الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

منازعة الأقدار بالأقدار..

مختارات من كتاب "الإيمان بالقدر"

لمؤلفه الشيخ الدكتور علي محمد الصلّابي

الحلقة الخامسة والثلاثون

من الأصول القطعية مباشرة الأسباب، وعلى هذا فإن تركها قدح في الشرع، مما يدحض ادعاءات الجهال والمغرضين، ونزيد هنا فنقول أن صاحب الإيمان بالقدر ينازع القدر بالقدر، بمعنى أن لا يستسلم للقدر مادام له دافع أو رافع أو مانع، فيأخذ من الأسباب ما يحقق ذلك، قال الشيخ عبد القادر الجيلاني: كثير من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، وما قاله هذا الشيخ الجليل العارف بالله حق، ويريد بقوله رحمه الله تعالى أنه يدافع المقدور مادام في مدافعته مجال مستعيناً بالله تعالى مبتغياً وجهه.

وتفصيل ذلك أن المسلم مطالب بأخذ الوقاية من المحذور لئلا يقع ويرفعه ويدفعه إذا وقع.

فمن الأولى أخذ الحمية لئلا يقع المرض والابتعاد عن محل الوباء لئلا يصاب به الإنسان، والتحصن وراء الجدر والحصون في الحروب وقاية من العدو، وليس في هذه الوقاية ومباشرة أسبابها مناقضة للإيمان بالقدر، وإنما أخذ بقدر لمنع قدر، والقدر مادام مجهولاً عندنا وهو محتمل الوقوع فنحن نباشر أسباب عدم وقوعه فإن كان مكتوباً عند الله وقوعه لم يتيسر لنا مباشرة أسباب دفعه، أو تتيسر لنا هذه الأسباب ولكن لا تؤدي إلى نتيجتها لوجود مانع يمنع من افضائها إلى مسببها، والمقصود هنا أن مباشرة الأسباب لمنع وقوع ما يحتمل وقوعه من الأقدار ليس فيه مناقضة للمعنى الصحيح للقدر وإنما هو أخذ بقدر لمنع قدر، لأن السبب والمسبب بقدر الله تعالى جاء في الحديث الشريف : قيل يا رسول الله أرأيت أدوية نتدوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال هي من قدر الله (1).

فإذا كان من قدر الله أن لا يصاب الإنسان بالمرض، قدّر الله له مباشرة ما يدفع به وقوع المرض.

وعندما وصل الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مشارف الشام وعلم بنزول الطاعون فيهم وهمّ بالرجوع قال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: أفرار من قدر الله يا أمير المؤمنين؟.

فقال رضي الله عنه: لو كان غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ونقع في قدر الله، ثم قال عمر رضي الله عنه ما معناه: لو كان عندك غنم أو إبل وأمامك أرض مجدبة وأخرى مخصبة فإذا نزلت بالمجدبة أو المخصبة أو تحولت من المجدبة إلى المخصبة، فكل ذلك بقدر الله (2).

ومن النوع الثاني من منازعة الأقدار بالأقدار مباشرة الاسباب الرافعة للقدر بعد وقوعه كتناول الدواء لرفع المرض، وطرد الأعداء والكفرة من ديار المسلمين بعد تسلطهم بأعداد العدة لذلك ثم قتالهم، ومثاله أيضاً انحباس المطر يرفع بالالتجاء إلى الله والإنابة إليه واستغفاره، كما هو معروف في الفقه في باب صلاة الاستسقاء، وكما دل عليه قوله تعالى حكاية عن نبيه نوح عليه السلام وما قاله لقومه، قال تعالى: " فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا " (نوح : 10 -11) . فالالتجاء إلى الله والإنابة إليه واستغفارة من أهم الأسباب لدفع المكروه ورفعه بعد وقوعه، ومنعه من الوقوع قبل أن يقع، وهذه معاني يفقهها أهل الإيمان، لا أهل الكفر والجهالة والعصيان (3).

---------------------------------------------

مراجع الحلقة الخامسة والثلاثون:

(1) الترمذي (4/ 399) حسن صحيح .

(2) الإيمان بالقضاء والقدر، عبد الكريم زيدان ص 29.

(3) المصدر نفسه ص 30.

 

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الإيمان بالقدر في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/648


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022