَى
{عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ }، و{عَسَى } من الله واجبة، فهذا الوعد الطيب الصادق، {يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ }.
والتعبير بنفي الخزي عن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين تقرير لفوزهم الأخروي بعد فوزهم الدنيوي، كما قالت خديجة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لا يخزيك الله أبدًا». وهو تعريض بالمشركين الذين جاءهم الخزي بالنار التي وقودها الناس والحجارة.
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } حاضرون في الموقف، فإما أن يكون قوله: {مَعَهُ } يعني: في الدنيا، أو يكون المعنى: إن الذين آمنوا هم معه في ذلك الموقف لا ينالهم الخزي، و{لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون } [الزمر: 61]، فهنا ثناء على الذين آمنوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أصحابه الكرام رضي الله عنهم.
{نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ }: «النور» مقابل «النار»، فالكفار محشورون في نارٍ {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }، أما هؤلاء الأنبياء والذين آمنوا فإن لهم النور الذي يخرج من كتبهم، فهم يُعْطَوْنَ كتبهم بأيمانهم، وهذه الكتب فيها من أعمال الخير ما يجعلها نورًا لأصحابها؛ فيظهر نورهم ويمضي.
والعادة أن الإنسان يأخذ الأشياء بيمينه ويعطيها بيمينه، وهؤلاء مؤمنون فيُعْطَوْنَ كتبهم بأيمانهم بخلاف الكافرين، نورهم يسعى أمامهم ويسعى من عن يمينهم، أما عن شمالهم فكأن ثمة ظلمة والله أعلم؛ ظلمة الكفر والكافرين والنار؛ فلذلك لم يشر إليها، فهؤلاء المؤمنون يمضون وهم يقولون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا }: إما أن يكونوا يخافون أن ينطفئ، وهم يرون الناس في كرب القيامة، فينادون ربهم ويدعون بهذا الدعاء الخاشع الملهوف، وما دعوا به إلا أن الله تعالى ألهمهم إياه.
فالمؤمن في مثل ذلك الموقف، وقد جاءه النور وهو ينادي ربه بهذا النداء الجميل: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا }، مثلما كان ينادي في الدنيا: يا مقلِّبَ القلوب ثبِّت قلبي على طاعتك، يا مصرِّفَ القلوب صرِّف قلبي على دينك. ما ألهمهم الله تعالى هذا الدعاء في هذا الموقف إلا وهو يريد أن يتم لهم نورهم ويوصلهم إلى رضوانه.
كان عمر رضي الله عنه يقول: «إني لا أحملُ همَّ الإجابة، ولكن أحملُ همَّ الدعاء، فإذا أُلهمتُ الدعاءَ، فإن الإجابةَ معه».
وربما كان هذا إذا انطفأ نور المنافقين، فاستعاذوا بالله أن يكونوا مثلهم.
ويحتمل أن يكون الدعاء من بعضهم، وليس منهم جميعًا؛ لأن نورهم متفاوت على قدر إيمانهم، كحال عبورهم الصراط.
{وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير }: وكأنهم يَبْرؤون من حولهم وقوتهم، وأن الأمر موقوف على رحمته سبحانه.
* {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير }:
أمره بالجهاد، ويشمل ألوان الجهاد؛ ولهذا ذكر الكفار والمنافقين، فأما الكفار المحاربون فجهادهم باللِّسان وبالسِّنان وبالقوة وبالحجة والمال، وبكل ممكن، كما ذكر أهل العلم، وأما المنافقون فإن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته في جهادهم أنه بالحجة، وما اقتضاه مقام البلاغ والرسالة من البيان والتحذير من أقوالهم وأعمالهم، كما في «سورة المنافقون».
* {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِين }:
ختم السورة الكريمة بأربعة أمثلة ضربها للناس متصلة بالقصص السابقة في بيت النبوة:
أما الأول والثاني: فقوله سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ }.
وهذا المثل يخاطب به الذين كفروا؛ ليُبيِّن لهم أن قرب الإنسان من أحد أولياء الله لا ينفعه، وإنما ينفع الإنسان عمله، فهاتان امرأتان تحت نبيين عابدين صالحين: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا }: والمقصود بالخيانة عند أكثر المفسرين: خيانة الدين.
وقد ذُكر أن امرأة نوح ركبت معه السفينة، ثم طُوي ذكرها بعد ذلك، فهل هي امرأته الخائنة لرسالته، أم هي امرأة له أخرى؟ الله تعالى أعلم.
والمقصود هنا امرأة لنوح عليه السلام لم تكن على دينه، خانته بذلك، وكذلك امرأة لوط عليه السلام، وقصتهما معروفة، {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } مع قربهما.
{وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِين }: دليل على إهمالهم وإخماد ذكرهم، وأنه لا شأن لهم ولا قيمة ولا اعتبار، فإنها تدخل النار ضمن العديد من أهلها دون اعتبار، وفي ذلك تحذير أن يستبدل الإنسان الضلالة بالهدى، أو يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
* {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين }:
والمثلان الآخران هما: قصة امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا }، وهو موجَّه للمؤمنين أنه لا يضرك أن تكون مع قوم كافرين إذا أطعت الله تعالى واتقيته.
ويحتمل أن يكون المعنى: وضرب الله مثلًا من الذين آمنوا؛ فإن امرأة فرعون كانت من المؤمنين.
والأقرب أن {فِرْعَوْنَ } هذا هو فرعون الذي أُرسل إليه موسى عليه السلام.
وكانت امرأته يقال: إنها كانت آسيوية، وفي «الصحيحين» أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذكر أن اسمها: «آسية»، وفي بعض الروايات: «ابنة مزاحم».
وهذا الاسم يبدو أنه عربي، وذكر المؤرِّخون أنها كانت على غير دين أهلها وقومها المصريين آنذاك، وكانت على ديانة التوحيد، وقد آمنت بموسى، وبلغ الخبر فرعون فعذَّبها وعاقبها، ويبدو أنه آخر الأمر طردها وأبعدها عمَّا يسمونه: الحضرة الملكية والقصر، وقد دعت الله تعالى أن يبني لها عنده
{بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ }؛ لأنها حُرمت من القصر والبيت الذي كانت تعيش فيه، والفراعنة لهم مدافن في قصورهم.
وهنا تلحظ كيف أن امرأة تتحدَّى بطش الفرعون وتتمرَّد عليه بإيمانها بالله، وتصبر وتصابر حتى تُطرد أو تُقتل، وكل ما تقوله: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ }، وتدعو ربها أن ينجيها منه ومن عمله الذي أعظمه الشرك بالله تعالى.
{وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين } أي: المحيطين به من البطانة والأعوان، وربما من أولئك الذين يعذِّبونها، فقد ورد أنهم عذَّبوها رضي الله عنها حتى ماتت، هذا المثل الثالث.
* والمثل الرابع: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِين }:
جاء ذكرها بالاسم صريحًا، ولم يرد في القرآن من أسماء النساء سواها، وأنزل تعالى سورة خاصة باسمها؛ وفي ذلك إشادة بها.
{الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا }: الإحصان: هو جعل الشيء حَصِينًا، ومنه نقول: مدينة حَصِينة، أي: مَنِيعة الأسوار، ليست قصيرة يتجاوزها كل أحد أو يقفز عليها.
ومن النساء مَن لا يكون عندها هذا السور، فيؤثِّر فيها الحديث والوسوسة والكلام والإغراء والغزل، فتلين بعد تمنَّع، كما قال أحد الشعراء:
عُسْـرُ النِّساءِ إلى مُياسَرَةٍ * والصَّعبُ يسلس بَعدَما جَمَحَا
ويشمل إحصان الجسد كله، فالعفة ليست في الفرج فحسب، وإنما عفة الوجه، والعين، واليد، والقلب ذاته، كما قال المتنبي:
ولا عِفَّةٌ في سَيفِهِ وسِنانِهِ * ولكنها في الكفِّ والفَرجِ والفَمِ
فعفة اليد: الكف عن الحرام، وعفة الفَرْج: أَلَّا يقع الإنسان في الفواحش ومقدماتها، وعفة اللسان: التوقف عن الكلام الذي لا يجمل ولا يليق.
والفَرْج يُطلق على جيب الدَّرْع؛ وهو ثوب المرأة الذي تلبسه يكون فيه جيب عادةً من الأمام، وكل فتحة في الثوب تسمى: فَرْجًا، كما في قوله تعالى عن السماء: {وَمَا لَهَا مِن فُرُوج } [ق: 6].
فالفُرُوج هي: الفتحات، والثناء عليها يشمل إحصان جسدها في هيئتها ولباسها وكلامها وقلبها، ومن باب أولى وأكمل فرجها.
{فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا }: حيث جاء جبريل عليه السلام فنفخ في جيب درعها النفخة السريعة التي تحولت بقدرة الله إلى حمل بصورة خارقة غير معهودة، وولدت من ذلك عيسى عليه السلام.
ومن تشريف الله لمريم عليها السلام إسناده النفخ في فرجها لروحه، وهو يعني أن تكون منسوبة إليه، نسبة الخلق والتشريف والتكريم، كما يقال: بيت الله، وناقة الله، أو يكون المقصود: جبريل عليه السلام.
{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ }: ومن كلماته: عيسى عليه السلام، فهو {رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } [النساء: ١٧١].
ومن كلماته: الكتب التي نزلت على الأنبياء السابقين، فهي صدَّقت بكلمات ربها كلها، وكتبه المنزَّلة على أنبيائه.
وهذا يعني أن الله أثنى عليها بالعلم، وهو دليل على شرف العلم وفضله؛ لأنه لا يقع التصديق بكلمات الله وكتبه إلا مع العلم بها ومعرفتها.
ومن العجيب أنك تجد في بعض الآثار والنصوص الضعيفة تحذير المرأة من الكتابة؛ كحديث: «لا تعلموهنَّ الكتابةَ»، وهو حديث مكذوب لا يصح.
في حين أن الله تعالى يثني على سيدة نساء العالمين بأنها صدَّقت بكلمات ربها وكتبه، فهي إذًا على اطلاع بالكتب ومعرفة وإيمان بها، والإيمان هنا ليس تقليدًا؛ بل فهم راسخ للحقائق ومعرفة وحجة.
{وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِين }: والقنوت هو: الطاعة، وطول القيام في العبادة، وقيل: قيام الليل.
وهذا من باب التفسير بالمثال، فجمع الله لها بين العلم الصحيح، والعمل الصالح.
وقد كانت متبتِّلة في طاعة الله تعالى ورضوانه، كما وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالنساء القانتات، وأمر نساءه أن يَكُنَّ كذلك.
وضَرْبُ المثل بمريم دعوة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين لامتثال هذه الأخلاق العلمية العملية.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي: