من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:
(سورة الممتحنة)
الحلقة الثالثة والثلاثون
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
ربيع الآخر 1442 هــ/ ديسمبر 2020
{رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير }، وكأن هذا من تمام قول إبراهيم عليه السلام والذين معه أنهم أعلنوا توكلهم على الله وإنابتهم، أي: رجوعهم إليه، وأن إليه المصير.
* {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم }:
واستمروا في دعائهم فقالوا: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا }، دعوا ربهم أَلَّا يجعلهم فتنة للكافرين، ومعنى الفتنة يحتمل وجوهًا:
الأول: أن يتسلطوا عليهم فيفتنوهم عن دينهم.
الثاني: أن يقع عليهم عقوبة من الله أو عقوبة بأيدي الكافرين، فيكون في ذلك فتنة للذين كفروا؛ أن لو كان هؤلاء على خير ودين، وكان الله راضيًا عنهم ما أوقع فيهم هذه المصيبة، ولَمَا سَلَّطَ عليهم الأعداء.
* {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد}:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } لتعزيز جانب التأسِّي بالأنبياء عليهم السلام والصالحين، {لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ }، وفيه إلماح إلى أن المرء لو فاته عَرَض من الدنيا أو لحقه شيء من الأذى بسبب صدق ولائه، فالعوض عند الله، وعليه أن يكون رجاؤه في الله وفي ثواب الآخرة، وما عند الله خير وأبقى.
ويحذِّر أن يتكرر ما حصل من حاطب رضي الله عنه، فيقول: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد}.
والتولِّي يحتمل معنيين:
1- أن مَن يعرض عن الله وعن وعده ووعيده ووعظه ويكرِّر الخطأ الذي صدر منه؛ فإن الله تعالى هو الغني عنه، الحميد للطائعين.
2- أن يكون المعنى: مَن يقع منه التولِّي للكافرين والإفشاء إليهم بالأسرار، فهذا معرَّض للعقوبة.
وفيما تقدم درس في وجوب البراءة من أعداء الإسلام، وممن يحاربون الله ورسوله، وفيه وجوب وضع الخطأ في نصابه، وأَلَّا يبخس المخطئ حقه، فلا يتهاون به، ولا يجار عليه.
وفيه بيان طريقة التعامل مع المخطئين في المجتمع، فمن الخطأ أن يُلاحق الناس بالعيب أو العار، أو التعيير في المواقع والمجامع والمجالس، والتحذير من التشهير والتذكير بالخطأ- ولو بعد سنوات- فمن المروءة والأخلاق والشهامة والدين أن يوقف الأمر عند حَدٍّ معين، وأن يَكُفَّ الناس ألسنتهم عن الوقيعة والقيل والقال والشتيمة ونقل الحديث والشماتة، وقد يكون بعض الذين يعيِّرون ويشمتون يقعون في مثل هذه الأخطاء أو ما هو شرٌّ منها.
* {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم }:
تأمل لطفه سبحانه في قوله: {عَسَى}، و{عَسَى} من الله واجبة، وفي ظاهرها الاحتمال القريب أن يجعل الله بينكم أيها المؤمنون وبين الذين عاديتم، ونهاكم الله عن ولايتهم بالباطل، أن يجعل بينكم مودة بالحقِّ سببها الإسلام، وفي هذا دعوة إلى أَلَّا يُفرِّط الإنسان ويبالغ في العداوة، كما قال علي رضي الله عنه: «أبغض بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما». ولعل عليًّا رضي الله عنه أخذ هذا المعنى من هذه الآية الكريمة.
{وَاللَّهُ قَدِيرٌ} على ذلك، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم} لهم إذا تابوا وأنابوا، وغفور رحيم لكم أيضًا فيما صدر منكم ثم تبتم منه.
* {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين}:
هذه الآية توضِّح الفرق بين المحاربين وغيرهم، وأن الولاء المنهي عنه في الآية يُقصد به المحاربون المعادون لكم، وتوضِّح أيضًا الفرق بين المعاملة الحسنة الطيبة، وبين الموالاة الممنوعة، فالله تعالى لا ينهى المسلمين عن الإحسان والبِرِّ والقسط للقبائل التي تميل للمسلمين، ولا تحاربهم ولا تظاهر عليهم، مثل: خُزاعة ومُزَيْنة وأسْلَم وجُهَيْنة وغِفَار الذين كانوا مشركين؛ لكن كان هواهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا يحبون أن ينتصر على قريش، فهؤلاء لا ينهاكم الله عنهم.
وفي هذا درس لمَن يجعلون الكفار في ميزان واحد في التعامل، وهم ليسوا كذلك، فمنهم المعتدي المبارز بالعداوة والصدِّ عن سبيل الله، ومنهم المسالم المحايد، ومنهم المدافع عن حقوق المستضعفين من المسلمين.
وفي العصر الحاضر منهم مَن يكون متعاطفًا مع قضايا العروبة والإسلام، وقد يكون في سُدَّة الحكم والسياسة، أو في ميدان الإعلام، أو في مجال الفكر والثقافة، ويتحمل العناء بسبب وضوح آرائه ومدافعته عن الحق، وقد يُحرم من كثير من الميزات التي يتمتع بها غيره، فمثل هؤلاء يجب أن يُحتفى بهم، وتمدُّ معهم الجسور، ويُدعوا إلى المواسم والمناسبات المختلفة، ويُشجَّع غيرهم على أن يحذوا حذوهم.
وقد جعل الله تعالى في الزكاة سهمًا للمؤلَّفة قلوبهم، ممن يُطمع في إسلامهم، أو إسلام مَن خلفهم.
على أنه ليس المال فقط هو الذي تؤلَّف به قلوب الناس؛ بل الخُلُق الحسن، والكلام الطيب، والصبر، وحسن المعاملة، والحفاوة والتقدير.
وقد أورد المفسرون في هذا الشأن قصة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، إذ جاءتها أمها بالمدينة وكانت مشركة، فسألت أسماءُ رضي الله عنها النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وقالت له: إن أمي قدمتْ وهي راغبةٌ، أفأصلها؟ قال: «نعم، صِلِي أُمَّك». فأمرها بالصلة وحسن المعاملة.
وكذلك الآباء، كما في قوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
وكذلك الزوجة، فإن للمسلم أن يتزوج كتابيَّة، كما قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} [المائدة: 5]، مع ما يقع بين الزوجين من المودة والرحمة، كما قال تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، وكما في قصة أبي طالب الذي أحبه النبي صلى الله عليه وسلم، وحزن على موته، فأنزل الله تعالى قوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، ففرَّق الله بين الطائفتين، وشرَّع لغير المحاربين أمرين:
1- البِر؛ وهو: الإحسان إليهم بالقول وبالفعل.
2- القِسْط، وهو: العدل.
وفي الآية حثٌ عليهما؛ لقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين}؛ ولهذا قال العلماء: إن العدل قيمة مطلقة، ليس فيها استثناء، حتى مع الأعداء، فالعدل واجب في كل الأحوال.
ولذا قال سبحانه: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].
* {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون}:
فمَن وُجدت فيهم هذه الخصال الثلاث أو بعضها؛ بأن قاتلوكم في الدين، أو أخرجوكم من دياركم، أو ظاهروا على إخراجكم، فواحدة من هذه الجرائم تكفي لأن يكونوا محل النفي والعداوة، وتحريم البِرِّ والتولِّي، {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون}.
وادَّعى بعضهم أن الآية منسوخة، والصحيح أنه ليس فيها نسخ، وأنكر الطبري وعامة المفسرين دعوى النسخ؛ لأن الآية متأخرة النزول، نزلت في السنة الثامنة من الهجرة أو قريبًا من ذلك، ولم يأت بعدها ما ينسخها، بل هي توضيح لما قبلها من الآيات.
* {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم}:
سبب هذا السياق أنه بعد صلح الحُدَيْبِيَة الذي جرى فيه الصلح على هدنة بين المسلمين والكفار عشر سنين، ظهرت ظواهر جديدة، منها: أن بعض المسلمات من مكة هاجرن فرارًا بدينهن إلى المدينة، ووقع بسبب ذلك إشكال لمعارضته لشرط من شروط الصلح؛ وهو أن مَن يأتي إلى المسلمين فيجب رده إلى الكفار، فنزلت هذه الآيات جوابًا عن هذا الإشكال، وبيَّنت أن النساء لا تُرَد، ولكن تمتحن؛ بأن تُقسم أنها ما خرجت من مكة عشقًا لرجل، ولا كرهًا لرجل، ولا طلبًا لدنيا، وإنما خرجت إيمانًا بالله ورسوله، فإذا حلفت على ذلك صُدِّقت، وإذا دلَّت قرائن الحال على صدقها حتى بدون حلف قُبل منها ذلك ولم تُرجع إلى مكة.
وفي قوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} إشارة إلى أنه ليس لكم إلا الظاهر، {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} بما ظهر لكم من قرائن ودلائل وبينات،{فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} الوثنيين بمكة، {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ}، فالمسلمة لا تحلُّ للمشرك الوثني، {وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} تأكيد للمعنى، مثل قول: «لست منك، ولست مني». فأمرهم أَلَّا يعيدوهن إلى أزواجهن الكفار.
وهل هذا نسخ للعهد الذي بينهم وبين المشركين؟ هذا احتمال، والأقرب- والله أعلم- أن النساء لم يدخلن أصلًا في منطوق الشرط الذي تضمَّنه صلح الحُدَيْبِيَة، فإن ظاهره كان قاصرًا على الرجال ممن تتقوَّى به الشَّوْكة، وربما لم يكن هذا مفطونًا له عند قريش؛ ولذلك كان العقد مبهمًا، ولم تكن النساء داخلة فيه بشكل صريح، وتفسيره محل اختلاف، والله تعالى بيَّن أن المرأة لا مدخل لها في عقد الصلح المبرم.
{وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا}، وهذا من مقتضى الأمانة والعدل؛ أن المرأة المسلمة التي هاجرت يُعطَى زوجها المهر الذي أنفقه على زوجته.
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}: لا بأس عليكم أيها المسلمون أن يتزوج أحدكم بامرأة من هؤلاء المهاجرات بعدما تخرج من عدتها؛ لأنها لم تعد حِلًّا لزوجها الأول، فلكم أن تنكحوهن {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، وفيه إشارة إلى أن المال الذي أُعطي لزوجها مقابل ما أنفق لا يعني أن تُنكح بدون مهر، وإنما هذا تعويض لزوجها الكافر في مكة، وتُعطَى هي مهرًا لنفسها مقابل علاقة الزوجية الجديدة.
{وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}: فالزوجات الكافرات المشركات اللاتي هاجر أزواجهن وبقين على دينهن بمكة ليس لكم أن تستمروا على نكاحهن.
{وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ} أي: لكم أن تشترطوا على مشركي مكة أن تأخذوا منهم ما أنفقتم على أزواجكم المشركات اللاتي بقين عندهم من باب المعاملة بالمثل.
{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أي: بحكم العدل بينكم وبينهم،{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم}.
* {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُون}:
فما فاتكم وخسرتموه من نسائكم المقيمات بمكة واللاتي ذهبن إلى الكفار، فمن باب المعاقبة والمعاملة بالمثل، فالحكم هو {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا} أي: المسلم الذي ذهبت زوجته عليه وبقيت في مكة أعطوه مثل ما أنفق أيضًا {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُون}.
* {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم}:
وهذه هي البيعة التي كان يأخذها النبيُّ صلى الله عليه وسلم على المؤمنات، والمعنى: إذا جئن مهاجرات يُبَايِعْنَكَ، والبيعة هي: العقد، وقد تُطلق على صفقة اليد، وتكون في الأمر العام، وتكون على الإسلام.
وقد بايع النبيُّ صلى الله عليه وسلم النساء في مكة فيما بعد على مثل هذه البيعة، وكانت معهم هند بنت عُتبة زوجة أبي سفيان رضي الله عنهما، فلما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: {عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} اعترفت بذلك وآمنت به وبالوحدانية، وكذلك النساء بايعنه على ذلك.
{وَلاَ يَسْرِقْنَ}: فقالت هند: يا رسولَ الله، إن أبا سفيانَ رجلٌ شَحيحٌ- وزوجها موجود- لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بَنِيَّ، إِلَّا ما أخذتُ من ماله بغير علمه، فهل عليَّ في ذلك من جناح؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «خُذِي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بَنِيك».
{وَلاَ يَزْنِينَ}: ولما قرأ هذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قالت هند: يا رسولَ الله، وهل تزني الحرة؟ لأن الزنى في العرب كان في الجواري دون الحرائر غالبًا.
{وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ}: وهنا قالت هند: ربيَّناهم صغارًا، وقتلتموهم كبارًا، وأنتم أعلم بهم. فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يغضب لقولها، وهذا من سعة حلمه صلى الله عليه وسلم.
{وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ}: والبهتان معروف، وهو: أشدُّ الكذب، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن كان فيه ما تقولُ فقد اغتبْتَهُ، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّهُ».
والظاهر أن المقصود بالبهتان هنا معنًى خاص، وقد قرأتُ بعض ما كتبه علماء التفسير، وترجَّح لي أن المقصود هنا ليس مجرد كلام يُختلق، وإن كان كثير من المفسرين قالوا: كل الكلام المختلق والكذب والإفك داخل في هذا.
ولا مانع من إرادة هذا المعنى؛ لكن يتأكد النفي والنهي عن بهتان خاص؛ وهو أن تُدخل المرأة على زوجها مَن ليس من ولده؛ بأن تحمل من غيره، أو أنها لا تحمل فتدَّعي أنها حملت وولدت، فتنسب ولد غيرها إليها وإلى زوجها.
{وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} أي: فيما أمرتهن به من ألوان المعروف، بما في ذلك فعل الطاعات وترك المعاصي.
ومن هنا أخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليهنَّ أَلَّا يَنُحْنَ.
ومن الطريف أن أم عطية رضي الله عنها لما أخذ عليها ذلك قالت: يا رسولَ الله، أَسْعَدَتْني فلانةُ، فأريد أن أَجْزِيها. فما قال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، فانطلقتْ ورجعتْ فبايعها.
هذا أيضًا يدل على السماحة، وعلى الطيبة، وعلى الخلق العظيم، وكما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «استقيمُوا، ولن تُحْصُوا». وفيه أن شدة التدقيق كثيرًا ما تضر ولا تنفع، والسماحة كلها خير وبركة.
{فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ}: والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كان يبايعهن كلامًا، وما مسَّت يدُه يدَ امرأة قطُّ، وكان يقول: «إني لا أصافحُ النساءَ، إنما قولي لمئة امرأةٍ كقولي لامرأةٍ واحدةٍ».
* {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُور}:
ختم السورة- كما هو المعتاد في سياقات القرآن- بما ابتدأت به، وهو موضوع التَّوَلِّي والولاية، وتأكيد النهي عن تولِّي هؤلاء القوم.
فيحتمل أن المقصود: اليهود؛ لكثرة وصفهم بأن الله غضب عليهم، كما في قوله: {مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60]، فيكون المعنى: لا تتولَّوْا هؤلاء اليهود الذين هم وإن كانوا أهل كتاب ويؤمنون بالآخرة، إلا أنهم يئسوا منها ومن الفوز بها.
{كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُور} أي: كما يئس الوثنيون المشركون من البعث.
أو يكون المعنى: كما يئس الكفار المقبورون الأموات الذين شاهدوا وعاينوا وعرفوا أنه لا حظَّ لهم.
أو يكون المعنى أعم من ذلك، {لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} يشمل التأكيد على عدم تولِّي الكافرين والوثنيين المشركين، ويكون معنى يأسهم من الآخرة: أنهم لا يؤمنون بها، أو أن الله تعالى أيأسهم منها، فلا حظَّ لهم فيها، {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُور} أي: من الأموات المقبورين.
فرجع أمر السورة إلى تأكيد معنى الولاية بين المؤمنين، وتحريم موالاة الكفار المحاربين، ووجوب التعامل بالخُلق الحسن والعدل والإنصاف، وذكر حكم النساء القادمات إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، والإشارة إلى شروط بيعة النساء، والله أعلم.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي: