الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

إن الإيمان بكتابة المقادير يدخل فيه خمسة تقادير:

1ـ التقدير الأزلي:

قبل خلق السماوات والأرض عندما خلق الله تعالى القلم، قال تعالى : " قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ  اللّهُ لَنَا" (التوبة: 51). وقال تعالى: " مَا أَصَابَ  مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ  مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا  تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ  لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ" (الحديد: 22، 23). وقال تعالى:" وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ  فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" (النمل: 75). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشُهُ على الماء (1).

2 ـ تقدير يوم الميثاق:

قال تعالى:" وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ" (الأعراف: 172، 173) .

وهو ميثاق الفطرة الأول، وفيه أخذ الله تعالى من ظهر آدم ذريته، وهم كأمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم وقال لهم" أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا" (الأعراف: 172)  فجبلهم على حبه وتوحيده وتعظيمه وأقرهم على ذلك بالقوة فصارت النفوس تقر بخالقها، وتميل إلى توحيده وبقيت تلك الفطرة في قلوبهم حجة عليهم (2).

إن المراد بهذا الاشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد ويؤيد ذلك قوله تعالى: "فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ" (الروم: 30) .

ثم جعلهم بعلمه وحكمته فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير (3). قال صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل خلق آدم ثم أخذ الخلق من ظهره وقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي، قال: فقال قائل: يا رسول الله، فعلى ماذا نعمل؟ قال: على موقع القدر (4).

3 ـ التقدير العمري:

عند تخليق النطفة في الرحم، فيكتب إذ ذاك ذكوريتها وأنوثتها والأجل والعمل، والشقاوة والسعادة وجميع ما هو لاق فلا يزاد فيه ولا ينقص منه (5). قال الله تبارك وتعالى: " يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا " (الحج: 5). وقال تعالى: "وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَاتَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ" (فاطر: 11). وقال تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (غافر: 67) .

وقال تعالى: "إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ" (النجم: 32)  وغيرها من الآيات (6).

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: إن أحدكم يُجْمَعُ خَلْفُهُ في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يُرْسَلُ الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقيٌ أو سعيدٌ، فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها (7)، وفي رواية أخرى: إذا أمر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى، فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب رزقه، فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص (8).

4 ـ التقدير الحولي:

ويكون في ليلة القدر: قال تعالى: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ" (الدخان: 3 ـ 5)  ومعنى يفرق أنه يكتب ويفصل كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم، وجميع أمورهم من هذه الليلة إلى الأخرى من السنة القابلة (9)، فيقضي أمر السنة كلها من معايش الناس ومصائبهم وموتهم وحياتهم إلى مثلها من السنة الأخرى (10).

قال ابن عباس رضي الله عنه: يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحجاج يقال: يحج فلان وفلان (11).

5 ـ التقدير اليومي:

هو سوق المقادير إلى المواقيت التي قدرت لها فيما سبق، قال تعالى: " يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ" (الرحمن: 29) .

روى ابن جرير بسند حسن عن منيب بن عبد الله بن منيب الأزدي عن أبيه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: "كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ" فقلنا: يا رسول الله، وما ذاك الشأن؟ قال صلى الله عليه وسلم: أن يغفر ذنباً، ويفرِّج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين (12).

وقال البغوي في تفسيره "كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ: من شأنه أن يحي ويميت، ويخلق ويرزق، ويُعز قوما ويذل قوماً، ويشفي مريضاً، ويفك عانياً، ويفرج مكروباً، ويجيب داعياً، ويعطي سائلاً، ويغفر ذنبا إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء (13).

قال سبحانه: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (آل عمران: 26). وجملة القول في ذلك أن التقدير اليومي هو تأويل المقدور على العبد وإنفاذه فيه، في الوقت الذي سبق أن يناله فيه، لا يتقدمه ولا يتأخره.

ثم هذا التقدير اليومي تفصيل من تقدير الحولي، والحولي تفصيل من التقدير العمري عند تخليق النطفة، والعمري تفصيل من التخليق العمري الأول يوم الميثاق، وهو تفصيل من التقدير الأزلي الذي خطه القلم في الإمام المبين والإمام المبين هو من علم الله عز وجل، وكذلك منتهى المقادير في آخريتها إلى علم الله (14)، فانتهت الأوائل إلى أوليته وإنتهت الأواخر إلى آخريته "وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى" (النجم: 42) (15).

---------------------------------------------

مراجع الحلقة الثامنة عشر:

([1])  مسلم، رقم 2653.

(2)  القضاء والقدر عند السلف، علي السيد الوصيفي ص 56.

(3)  المصدر نفسه ص  57.

(4)  السلسلة الصحيحة للألباني رقم 48.

(5)  معارج القبول (3 / 934) .

(6)  المصدر نفسه (3 / 935) .

(7)  البخاري في كتاب بدء الخلق رقم 3208.

(8)  مسلم، ك القدر رقم 2645.

(9)  تفسير أبو السعود (8 / 58) .

(10)  القضاء والقدر المحمود ص68.

(11)  تفسير ابن كثير (4 / 140) .

(12)  تفسير ابن كثير (4 / 273) ، صححه الألباني في ظلال الجنة.

(13)  تفسير الخازن والبغوي (6 / 80 ـ 81) .

(14)  معارج القبول (3 / 939) .

(15)  معارج القبول (3 / 940) .

 

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الإيمان بالقدر في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/648

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022