الإرادة الكونية في القرآن الكريم
مختارات من كتاب "الإيمان بالقدر"
لمؤلفه الشيخ الدكتور علي محمد الصلّابي
الحلقة التاسعة عشر
تنقسم الإرادة في كتاب الله إلى إرادة كونية قدرية، وإرادة دينية شرعية.
الإرادة الكونية:
هي المشيئة العامة التي يدخل فيها جميع المخلوقات من بر وفاجر وصالح وطالح، وهي إرادة الله تعالى لفعله، سواء إن كان المفعول منه محبوباً أو غير محبوب، يرضيه أم لا يرضيه، فالله تعالى يفعل ما يشاء، ولا يشاء شيئاً إلا بعد إرادته له، وكل ما كان منه فليس فيه إلا الجمال والجلال والحسن .
أما أفعال العباد فهي منقسمة، ففيها الحسن وفيها القبيح، وليس للعباد أن يفعلوا ما يشاؤون، وإنما يفعلون ما يؤمرون به إمتثالاً وإنتهاءً، وهذا هو الحسن منهم.
وتلك الإرادة متعلقة بالخلق، وهي من لوازم الربوبية، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ويدخل في هذه المشيئة خلق الأقوياء والضعفاء والفقراء والمؤمنين الكفار، والملائكة والشياطين، وخلق الخيرات والفضائل، وخلق السيئات والحسنات، وخلق التوفيق والخذلان، وخلق القوة والعجز، والبلادة والذكاء (1) .
وهذه بعض الآيات تدل على الإرادة الكونية:
قال تعالى: "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ" (الأنعام : 112)، قال تعالى: "وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ" (البقرة : 353)، وقال: "وَلَوْشَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا" (يونس : 39)، وقال تعالى: " وَلَوْشَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ" (النساء : 90)، وقال تعالى: "فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء"(الأنعام : 125)، وقال تعالى: "وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ" (هود : 44)، وقال تعالى: "وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ" (البقرة: 253)، وقال تعالى: "وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَاشَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" (الكهف : 39)، وقال تعالى: "وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا" (السجدة : 13)، وقال تعالى: "وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا" (الإنسان: 30)، وقال تعالى: " مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (الأنعام : 39)، وقال تعالى: " إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (يس: 82) .
وهذه الإرادة وتلك المشيئة هي التي تستلزم وقوع المراد، والمراد إما أن يكون مراد لذاته محبوباً لله تعالى، وذلك لما فيه من الخير، كخلق الأنبياء والصالحين وكذلك كافة الفضائل والخيرات، أو مراداً لغيره وهذا يطلق على الكفر وجميع الشرور والآثام، فإنها ليست مرادة لذاتها وإنما هي مرادة لشيء آخر محبوب إلى الله تعالى.
قال تعالى: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الروم : 41). وهذا دليل على إثبات الحكمة في جميع أفعال الله تعالى وأحكامه (2).
والحق أن جميع أفعاله وشرعه لها حكم وغايات، لأجلها شرع وفعل، وإن لم يعملها الخلق على التفعيل، فلا يلزم من عدم علمهم بها إنتفاؤها في نفسها (3).
وحاصل الإرادة الكونية إثبات مشيئة الله تعالى المطلقة في إيجاد المخلوقات كلها واختلاف أنواعها وأشكالها، وتفاوت فضائلها وشرورها وجمالها ودمامتها وكيسها وعجزها، وكفرها وإيمانها، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فالله على كل شئ قدير، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد، ولا يقع فيه شئ كرهاً عنه، قال تعالى: "وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ" (الزمر: 36 ـ 37) .
فهو الذي أراد إيمان المؤمنين، وهو الذي أراد كفر الكافرين، وكل ذلك في علمه السابق، ولا يمكن لأحد أن يخرج عن علمه، وعلمه يستلزم ثبوت قدرته، وإذا كان قد علم أن أبا لهب سيكفر، فهذا معناه أنه لن يستطيع أن يخرج عن علمه ويؤمن، وهذا دليل أن الله تعالى سيحول بقدرته بينه وبين الإيمان، فلن يقدر عليه، ولن يقدر أبو لهب على خلاف ذلك، قال تعالى: " وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ" (الأنفال : 24) .
وهذا ليس من باب تكليف ما لا يطاق، وإنما هذا من باب العقوبة: وهي نوع من الخذلان لمن زاغ عن صراط الله المستقيم، وأما طاقة الأسباب فهي مقدورة له، ولكن الله تعالى لم يوفقه ولم يقدره على بلوغ غاياتها، فما آمن من آمن إلا بفضل الله تعالى ورحمته، وما كفر من كفر كرهاً عنه إنما كان ذلك بخذلان الله تعالى له: "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا" (يونس: 99) .
وهو سبحانه وتعالى خالق الخير، كما هو خالق الشر، لا إله غيره ولا ربٍ سواه، قال تعالى: "اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ" (الزمر : 22)، وقال تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّافِي الأَرْضِ جَمِيعاً" (البقرة: 29) (4).
وفي الإرادة الكونية قد يبغض الله تعالى طاعة العاصي ولا يعينه عليها بعد الإرشاد والنصح والبيان، وذلك لحكمة عظيمة جليلة، كما قال تعالى في المنافقين الذين تخلفوا مع الخوالف في بيوتهم، وتركوا الخروج للجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم كما في غزوة تبوك: " وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ" (التوبة : 46)، وقد بين الله تعالى الحكمة في بغضه لطاعته فقال: "لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" (التوبة: 47) .
وهو سبحانه: "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ" (الأنبياء : 23)، وذلك لأنه يتصرف في ملكه، وهذا ليس فيه ظلم، إنما الظلم في الحقيقة يكون من تصرف المتصرف فيما لا يملك، ومنع المستحق ما يستحقه، والله تعالى لا يجب عليه شئ لأحد حتى يحاسب على ما ضيق ومنع، وعلى ما أهان وخذل، وإنما هو حكمة بالغة ورحمة واسعة وعدل قويم (5).
---------------------------------------------
مراجع الحلقة التاسعة عشر:
(1) القضاء والقدر عند السلف للوصيفي ص 62.
(2) القضاء والقدر عند السلف ص 63.
(3) المصدر نفسه ص 64.
(4) المصدر نفسه ص 64.
(5) القضاء القدر عند السلف ص 65.