الخميس

1446-03-16

|

2024-9-19

(من صفات ابراهيم عليه السلام وفضائله)

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 292

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

1 ذي القعدة 1444ه/ 21 مايو 2023م


1. الرجل الأُمَّة:
الأًمَّة: هي الجماعة التي يجمعها أمر ما: إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد، والرجل الجامع لخصال الخير يوصف بأنه أمَّة.(1)
ومن هنا وصف الله تبارك الله تعالى خليله عليه السلام فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} ]النحل:120[، قائماً مقام جماعة في عبادة الله، نحو قولهم: فلان في نفسه قبيلة، ورُوي عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم: أنَّ الأُمَّة هو الذي يعلم الناس الخير والدين، ورُوي: أنه كان وحده مؤمناً والناس كلهم عند أوّل مبعثه كانوا كفاراً.(2)
ولا يمتنع أن تكون هذه المعاني كلها داخلة في هذا اللفظ لتدل على علوّ مقام إبراهيم عليه السلام وفضله عند الله وبين الناس.(3)
2. الوفاء:
أثنى الله تبارك وتعالى على خليله إبراهيم، وذكر تحلّيه بخصلة الوفاء، فقال: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} ]النجم:37[؛ فهو قد بذل جهده، واستنفد طاقته في تبليغ رسالة ربه وفي طاعة خالقه، وأداء ما أمره بأدائه وما ابتلاه به.(4)
3. الإخلاص:
قال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)} ]ص:45-47[.
- {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا} الذين أخلصوا لنا العبادة ذكراً حسناً.
- {إبْرَاهِيمَ} الخليل.
- {وَإِسْحَاقَ} ابنه {وَيَعْقُوبَ} ابن ابنه.
- {أُولِي الْأَيْدِي} أي: القوّة على عبادة الله تعالى.
- {وَالْأَبْصَارِ} أي: البصيرة في دين الله فوصفهم بالعلم النافع والعمل الصالح.
- {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} عظيمة وخصيصة جسيمة وهي {ذِكْرَى الدَّارِ}: جعلنا ذكرى الدار الآخرة في قلوبهم والعمل لها صفوة وقتهم والإخلاص والمراقبة لله ووصفهم الدائم، وجعلناهم ذكرى الدار، يتذكر أحوالهم المتذكر ويَعتبر بهم المعتبر ويذكرون بأحسن الذكر.(5)
4. الفطانة:
حدة العقل وذكاؤه، المراد التفطن والتيقظ لإلزام الخصوم وإحجاجهم وإبطال دعاويهم الباطلة، والتفطن والذكاء إدراك الأمور الدقيقة، وهو أخصُّ من الفهم .(6)
وهي من أبرز أخلاق إبراهيم - عليه السّلام - التي منحها إياها الله عزّ وجل، فقد استطاع بفطنته النيّرة وذكائه المفرط أن يفحم أعداءه ويقيم عليهم الحجة والبرهان الدامغين على بطلان معبوداتهم وضلال معتقداتهم، بحيث عجزوا عن مناظرته ومجادلته، وعدلوا إلى مغالبته بقوة البأس شأن من أقام عليهم الحجج، فيعدلون إلى القوة، ولكن ما لبثوا أن خيبهم الله وأذلهم من حيث أرادوا من القوة والبطش، وقد قصّ الله في كتابه الكريم من أخبار مجادلته وقومه ما يشهد ببالغ فطنته وفرط ذكائه، ومن ذلك مناظرته لقومه في شأن معبوداتهم من الكواكب حيث استطاع أن يقيم الحجة الدامغة عليهم في بطلان ألوهيتها بما لم يدع شكاً للمنصف العاقل،(7) كما مرّ معنا وكذلك في مسيرته ودعوته لعبدة الأصنام والملك الجبار وغير ذلك كثير.
5. العِلم:
كما أن من صفات إبراهيم عليه السلام أنه يرى الأمور على حقيقتها بالعلم قبل فوات الأوان، يرى الشرّ من بعد، قبل أن يراه الناس، فهذه الرؤية الصحيحة الواضحة عند إبراهيم عليه السلام من معالم شخصيته، فيحسب للأمور حسابها، وهذا من باب فراسة المؤمن وفهمه للواقع وفق السنن والقوانين التي علمه الله إياها، فقد وصل منتهى العلم الإنساني في علوم العقائد والتوحيد وأسماء الله وصفاته وأفعاله وقضائه وقدره وتاريخ الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه، وعلوم الأخلاق، وعلم النفس وأمراض القلوب وعلاجها، وعلم العبادات من حجّ وصلاة وزكاة.. إلخ.
وكان إبراهيم عليه السلام كثير الدعاء لله بأن يهديه، وأن يرزقه العلم النافع والعمل الصالح، مثل قوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)} ]الشعراء:83-85[؛ فهذا الدعاء بهذا الترتيب لم يأتِ عبثاً، طلب من الله أن يعطيه حكماً أي علماً والنكرة تفيد العموم والتنوين يفيد الكثرة؛ لأن العلم له فوائد عظيمة جداً، ومن فوائده أنه يجعل صاحبه مؤهلاً للانضمام إلى الصالحين، فمن دون علم لا يمكن أن يعمل صالحاً؛ لأن من شروط العمل الصالح الأول، الأول: الإخلاص لله، والشرط الثاني: الصواب وموافقة الشرع، وهذا لا يتم إلا بالعلم.(8 )
وإن ترتيب هذا الدعاء فيه إشارة أنه بالعلم يصبح للإنسان ذكرى طيبة بين الناس، فيذكرون العلم من باب الشكر للعلماء؛ لأنهم أفادوهم ولهذا يكون العلم سبباً في تخليد ذكرى أصحابه، وكذلك العلم يكرم صاحبه بدخول الجنة، ويكون سبباً من أسباب دخول الجنة، وهذا يؤكده حديث صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله به طريقاً إلى الجنة، ولهذا حثّ الله رسوله محمد عليه السلام بأن يدعوه أن يزيده علماً فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} ]طه:114[.(9)
إنَّ إبراهيم - عليه السّلام - زوّده الله بالعلم حتى يتمكن من القيام بواجب الرسالة والدعوة إلى الله، واستحق بعلمه وعمله أن يكون إماماً للناس، ولهذا عندما دعا والده إلى الإسلام قال لأبيه: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} ]مريم:42[، وكذلك أعطاه الرشد مبكراً وأراه ملكوت السماوات والأرض حتى يزداد يقيناً وعلماً، فالعلم قاد إبراهيم - عليه السّلام - إلى كثير من القربات والطاعات، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، ولهذا فإن الأنبياء أكثر الناس معرفة بالله أكثرهم خشية والتزاماً، فهم قدوة للناس وشموس في الدنيا والآخرة.(10)
6. الدعوة إلى الله:
صفة الدعوة إلى الله من ملامح شخصية إبراهيم - عليه السّلام -، حتى أن هذه الصفة هي الغالبة عليه؛ لأن مهمته الرئيسية هي إيصال دعوة الله إلى الناس وإقامة الحجّة عليهم، واستخدم كافة الأساليب المشروعة لتبليغ رسالة الله إلى الناس من الالتزام بالفكرة التي يدعو إليها في شخصه وعائلته وأولاده، والاتصال الشخصي مع المدعوين واستخدام الحوار العقلي والمنطقي والوجداني في إقناع المدعو، وأكثر من الرحلات والهجرات والدعوات الخاشعات من أجل هداية الناس إلى ربهم وتحقيق توحيده وإفراده بالعبادة، وقد بيّنا كل المواقف الدعوية العظيمة التي قام بها إبراهيم عليه السلام في هذا الكتاب.
7. إقامة الحجّة:
إقامة الحجّة من ملامح شخصية إبراهيم - عليه السّلام- حيث أعطاه الله القدرة على إقامتها على الآخرين بالدليل والبرهان، قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} ]الأنعام:83[. ويظهر هذا في جملة مواقف مرّت معنا في هذا الكتاب:
- في حواره مع أبيه لإثبات بطلان عبادة الأصنام.
- في حواره مع قومه لإثبات بطلان عبادة الأصنام وبطلان عبادة الكواكب.
- في حواره مع الملك لإثبات بطلان عبادة الأصنام البشرية.
- في حواره مع قومه بعد تحطيم الأصنام أثناء التحقيق وبعد نجاته من النار.
كل هذا يثبت أن إبراهيم - عليه السّلام - كان عنده هذه الصفة البارزة، والتي تجعله يقنع الآخرين بفكرته بالحجة والمنطق.(11)
وكان إبراهيم - عليه السّلام- يستخدم أنجح الوسائل وأفضل الأساليب في عرض الإسلام والدعوة إليه، فقد ناقش قومه بالمنطق الحواري البرهاني، واستطاع الوصول إلى ما يريده من إقامة الحجة، بأسئلة علمية منطقية لا تحتمل إلا جواباً واحداً يعدُّ من البديهيات اليقينيات التي لا يختلف فيها اثنان.(12)
.
.
مراجع الحلقة الثانية والتسعون بعد المائتين:
(1) مختار الصحاح، الرازي، تحقيق: يوسف الشيخ محمد، المكتبة العصرية والدار النموذجية، بيروت، صيدا، ط5، 1420هـ، 1999م، ص25.
(2) المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص23.
(3) فقه دعوة الأنبياء في القرآن الكريم، أحمد البراء الأميري، ص243.
(4) المرجع نفسه، ص260.
(5) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1499.
(6) حاشية السباعي على شرح الخريدة البهية في العقائد السنية، أبو السعود السباعي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2006م، ١٤٢٧ه، ص214.
(7) فقه دعوة الأنبياء في القرآن الكريم، أحمد البراء الأميري، ص244.
(8) قصة إبراهيم في القرآن الكريم، إسحاق محمد حمدان البدارين، ص167.
(9) سنن الترمذي، رقم (2682)؛ مسند أحمد، رقم (21715).
(10) قصة إبراهيم في القرآن الكريم، إسحاق محمد حمدان البدارين، ص168.
(11) قصة إبراهيم في القرآن الكريم، إسحاق محمد حمدان البدارين، ص169.
(12) المرجع السابق، البدارين، ص171.


يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي
http://www.alsallabi.com/salabibooksOnePage/27


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022