الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

وقعت امرأة العزيز بحب يوسف عليه السلام، واشتد لهيب عشقها لما شب وكبر، وبلغ مبلغ الرجال، فجعلت تلمح له بذلك، فتتزين له وتتهيأ، فلم يلتفت إليها ولم يعطها بالا، فقررت أن تصرح له بذلك، فتأمره بالفاحشة أمر السيدة لعبدها وعليه أن ينصاع لأمرها ويذعن، قال الله تعالى: ﴿وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون﴾ [يوسف: 23]، فصرف الله سبحانه وتعالى عن نبيه السوء والفحشاء بإخلاصه، حيث قال: ﴿كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين﴾ [يوسف: 24].

بين الله تعالى الحكمة من جعل يوسف يرى برهان ربه وسياق الكلام بما فيه من التشبيه في الحالة في قوله: "كذلك" يدل على أن ما قبلها قد صرف عنه السوء فيه بإيجاد البرهان فيكون المعنى مثلما حفظناه من الهم بالسوء، كذلك نصرف عنه السوء، فالمصروف هو السوء والفحشاء، وهذا يعني أنه عليه السلام لم يتوجه إلى السوء ليصرف عنه وإلا قيل: كذلك لنصرفه عن السوء.

وإذا كانت مادة الصرف تدل على رجع الشيء، فإن ذلك يدل على وجود مصدر للسوء هنا، وهو المرأة، ولكن الله رد كيدها عليها ولم تؤثر في يوسف بمكرها. (جماليات النظم القرآني، ص 37).

  • ﴿السوء والفحشاء﴾: والسوء: الضر، من ساءه سوءا، مصدر بفتح السين. وأما السوء بضم السين فاسم للمصدر. الفحشاء: اسم مشتق من فحش إذا تجاوز الحد المعروف في فعله أو قوله واختص في كلام العرب بما تجاوز حد الآداب وعظم إنكاره، لأن وساوس النفس تؤول إلى مضرة كشرب الخمر والقتل المقتضي للثأر، أو سوأة أو عار كالزنى والكذب، فالعطف هنا عطف لمتغايرين بالمفهوم والذات، لا محالة بشهادة اللغة وإن كانا متحدين في الحكم الشرعي لدخول كليهما تحت وصف الحرام أو الكبيرة، وأما تصادفهما معا في بعض الذنوب كالسرقة فلا التفات إليه كسائر الكليات المتصادفة. (جماليات النظم القرآني، ص 27).

الله صرف عن يوسف الفحشاء، لأنه من عباده المخلصين له في عبادتهم الذين أخلصهم الله واختارهم، واختصهم لنفسه وأسدى عليهم من النعم وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه

وقال الإمام اليمني عبد الرحمن المعلمي رحمه الله (1313-1386ه‍): والسوء: كل ما يغم الإنسان من الأمور الدنيوية ومن الأحوال النفسية والبدنية والخارجية، من فوات مال، وفقد حميم، وفعل قبيح، وهو في قوله تعالى: ﴿إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين﴾ [النحل: 27] بمعنى الغم، وفي قوله: ﴿من يعمل سوءا يجز به﴾ [النساء: 123]، بمعنى القبيح.

فالسوء كل عمل قبيح يسوء فاعله إذا كان عاقلا سليم الفطرة كريم النفس، أو يسوء الناس. والفحشاء: هي الفحش والفاحشة، ألفاظ ثلاثة معناها واحد، وهو كل ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال، فإذا تقرر هذا فحاصل المعنى لنصرف عنه ما يهمه ويحزنه، وكل أمر قبيح وكل ما يتجاوز الحد في القبح. ولنصرف عنه الصغيرة والكبيرة، أو لنصرف عنه الكبيرة والكبرى، من المعاصي، أو لعله أراد لنصرف عنه ما يسوؤه وهو خيانته لسيده. والفحشاء، وهو: قتله لسيدته. أو السوء ما لا حد فيه، وهو قتله لسيدته دفاعا عن عرضه، والفحشاء ما فيه حد وهو الزنى، أو نصرف عنه السوء، وهو: مقدمات الفاحشة من التقبيل، والضم، ونحو ذلك.

والفحشاء، وهي: الزنى أو القتل، أو السوء، وهو: الزنى، والفحشاء هي القتل، وهذا الأخير هو الأقرب عندنا بدليل قوله تعالى: ﴿قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا﴾ [يوسف: 25] أي: زنى. ﴿ما علمنا عليه من سوء﴾ [يوسف: 51] أي: الزنى، فكلمة سوء في هذه الآيات الثلاثة في هذه السورة مستعمله في الزنى، فليكن لفظ: (السوء) في قوله: ﴿لنصرف عنه السوء﴾ [يوسف: 24] مرادا منه الزنى، وإذا ثبت هذا فالفحشاء هي القتل الذي كان حاوله يوسف، ثم رأى غيره أحسن منه وهو الفرار، ومع كل هذا فنحن لا نمنع أن يسمى كلا فعلي الزنى والقتل سوءا أو فاحشة. (مؤتمر تفسير سورة يوسف، 1/517).

  • ﴿إنه من عبادنا المخلصين﴾: اختلف القراء في قراءة ذلك فقرأته المدينة والكوفة (إنه من عبادنا المخلصين) بفتح اللام من "المخلصين"، وذلك بتأويل: ‌إن ‌يوسف ‌من ‌عبادنا ‌الذين أخلصناهم لأنفسنا، واخترناهم لنبوتنا ورسالتنا وقرأ بعض قرأته مدينة البصرة: "إنه من عبادنا المخلصين" بكسر اللام، بمعنى أن يوسف من عبادنا الذين أخلصوا توحيدنا وعبادتنا، فلم يشركوا بنا شيئا، ولم يعبدوا شيئا غيرنا وهما متفقتا المعنى. وذلك أن من ‌أخلصه ‌الله ‌لنفسه فاختاره، فهو مخلص لله التوحيد والعبادة، ومن أخلص توحيد الله وعبادته فلم يشرك بالله شيئا، فهو ممن أخلصه الله. (جامع البيان، 16/50).

وإن الجامع لذلك كله أن الله صرف عنه الفحشاء، لأنه من عباده المخلصين له في عبادتهم الذين أخلصهم الله واختارهم، واختصهم لنفسه وأسدى عليهم من النعم وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه. (الإخلاص في القرآن الكريم، ص 310).

قال السعدي: ‌إن ‌من ‌دخل ‌الإيمان قلبه، وكان مخلصا لله في جميع أموره فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه، وصدق إخلاصه من أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ما هو جزاء لإيمانه وإخلاصه

وهذا التعليل في قوله: ﴿إنه من عبادنا المخلصين﴾، فيه ترغيب في الإخلاص وحث عليه ودعوة للإنصاف به وإغراء للدخول في ركب المخلصين لينجو بإذن الله من السوء والفحشاء ويصرف عن الحرام، ويخلص من الفتنة. ولهذا كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله. (الإخلاص في القرآن الكريم، ص 311).

فالذي منعه من الانسياق وراء هذا الإغراء والمراودة خوف الله تعالى الناشئ عن الإخلاص لله تعالى، فخلصه الله من هذه الفتنة التي هي أضر فتنة على الرجال.

وقال السعدي: ‌إن ‌من ‌دخل ‌الإيمان قلبه، وكان مخلصا لله في جميع أموره فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه، وصدق إخلاصه من أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ما هو جزاء لإيمانه وإخلاصه لقوله: ﴿وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين﴾، فما أعظم الإخلاص في الخلاص من الفتن. (الإخلاص في القرآن الكريم، ص 311).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما يوسف فإن الله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الفحشاء بإخلاصه لله، فقد علل صرف السوء والفحشاء بأنه من عباد الله المخلصين، وهؤلاء هم الذين قال فيهم: ﴿إن عبادي ليس لك عليهم سلطان﴾ [الحجر: 42]، فمن كان مخلصا لله حق الإخلاص لم يزن وإنما يزني لخلوه من ذلك، وهذا هو الإيمان الذي ينزع منه، لم ينزع منه نفس التصديق". (تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية، 4/34).

إن الإخلاص يمنع من تسليط الشيطان على العبد، فقد استثناهم الله من إغوائه في قوله: ﴿إلا عبادك منهم المخلصين﴾ [الحجر: 40]، وفي هذا دليل ظاهر على أثر الإخلاص لله تعالى.

والإخلاص أن يفعل المكلف الطاعة خالصة لله وحده لا يريد بها تعظيما من الناس ولا توقيرا، ولا جلب نفع ديني ولا دفع ضرر دنيوي. قال سهل بن عبد الله التستري: "الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خالصة. وقد جاءت هذه الشهادة: ﴿إنه من عبادنا المخلصين﴾ قبل الاستباق نحو الباب ومواجهة العزيز لتؤسس في النفوس براءته من أي شيء نسب إليه". (الإخلاص في القرآن الكريم، ص 312)

 

  • ملاحظة: استفاد المقال مادته من كتاب: "النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام"، للدكتور علي محمد الصلابي.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022