الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:
(سورة الحاقة)
الحلقة الثالثة والستون
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
جمادى الآخرة 1442 هــ/ يناير 2020
 
* {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيم }:
لأنه لم يقدِّم إيمانًا، ولم يقدِّم إحسانًا، فلا كان ممن آمن بالله، ولا كان ممن حضَّ على طعام المسكين، فكان جزاؤه أَلَّا يجد اليوم صديقًا يقف معه أو يسانده.
* {وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِين }:
لأنه كان لا يحض على طعام المسكين، فلن يجد هو طعامًا يشبعه إلا الغِسلين.
والغِسْلين: أحد أطعمة أهل النار، مثل الزَّقُّوم والضَّريع.
وقيل: هو: غُسالة أبدان أهل النار، أو هو: من شجر جهنم.
يقول قتادة: «هو شرُّ الطعام وأخبثه».
والسياق يدل على خبثه من جهة أنه الطعام الوحيد لهم، ليس لهم طعام سواه، وكأنهم مضطرون إليه؛ لعدم وجود غيره، ولهذا قال في موضع آخر:
﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ۝ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾ [الغاشية: 6-7]. فيجوز أن يكون الضَّريع والغِسْلين واحدًا، ويجوز أن يكون المعنى: أنهم يقتصرون على هذا تارة وعلى هذا تارة، فهي أحوال لهم يتقلبون فيها، وكلها شرٌّ عليهم، أو يكون هذا طعام طبقة، وذاك طعام طبقة أخرى.
* ومما يوحي بشدة قبحه ورداءته: قوله سبحانه: {لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُون }:
فهو طعام خاص بالخاطئين، لا يسيغه سواهم، ولا يتجرَّعه غيرهم.
وهذا كاف في تشنيعه وتبشيعه، وقال ابن زيد: «الغِسلين والزَّقُّوم لا يعلم أحدٌ ما هو». وهذا أجود من قول: إنه غُسالة أهل النار.
والخاطئ: المذنب، بعكس المخطئ الذي يفعل الشيء عن جهل.
* ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ۝ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ﴾:
قَسَم إلهي عظيم، قال بعض أهل العلم: هذا أعمُّ قَسَم في القرآن؛ لأنه سبحانه أقسم بكل شيء، فقال: ﴿بِمَا تُبْصِرُونَ ۝ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ﴾، والكون فيه المرئي وغير المرئي، وكذلك الغيب والشهادة.
وليس المرئي وغيره مقصورًا على المغيب، فثَمَّ في خلق الله العظيم مما حولنا ما تعجز العين عن إدراكه؛ لضآلة حجمه، وهو مع ذلك شديد الأهمية، حتى الذرات والجزئيات والنيترون والإلكترون والنانو.. تدخل في ذلك.
والعلم لا يزال يكتشف في الكون المحيط بنا عوالم هائلة لا نراها، فكيف بالأكوان كلها والمجرات والسماوات، فكيف بالآخرة، وبالملائكة والعوالم العليا.. فكيف بالجنة والنار.. وما يعلم الله ولا يعلم الناس؟!
إنه لقَسَم عظيم، وفيه تربية للعالم على التواضع، وترك الاستكبار، أو الغرور بالمعرفة، أو سرعة التكذيب بما لا يحيط به.
* {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم }:
أي: هذا القرآن قول رسول كريم، إما النبي صلى الله عليه وسلم، أو جبريل عليه السلام، فسمَّاه: رسولًا، وهو الرسول البشري محمد صلى الله عليه وسلم الذي بلَّغه للناس، أو الرسول الملائكي وهو جبريل عليه السلام، نزل به من رب العزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى في السورة الأخرى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ۝ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ۝ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ [التكوير: 19-22].
والأقرب أن {رَسُولٍ } هنا يشملهما معًا، على أن الله تعالى هو المتكلِّم بهذا القرآن على وجه الحقيقة، فالقرآن كلامه سبحانه، وإنما نسبه إلى الرسول لأنه بلَّغه، وليس في الأمر التباس؛ لأنه لما سماه رسولًا دل على أنه مرسَل بهذا الكلام المقدَّس، وليس منشِئًا أو مبتدعًا له من عند نفسه، وإلا لما كان رسولًا.
* ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ۝ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الحاقة: 41-42]:
أي: هو قول الله سبحانه، أوحى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس كما تزعمون أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تلقَّاه من شاعر، أو قاله من عند نفسه وهو شاعر، كما قال: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُون } [الطور: 30].
{ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ۝ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ}، كما قالت طائفة أخرى منكم {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُون }.
والمعنى- والله أعلم-: أنكم لا تؤمنون أصلًا، ولا تتذكَّرون، والعرب تقول: «قليل» للمبالغة في النفي، وأنه لا يوجد منه شيء أبدًا.
ويحتمل أن يكون المعنى: أنهم أحيانًا يقع في قلوبهم بعض الإيمان، ولكنهم يقمعونه ويكبتونه؛ حفاظًا على أموالهم وأولادهم وسلطانهم ومصالحهم، أو يكون المراد إقرارهم بالألوهية أحيانًا حين يُسألون: من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله.
ونفى عن نبيه الشعر، كما قال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } [يس: 69]. وهم أدرى الناس بالشعر والشعراء، كما نفى عنه الكَهانة وسَجْعها وزَمْزَمَتها، وهو صلى الله عليه وسلم أبعد الناس منها، ولكنهم كانوا يقولون ذلك زجرًا للمغفَّلين عن التفكير في القرآن ودلالاته.
ولو تأملوا لوجدوا أن ما فيه من الأخبار والقَصَص والمواعظ والحِكَم والأسرار والوعد والوعيد والأحكام، ما لا يمكن معه وصفه بغير الوحي من الله العزيز العليم.
* {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين }:
فهو من الله سبحانه، ليس من إنشاء هذا الرسول، ولا من جبريل، ولا من قول الشعراء ولا الكهان.
* ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ۝ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾ [الحاقة: 44-45]:
أي: لو زاد هذا الرسول بعض القول والحديث ونسبه إلى الله تعالى- وحاشاه صلى الله عليه وسلم- {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين }، ويوحي الله هذا القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التهديد، ولا يملك صلى الله عليه وسلم وهو بمكة إلا أن يقرأه على الناس، ويحفِّظهم إياه، ويضرب بالحجة بين ظهورهم، مع أن التهديد موجَّه إليه هو، وهذا من عظمة القرآن وحفظه، وتكفَّل الله سبحانه بأن يقصم ظهر كل مَن ينسب إلى الله الكذب والزُّور، فمع محبة الله له واصطفائه واختياره، وعِلْم الله به سبحانه، يأتي هذا التهديد؛ إقامةً للحجة على المشركين بأن هذا كلام الله سبحانه وتعالى.
وفي موضع آخر توعَّد مَن يكتم شيئًا من وحيه، كما قال: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [المائدة: 67]، وقال: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ۝ إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ﴾ [الإسراء: 74-75].
فهو إذًا مُبلِّغ، ليس عليه إلا البلاغ والبيان والدعوة والصبر حتى يحكم الله.
وهو دليل على عظمة القول على الله بغير علم، ووجوب التثبُّت والتحرِّي في الكلام في الديانة، وعدم التسرع أو الجزم إلا بحجة ظاهرة، ورحم الله الإمام مالك فإنه قلمَّا يفتي بشيء إلا تلا هذه الآية: {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِين } [الجاثية: 32]، ولكن لا يقول: هذا حكم الله وهذا دين الله إلا في القطع الذي لا مِرية فيه ولا تردد، وما أكثر الجاهلين والمتقوِّلين!
{لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين }: يجوز أن يكون المعنى- كما قال الحسن وغيره-: إن الله تعالى يأخذ منه بيده اليمنى، ثم يقطع رقبته. والسيَّاف- أحيانًا- إذا أراد أن يضرب الإنسان بالسيف يأخذ بيده اليمنى، ثم يضربه من الأمام، أما لو أخذه بالشمال فربما ضربه من خلفه، فهذا أشد ما يكون من الأخذ.
ومن معاني قوله: {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين } أي: بالقوة.
إذا ما رايَةٌ رُفِعَت لِمَجدٍ * تَلَقَّاهـــا عَــرابَــةُ بِاليَميـــنِ
فقولهم: أخذ الشيء بيمينه، أي: بقوة، وليس بالضرورة أن يكون باليد اليمنى.
* {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِين }:
{الْوَتِين }: عرق ممتد من القلب للرأس، وهو الذي يقطع من الذبيحة، فيسيل دمها فتموت، والله سبحانه يقول هذا عن رسوله ومصطفاه، تأكيدًا على رسالته واختياره، وعلى صدقه وأمانته، فإن ربه أسرع له بكل خير، وأعطاه فأجزل، وكتب له الظهور والغلبة والنصر والفتح والعز.
وقد يحدث أن يدَّعي بعض الناس النبوة، ثم يمهلهم الله تعالى إلى أوان عقابهم، أو يعذِّبهم على يدي بعض أوليائه، كما حصل لمُسيلمة الكذَّاب والأسود العَنْسي، وأدعياء النبوة عبر التاريخ إلى زماننا هذا كثير، ولكن الله يفضحهم حتى لا يكادون يُعرفون، ولا يوجد لهم أتباع ولا شرائع، ولا تقوم لهم قائمة.
* {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِين }:
فلو فُرض أن تقوَّل على الله بعض الأقاويل؛ لفعل الله به هذا، ثم لا أحدٌ يحول بين الله تعالى وبينه أو يحميه أو يحجزه، وهذه من أعظم دلائل النبوة، وقرآنية القرآن.
ومَن يريدون المجد والسؤدد وثناء الناس ينسبون الأشياء لأنفسهم، وقد يُخمِلون ذكر مَن أخذوا عنه؛ لئلا ينافسهم، أما أن يعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ليس سوى مبلِّغ وناقل، وأنه ليس له من الأمر شيء، وأنه لا يدري ما يُفعل به ولا بهم، وأنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله، فإنها النبوة تتجلَّى في صدقها ووضوحها ونصاعتها، والحمد لله رب العالمين.
* {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِين }:
فحين أعرضتم عنه أنتم، ولم تتَّعظوا به وتتَّبعوه، فسوف يقيِّض الله له مَن هم جديرون بهذا الوصف من الأخيار الذين ربما ازدريتموهم واحتقرتموهم، ولكن الله فضَّلهم عليكم بتقواهم وصلاح قلوبهم.
* {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِين }:
أي: أرسلنا هذا الرسول، وأنزلنا هذا القرآن، ونحن نعلم أن منكم مَن لن ينتفع بهذا الوحي، ولكن: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيم } [الأنفال: 42].
* {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِين }:
الحَسْرة: ما يتحسَّر عليه الإنسان بعد فوات الأوان، مأخوذة من: الحَسْر، فتقول: فلان حَسَر عن ثوبه، إذا رفع ثوبه قليلًا، أو حَسَر رداءه، فهنا قال: «حَسْرة»؛ لأنهم يظهرون الألم بعد فوات الأوان:
نَدِمَ البُغاةُ ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ * والبَغيُ مَرْتَعُ مُبتغيه وَخِيمُ
فهذا الكتاب المبين حَسْرة على الكفار في الدنيا؛ لأنهم لا يستطيعون أن يقاوموا حجته، ولا أن يردُّوه، وحَسْرة عليهم؛ لأن الله تعالى يكتب لأهله النصر والقوة والتمكين، رغم أنوف الكائدين، ثم هو حَسْرة عليهم في الآخرة؛ لأن الحجة قامت به عليهم.
* {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِين }:
وحقُّ اليقين: هو: العلم الصادق القاطع الذي لا شك فيه، وهو المقطوع به شرعًا بلا تردد ولا جدال، والمقصود: الوحي والقرآن.
أما عين اليقين فهي: المعاينة ورؤية الشيء الموعود حين يرى أهل الجنة الجنة وأهل النار النار عيانًا كفاحًا مواجهة.
* {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم }:
أي: سبِّحه بأسمائه الحسنى، ونزِّهه عما يقول الكافرون والظالمون، ووحِّده إذ جحده المشركون، واعترف بعظمته إذا نسبوا إليه الأنداد أو الصاحبة أو الأولاد.
ولمَّا نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم». أي: قولوها في الركوع، تسبيحًا له وتنزيهًا، وإقرارًا بعظمته ومجده سبحانه، ولمَّا نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } قال: «اجعلوها في سجودكم».
والركوع هو تحية الملوك والأكابر في الجاهلية، فيناسبه أن تقول: «سبحان ربي العظيم»، والسجود خضوع يذل فيه الإنسان جبهته لله سبحانه وتعالى، فناسب أن يقول: «سبحان ربي الأعلى»، فيناجي الأعلى فوق عرشه بالاعتراف له، والإيمان به، فيا أيها المؤمن الكريم، سبِّح باسم ربك العظيم تسبيح الحامد المؤمن المنتظر لثوابه الخائف من عقابه.
 
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022